وقد لا نبالغ إذا ما قلنا أن وحدة النظام السياسي في "إسرائيل" ليست غير وهم مجرّد. ما بين غوش دان (المنطقة الوسطى الممتدة من نتانيا إلى أسدود) على سبيل المثال وكريات أربع ثمة جدران أكبر وأعلى مما هي عليه بين بين كريات أربع والخليل. هو ليس نظاماً واحداً ووحدته المتخيَّلة لا تظهر إلا بنحو جزئي ومتقطع
عقد من الحرب!
في كتابهما "نظام ليس واحداً" يقدم الكاتبان/ الزوجان الإسرائيليان عدي أوفير وأرئيلا أزولاي مقاربة مختلفة للنظام السياسي الإسرائيلي. "إن نظام الاحتلال ومعه منظومة السيطرة التي يقوم عليها ليسا مشروعاً من خارج بنية النظام العضوي لـ"إسرائيل". لا يمكن قياس الاحتلال الإسرائيلي على نحو برنامج الفضاء الأميركي، ولا حتى شيئاً مشابهاً للاحتلال الأميركي للعراق أو الاحتلال الإنكليزي لجزر الفوكلاند، بل ولا حتى احتلال روسيا للشيشان. فجميع تلك الدول المحتلة وأنظمتها لن تتغير بنحو جوهري لو تنازلت عن مشاريع احتلالها، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لـ"إسرائيل". إن السيطرة على المناطق المحتلة هي الحالة الطبيعية التي تعمل في كنفها أذرع السلطة المختلفة في تل أبيب (الاستيطان عند داني غوتواين كان نقطة التقاء بين صقور البرجوازية الساعية للخصخصة والسكان الأكثر فقراً، إذ بات بإمكان الأخيرين التنعم بقروض ميسرة والهرب من وحشية الخصخصة داخل الخط الأخضر) ، ووفق مقتضيات السيطرة تنتظم أذرع النظام السياسي لـ"إسرائيل" حتى عندما تنشغل بمواضيع أخرى.
ليست المناطق المحتلة في العقل الإسرائيلي "خارجاً" بعيداً يمكن نسيانه دون أن يتسبب بضرر. المناطق المحتلة هي "خارج" يستدخل النظام الإسرائيلي ظل حضورها مسبقاً، ويجب بذل جهد متواصل في الحراسة كي لا تفرض وجودها وتقفز إلى الوعي الإسرائيلي. جدار الفصل مثلاً لا يخلّف الدمار والخراب فحسب (يقتطع الجدار 670 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية شرق الخط الأخضر ويحاصر مئات الآلاف من الفلسطينيين في جيوب معزولة) وإنما يبعدهما عن العين الإسرائيلية أيضاً. جدار الفصل هو آلية استراتيجية لإبعاد وإقصاء وتعرية حركة الفلسطيني بعيداً عن أعين الإسرائيليين. والجدار أيضاً ليس بناءً اسمنتياً فحسب. هو آلية لغوية أيضاً، وتمثلات قانونية، مهمتها إنجاز الإغلاق الذهني على العقل الإسرائيلي في رؤيته للفلسطينيين. المناطق المحتلة ما وراء الجدار هي ما يوضع داخل أقواس ويُنسى ويُنكر. قد يكون ذلك لمنع الجنون جراء سكرة الهوس أو الشعور بالذنب والمسؤولية، يقول عدي أوفير: علينا أن ننكر هذا "الخارج" لكي نشعر أننا طبيعيون، ولكي نتخيل انتماءً إلى مجتمع ديمقراطي، وندير نقاشاً جماهيرياً عقلانياً حول مواضيع مختلفة. علينا أن ننكر هذا "الخارج" على الدوام لكي نعيش بسلام.
