كما باقي الأمم ابتلي العرب بالهزيمة أمام أعدائهم. لا يعيب العرب هزائمهم العسكرية أمام جيش "إسرائيل" المتفوق، بل يعيبهم التسليم بالدونية والعجز عن مقارعته. لا يُلام من لا يقاتل كل الوقت شرط أن يستمر بإعداد العدّة للنصر، بل يُلام من اقتنع باستحالة النصر فسلّم وسالم
عن الهزيمة والنصر
"لم يحدث أبداً من قبل أن كان هناك مثل هذا الرعب بين جدران مدينة لا تزال آمنة. لن أحاول أن أصف ما يجري فكل تفصيل سيضعف الحقيقة ]...[ جيوش القناصل والقناصل أنفسهم قد فُقدوا؛ ولم يعد هناك أي معسكر روماني، أي جنرال وحتى أي جندي واحد في الوجود؛ إيطاليا كلها تقريباً أصبحت تحت أقدام حنبعل ]...] وبالتأكيد ليس هناك أي أمة أخرى لم تكن لتستسلم تحت وطأة هكذا نكبة".
تيتوس ليفيوس، تاريخ روما، 25 ق.م.
***
كانت معركة "كاناي" ذروة النكبة لروما، أكبر مذبحة للجنود شهدها التاريخ حتى ذلك اليوم. والأسوأ أنها كانت الهزيمة الثالثة على التوالي أمام جيش صغير من المرتزقة لا يقارن بالفيالق الرومانية الثمانية التي خرجت لملاقاته. لكن على رأس هذا الجيش الصغير كان أحد أعظم العقول العسكرية في التاريخ، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق؛ إنه حنبعل برقا القرطاجي (هنيبعل). في "كاناي"، أبدع حنبعل تكتيك الكمّاشة الذي لم يكن العالم قد شهد مثيلاً له بعد. طوّق حنبعل الجنود الرومان وحاصرهم حتى لم يعد الجندي قادراً على رفع سيفه، كما يذكر المؤرخ بوليبيوس:[1] تكوّمت سبعون الف جثة في مساحة صغيرة ... كانت الإبادة كاملة.
بعد أن ارتاح حنبعل لنتيجة المعركة دعا جنوده المتعبين للراحة. لكن مساعده العجوز مهربعل قائد الفرسان الأمازيغ نصحه بإكمال الزحف على روما التي أصبح على أبوابها. لكن حنبعل لم يستمع لمساعده رغم إصراره حتى قال مهربعل كلمته الخالدة "حقاً إن الآلهة لا تمنح كل شيء للفرد نفسه، فمع أنها علمتك كيف تحرز النصر، فإنها لم تعلمك كيف تستفيد منه".
وبالفعل، لم يستفد حنبعل من انتصاراته العسكرية. من كان ليظن في لحظات النشوة تلك بأن النتيجة النهائية للحرب ستكون هزيمة قرطاجة واندثارها، وبقاء روما لتصبح إمبراطورية عظيمة. كان حنبعل منذ البداية يعلم بأنه لن يستطيع أن ينهي أمة بحجم روما، بل كان يراهن بأن روما ستفقد معنوياتها وتستسلم. لكن روما لم تكن لتتقبل بأن تهزم أمام قرطاجة التي طالما ازدراها الرومان على أنها أمة من التجار والنفعيين، فلم تعطه ما كان يأمل به.
وعلى الرغم من النكبات العسكرية المتتالية وتخلي الحلفاء عنها حيث انشقت الأقاليم الجنوبية، لم تستسلم روما بل تصرفت كأمة واعية بعظمتها. رفض شيوخ روما استقبال "كرثالو" مبعوث حنبعل للمفاوضات. وحتى لا تترك أي مجال للشك بخياراتها، حرَمت روما تماماً أي استعمال لكلمة "سلام" في أي سياق كان. وبدأت مرحلة استعادة المبادرة: منع البكاء في العلن، قصرت فترات الحداد وبدأ التجنيد والتدريب. روما "نهر العسكر، ونبع الخيل" أثبتت في هذه اللحظات أنها تستحق أن تكون الإمبراطورية الأعظم في التاريخ لأنها كانت تملك تراكماً من الكبرياء سيكون الفاصل ما بين الهزيمة والنصر.
كان الرومان يدركون أن الكبرياء وحده لا يكفي، فهناك فجوة واضحة في علم الحرب مع حنبعل دفعوا ثمنها شلالاً من الدماء حتى قبل "كاناي" كما في معركتي "تريبيا" و"تراسميني". فكانت سياستهم هي تجنب المواجهات المباشرة والاكتفاء بحرب استنزاف وإزعاج قادها القنصل فابيوس مكسيموس التي تعرف استراتجيته حتى الآن بـ"الاستراتيجية الفابية - Fabian strategy". ظلت هذه الاستراتجية تعمل جيداً حتى أدّت المزايدات بين الشيوخ الى تغييرها ووقوع الكارثة.
بعد كاناي رجع الرومان للاستراتيجية الفابية، ليس للأبد، بل ليكسبوا الوقت الكافي لسد الثغرة العلمية، وهي مَهمة سلمت للجنرال "سيبيو الأفريقي - Scipio Africanus". لم يكن ينقص الرومان الثقة بأنفسهم، فقبل سنوات خلال الحرب البونية الأولى، استطاع الرومان سد ثغرة التكولوجيا مع قرطاجة التي كانت سيدة البحر المتوسط بدون منازع. فقرطاجة، سليلة الفينيقيين، كانت تملك صناعة سفن متقدمة عمرها مئات السنين، بينما لم يكن للرومان أي خبرة تذكر في البحر. هذا الى أن انجرفت سفينة قرطاجية ووقعت بأيدي الرومان ليفككوها قطعة قطعة، وفي ظرف أشهر أصبح عندهم أسطول استطاع أن يحقق النصر في معركة "أغريغنتم".
قام سيبيو بدراسة تكتيكات حنبعل وأسلحته، وبدأ بتدريب وإعداد جيش محترف. وبعد خمسة عشر سنة على كاناي كانت الفرصة لسيبيو ليقطف ثمن جهده. في "زاما" استعمل سيبيو نفس التكتيكات التي استعملها حنبعل في كاناي ليحقق نصراً كبيراً لروما. وبدأ بعد ذلك عصر روما الإمبراطورية التي يجمع المؤرخون انه لولا تجربة حنبعل لما وصلت إلى تلك العظمة أبداً.
***
ليست تجربة روما فريدة من نوعها فالتاريخ مليء بالتجارب المماثلة. في الثورة الأميركية خسر الثوار تقريباً كل معركة مع الجيش الإنكليزي المحترف، باستثناء "ساراتوغا" التي خسرها الإنكليز لفشل لوجيستي و"يوركتاون" التي حسمها الدعم الفرنسي المباشر. ومع ذلك خسر الإنكليز الحرب بالنتيجة النهائية لأن الأميركيين لم يعترفوا أبدا بالهزيمة. بعد كل جيش ينتهي كان جيش جديد يولد. ولما أدرك الإنكليز أن الأميركيين لن يمنحوهم النصر أقرّوا بالهزيمة ورحلوا.
وفي الحرب العالمية الثانية خسرت روسيا نصف جيشها في الأيام الأولى للهجوم الألماني. في البداية كان التفوق الألماني هائلاً، وعلى مدى سنتين كانت الهزائم والمذابح مستمرة، ثم الانشقاقات حتى جاء وقت كان هناك أكثر من مليون روسي يقاتلون تحت العلم الألماني.
كان الروس يشترون الوقت بالدماء، فروسيا التي دخلت الحرب كدولة شبه زراعية استطاعت خلال أقل من سنة أن تنشأ مدناً صناعية هائلة في جبال الأورال. الفجوة في علم التكتيك سُلمت للجنرال غريغوري جيكوف الذي لم يكن أقل من نظرائه الألمان لكن كان ينقصه الجيش المدرب والدبابة المناسبة. كانت الفجوة التكنولوجية بين دبابة الـ"تي26" والتايغر الألمانية أكبر من أن يتم تخطيها بالتكتيك أو بالكمية. سلمت هذه المهمة للمهندس ميخائيل كوشكين الذي صمم الـ"تي34" لتصبح اشهر دبابات الحرب بسبب فكرة الدرع المائل.