لا تعمل علاقات الخارج/ الداخل الإسرائيلية في الحيز الفلسطيني فحسب (مناطق الاحتلال بعد عام 1967)، بل هي تفعل فعلها أيضاً داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. وقد لا نبالغ إذا ما قلنا أن وحدة النظام السياسي في "إسرائيل" ليست غير وهم مجرّد. ما بين غوش دان (المنطقة الوسطى الممتدة من نتانيا إلى أسدود) على سبيل المثال وكريات أربع ثمة جدران أكبر وأعلى مما هي عليه بين بين كريات أربع والخليل. هو ليس نظاماً واحداً ووحدته المتخيَّلة لا تظهر إلا بنحو جزئي ومتقطع. الهرمية التي تسم العلاقة بين السلطات وبين أصحاب الصلاحية في "إسرائيل" ليست واضحة ولا متفق عليها (تتّضح في الحرب، فقط، وفقط عندما تأخذ ماكينة الحرب دورها في ضبط أذرع النظام سعياً لتحقيق الهدف الأصلي من النظام؛ القتل). خذوا مثلاً "الثورة الدستورية" أو "قانون كرامة الإنسان وحريته" الذي أقره الكنيست سنة 1992. لقد جاء ذلك القانون مترافقاً مع سعي حكومة كل من شامير، رابين، بيريز، نتنياهو (حكومته الأولى) وإيهود باراك، على التوالي، إلى الخروج من التناقض الداخلي من خلال انتهاج تكتيك جديد يقوم على الوقتية/ الراهنية. "قانون كرامة الإنسان وحريته" كان متلازماً مع مصطلحي "المناطق المُدارة" أو "المناطق الممسوكة". والمصطلحان دخلا طور الاستعمال الإعلامي – الأكاديمي في "إسرائيل" فترة التسعينيات لجسر الخلاف الأيديولوجي بين اليسار الذي أصر على استخدام قسم من مناطق عام 1967 كورقة تفاوض واليمين الذي رأى فيها مناطق محررة. في "المناطق المدارة" تعليق للمصطلح الدولي "مناطق محتلة". هو لا يقرر شيئاً للمستقبل، ولذلك بات للمصطلحان قدرة على خلق أرضية مشتركة وبرنامج أيديولوجي للتعاون بين المعسكرين السياسيين. بموجب هذين المصطلحين صار الحضور الإسرائيلي في نقاط الاستيطان العشوائية وغير القانونية في الضفة ممكناً، وبات من الممكن ممارسة الإزدواجية والفصامية في تطبيق قانون "كرامة الإنسان وحريته".
غاية الكلام أنه في الوقت الذي حيكت فيه سردية الثورة الدستورية في "إسرائيل" و"قانون كرامة الإنسان وحريته" كإنجاز "للتنويرية الإسرائيلية"، كانت نظم لغوية وقانونية وآليات للسيطرة والقمع الوحشي تعمل عملها كذراع خفية وبشكل مستقل لا عن الفلسطينيين أو المجتمع الدولي فحسب، بل وحتى عن الإسرائيليون أنفسهم (عندما طلبت الإدارة الأميركية من الحكومة الإسرائيلية، في ذروة الانتفاضة الثانية، تقديم تقرير مفصل حول نقاط الاستيطان العشوائية، لم يتوجه رئيس الحكومة إلى وزير الأمن، بل طلب ذلك من تاليا ساسون وهي محامية من القطاع الخاص، والتي لجأت إلى خرائط حركة "السلام الآن" (منظمة مجتمع مدني) لتقدم إلى الحكومة تقريرها في تعمية ممنهجة على دور العمل الحكومي وأذرعه وموازناته السرية التي لا يمكن تقديرها من خلال المصادر المفتوحة). وهذا التعامل الفصامي تحول مع الوقت إلى مميز بنيوي للجهاز الحكومي في "إسرائيل" في إدارته جميع شؤون الحياة العامة.
***
في "إسرائيل" كان ثمة شخص على مستوى من الأهمية الفكرية بالنسبة لليمين اسمه دانيال فريدمان. شغل فريدمان منصب وزير العدل في حكومة أولمرت، واعتُبر المنظّر الفكري لحكومة كاديما الثانية إلى الحد الذي سُمِّيتْ باسمه (كانت تُسمى حكومة فريدمان ـ أولمرت بأحلى الأحوال). فريدمان هذا، هو أول من "أطلق النار" بالمعنى السياسي على المحكمة العليا وفتح باب الجدل القانوني - السياسي على مصراعيه. "هو لا يجري حواراً مع الجهاز القضائي وإنما ينقض عليه مهاجماً" كتب آري شبيط في هارتس (في أكتوبر/ تشرين الأول 2008)، و"هو لا يحاول تقويم اعوجاج الجهاز القضائي وانما يقوم بإضعاف أركانه. حملته الصليبية تهدد بهدم الأسوار التي تحفظ حقوق الانسان وحماية الفرد من طغيان الحكم وجبروت رأس المال". الإشكالية الدستورية – القضائية التي فتحها فريدمان، وتجددت مع وزير السياحة ياريف لفين (بعد مقال كتبه في مجلة الأمة سنة 2018)، عبّرت في صميمها عن تناقض بين رؤيتين حاولتا الإجابة عن سؤال قديم/ جديد في "إسرائيل": من هو اليهودي؟ وما تصورنا لشكل حياته الأخلاقية في هذه البلاد؟
بالنسبة لفريدمان ولفين، كان السكوت عن المحكمة العليا يعني انتقال السلطة من الشعب إلى القُضاة". يذكّر القضاة فريدمان ولفين بعبء الدولة التي يريدون التخفف منها. أصلاً تاريخ اليمين في "إسرائيل" هو تاريخ التخفف من الدولة (تقويض الهستدروت، انهاء نموذج الكيبوتس، خصخصة الاقتصاد). اليمين في "إسرائيل" يفكر باليهودي عار من أي مسبقات دولتية. هو يفكر باليهود كهوية وجماعة قبليّة. وهذه مسألة حاسمة في فهم نظام الاحتلال الإسرائيلي وكيفية استجابته لتحدٍ اسمه "غزة".