الجهد الروسي للحاق بالألمان أثمر بعد سنتين في عملية "يورانوس" حين شكّلت آلاف دبابات الـ"تي34" بقيادة جيكوف طرفي كماشة طوّقت الجيش الألماني في ستالينغراد. تفاجأ الألمان، فرغم التقارير، لم يكن هتلر ليصدق أن الروس بعد كل خسائرهم ما زالوا يمتلكون جيشاً قادراً على القتال. الصدمة الكبرى كانت في التكتيك الروسي: "إنهم يستعملون الدبابات كما نستعملها!"، تعجب الجنرال شميدت. الكماشة التي اعتبرت انجازاً ألمانياً حصرياً منذ أيام فون شيفلين الذي درس وتأثر بمعركة كاناي، لم تعد كذلك. الجيش الأحمر الذي كان يصفه هتلر بجيش "الفلاحين المتوحشين" تعلم التكتيك الألماني ولحق بالأمة الصناعية الأولى في العالم.
هتلر الخبير في الحرب لم يكن أبداً خبيراً في التاريخ والفكر، لانه أعاد حرفيا تجربة نابليون وبنفس النتائج الكارثية. في العام 1812، كان تفوق نابليون في علم الحرب كبيراً أيضاً، لكن نابليون راهن (كما راهن قبله حنبعل ثم هتلر) على أن القيصر الروسي سيستسلم بعد كل الهزائم. لم تستسلم روسيا آنذاك، وتركت للثلج أن ينتصر لها.
هكذا كل غازي، منذ ما قبل الميلاد الى اليوم، يلعب لعبته ويكيد كيده لينتزع الاستسلام ... فإذا واجه من لن يعطيه مبتغاه، لا يبقى له الا ان ينهزم ويرحل.
قواعد التاريخ لم ولن تتغير لأنها متعلقة بالإنسان لا بالمكان ولا بالزمان. ليس من إنسان متفوق كل الوقت على أخيه الإنسان، وليس من فجوة لا تسد بالجهد والإرادة. الهزيمة ليست فعل قوة بل هي قناعة: تنهزم عندما تقتنع انك لن تستطيع أن تنتصر على عدوك وعندما تسلم بالدونية والضعة تجاهه. وتنتصر عندما يقتنع عدوك انك لن تنهزم ... أما المعارك العسكرية فليست إلا تفصيلاً لا يغيّر مصيراً ولا يبدّل قدراً.
***
كما باقي الأمم ابتلي العرب بالهزيمة أمام أعدائهم. لا يعيب العرب هزائمهم العسكرية أمام جيش "إسرائيل" المتفوق، بل يعيبهم التسليم بالدونية والعجز عن مقارعته. لا يُلام من لا يقاتل كل الوقت شرط أن يستمر بإعداد العدّة للنصر، بل يُلام من اقتنع باستحالة النصر فسلّم وسالم.
[1] بوليبيوس أحد أعظم المؤرخين في العصر الهليني واليوناني. اشتهر بكتاب "صعود الامبراطورية الرومانية" والذي غطى فيه بالتفصيل الفترة من 220 - 146 ق.م.. وفيه يصف الهيمنة الرومانية على العالم المتوسطي القديم. وهو شاهد عيان على نهب قرطاج وكورنث في 146 ق.م.، وضم روما لبر اليونان الرئيسي بعد الحرب الآخية. كما اشتهر بوليبيوس بأفكاره عن التوازن السياسي في الحكومات، والذي استخدمه مونتسكيو لاحقاً في كتابه روح القوانين واستخدمه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في صياغة دستور الولايات المتحدة.
Related Posts
أستاذ المعلوماتية في الجامعة اللبنانية - كلية العلوم النبطية