قبل أيام، وبعد 7 تشرين الأول 2023، سألني أحد الأصدقاء عن طبيعة استجابة نتنياهو لهذا التحدي؛ كيف سيتعامل نتنياهو مع غزة ووفق أي منطق؟ هل سيتصرف كرجل دولة أو كرجل يسوق جماعة يهودية قبليّة؟. برأيي، هذا السؤال على غاية من الأهمية لتقدير طبيعة الاستجابة التي سيرد بها نتنياهو على التحدي/ الواقع. يخوض نتنياهو حرباً على الدولة بمثل ما خاض "شمارياهو غوتمان" حربه على نظام عمل كيبوتس "عين جالود" في أربعينيات القرن الماضي. كان شمارياهو يتطلع إلى أن يكون الكيبوتس (القرية الزراعية الصهيونية ذات النموذج الإشتراكي) نموذجاً مصغراً عن قلعة مسّادا. مسّادا في التاريخ اليهودي حكاية تورث الفخر (فضّل عشرات اليهود الانتحار في مسّادا على الاستسلام للرومان زمن الاضطهاد). يتطلع اليمين الإسرائيلي لتحويل كل مُستعمرة صهيونية إلى مسّادا من حيث التحصين والإعداد، وخلق المستعمرة الثكنة. التراكم بالعسكرة هو المدخل الطبيعي لليمين من أجل استعادة "إسرائيل – الفكرة". كل ما نعرفه عن "إسرائيل - الدولة" من قبل انتهى. ستتقلص المسافة الفاصلة بين النظام والدولة وستكون "إسرائيل" أكثر وضوحاً في غاياتها وهدفها الأصلي؛ "القتل". والأكيد أن العسكرة لن تقف عند حدود أسوار سقطت صبيحة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولا حتى عند حدود فلسطين التاريخية.
تفيدنا أدبيات علي القادري في نظريته حول "التراكم بالهدر" في فهم الحالة الراهنة في "إسرائيل" ومنطق الرأسمالية المعاصرة المساندة لهذا الكيان. في الرأسمالية المعاصرة ترتبط دائرة إنتاج السلع بإنتاج نمط من الإنسان المستهلك لذاته والمنسلخ عن مصيره. العسكرة في التصور الرأسمالي، كالهدر الصافي، تحقّق جوهر قانون القيمة. والإنسان في هذه المنظومة مخيَّر بين أن يموت من هدر طاقته وقوته في ورش التصنيع أو الموت في أرض المعركة (بقصف أميركي مثلاً). لقد استفادت الرأسمالية من الشعوب العربية كمدخل ومخرج في عملية التراكم الهدرية، واستطاعت باستهلاك حياة شعوبنا أن تزيد من فائض الأرباح والريع الإمبريالي. وحدها الحرب الشعبية سبيلنا للبقاء، ووحدها القادرة على تخليص الزمن من ماكينة الهدر الإمبريالية. سيعيد عبور الإخوة في فلسطين صبح السابع من تشرين الأول 2023 المعنى لحياة الإنسان العربي. وحدها هذه الحرب، ستعيد ترميم وعي شعوبنا بحقوقها. نحن مقبلون على عقد من الحرب (بأقل تقدير) سيعيد تشكيل المنطقة والعالم بأسره. وبالتأكيد، لن تقف الحرب عند حدود غزة.
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق