محمد الضيف، هو ابن مخيم خان يونس. والمخيم هو النقيض لسلطة الدولة. في المخيم تضيق الشوارع فلا قدرة للجيوش/ سلطة الدولة وآلياتها على اقتحامه. المخيم فضاء مكاني شاهد على خروج جماعة ما عن نص السلطة الرسمي. المخيم هو "غير المُفكَّر فيه" دولتياً، أو ما لا تريد الدولة التفكير فيه، لذا هي غالباً ما تسوِّره وتحكم مداخله ومخارجه (تتعاطى الدول مع المخيمات تعاطيها مع المصحة العقلية).
عن الضيف... "اللامعقول"
بالمختصر، نسفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) المباني النظرية للأمن القومي الإسرائيلي، والتي تمثلت تاريخياً بثلاثية: الحسم السريع، الحرب خارج "أراضي الكيان الصهيوني"، وردع الخصوم. ومع ذلك لم يكن نسف هذه الثلاثية إبداعاً "حمساوياً" خالصاً بقدر ما كان تطويراً لحالة بنتها المقاومة في المنطقة طيلة العقدين الماضيين. حتى حركة حماس نفسها، كانت قد عملت على نقل الحرب إلى أراضي الـ48 في معركة سيف القدس قبل بضعة أعوام. الإبداع "الحمساوي" هذه المرة كان في الحقيقة في شكل الحرب، في أسلوبها، وطرائق اشتغالها.
قبيل أسبوعين تقريباً، كان الإسرائيليون يميطون اللثام عن مجموعة كبيرة من الوثائق عن حرب 1973. الوثائق التي أكدت علم اسرائيل بنيّة الجيشين المصري والسوري بدء هجوم السادس من أوكتوبر/ تشرين الأول 73، جاءت لتأكيد السردية "السفاردية - الأمنية" عن الحرب. وعلى عكس ما كانت تروج له قيادة "الأحوساليم/ النخبة الأشكينازية" للجيش، منذ بدء عمل لجنة أغرانات، من أن المشكلة عام 1973 كانت مشكلة معلوماتية (حمّل بموجبها رئيس الاستخبارات العسكرية آنذاك إيلي زعيرا المسؤولية بتقديره أن فرص مصر وسوريا في شن هجوم "أقل من منخفضة"). كانت الحكومات اليمينية منذ مطلع الألفية الثانية تؤكد أن المشكلة في لبها كانت "مشكلة عدم كفاءة سلاح الجو وسوء تكامل أذرع الجيش مع شعبة الاستخبارات العسكري" وهو ما ظهر في سرديات عدة منها: تسريب إيلي زعيرا لأهارون برغمان عام 2004، تسريبات تسفيكا زامير رئيس الموساد ونائبه شموئيل غورين عام 2018، ثم في شهادة شموئيل جوردون 2021، ومن بعدها تسريبات مكتب نفتالي بينيت، في 6 أكتوبر/ تشرين من العام نفسه. في الحقيقة، رمت كل هذه التسريبات ومعها آلاف الوثائق إلى تأكيد مسألة واحدة "لقد دفعنا ثمن عقلانيتنا المفرطة". الوثائق التي شرّحت "الانتكاسة الإسرائيلية" كانت في الحقيقة تؤكد تفوق العقل الإسرائيلي في جانب آخر.
حتى عشية الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر تشرين، كان كل شيء يشي بتفوق العقل الإسرائيلي ومنطقه. اليد الطولى لاسرائيل تضرب يمنة ويسرى في شرق المتوسط. فصائل المقاومة تخضع لضغوط بيئتها الاجتماعية ولمشاكل "ما أنزل الله بها من سلطان" داخلياً. سلوك حماس نفسه كان يوحي بشيء من العجز. لقد نأت الحركة بنفسها بعيداً عن أي مواجهة في السنتين الأخيرتين. أشخاص من مثل يوسي ميلمان، عاموس يادلين، وأليكس فيشمان، كانوا لا يتوقفون عن ترداد عبارة "حرص حماس على تجنب أي تصعيد" مع الكيان. بالنسبة للكثيرين، كان هناك ثلاث مسائل تضبط عمل حركة حماس وتلوي ذراعها: 1- الازدهار الاقتصادي في قطاع غزة نتيجة إعطاء "إسرائيل" تراخيص لـ15 ألف عامل عادوا على القطاع بستة ملايين شيكل يومياً (ما يعادل 2 مليون دولار). 2- تغيير استراتيجية حماس نحو العمل الشعبي الجماهيري والابتعاد عن نقمة الناس. 3- استراتيجية حماس ودبلوماسيتها الجديدة الطامعة بحجز مقعد للحركة في أي عملية سياسية في المستقبل.
حرص حماس هذا لم يكن في الحقيقة غير عملية طويلة من الخداع الاستراتيجي. حتى الدعوة الخجولة لمسيرات العودة قبيل الحرب بأيام، كانت تعزز شعور الإسرائيليين بعجز القطاع عن القيام بأي حركة. بالمختصر، كانت حماس تدير عملية من الخداع اشتركت فيه أذرع الأمن والسياسة والعسكر بكفاءة عالية في انتظار "ساعة الصفر".
***
جدعون وإخوته في غزة: ليلة بدء الهجوم.
يروي لنا العهد القديم قصة القاضي جدعون بن يوآش، ذلك الرجل الذي اختاره الله من أجل إنقاذ الإسرائيليين من المديانيين. في البدء كان لجدعون قرابة إثنين وثلاثين ألف رجل، لكن الله خاف عليهم كثرتهم، فاختبرهم بالشرب من ماء نهر بجانبهم. "أمر يهوه جدعون بأن يختار فقط الرجال الذين يواصلون المراقبة أثناء شربهم". أما الباقون، فقال الله: "يجب إرسالهم إلى البيت". لم يطع الإسرائيليون يهوه. قلة فقط غرفوا غرفة من الماء وهم يراقبون. ومع ذلك قال يهوه لجدعون: "لا يزال لديك رجال أكثر من اللازم". ولذلك أمر الله جدعونَ أن يطلب من الرجال أن يشربوا مرة أخرى وتسريح كل الذين يجعلون وجههم على الماء ليشربوا. "سأمنحك النصر بالرجال الـ300 الذين واصلوا المراقبة أثناء شربهم" وَعَد يهوه.
أتى وقت القتال. فجعل جدعون رجاله الـ300 في ثلاث فرق (منسى وأشير وزبولون). وأعطى كلَّ رجل منهم بوقاً وجرَّة في داخلها مصباح. "وقام مع رجاله بعد أن نقص العدد إلى ثلامائة بهجوم ليلي على محلة المديانيين الذين كانوا حالين في وادي يرزعيل عند تل مورة (قضاة 7:1). نفخ أصحاب جدعون في أبواقهم وكسِّروا جرارهم وصرخوا: "سيف يهوه وجدعون، فشاع الاضطراب في صفوف المديانيين حتى حارب بعضهم بعضاً وهربوا إلى الأردن"، وربح جنود جدعون المعركة.
يصح المقطع الأخير من هذه الحكاية التوراتية في وصف فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لم يكن عدد رفاق محمد الضيف أكثر من ثلاثمائة. دون أي قصف تمهيدي على النقاط المهاجَمة تسلل المقاتلون خلف خطوط العدو. من تحت الأرض ومن فوقها خرجوا وبدؤوا الإلتحام. دخل المقاومون غرف إدارة الشرطة ومراكز سيطرة وتحكم الجيش ما أدى لفقدان "إسرائيل" قدرتها على معرفة الواقع وما يجري على الأرض. ساعد عمل سلاح الإشارة المضادة في تشويشه على العدو وإرباكه إلى حد تعطيله (عُطلت أنظمة الاستشعار الإسرائيلية على طول خط الجدار الفاصل بين غزة ومستوطنات الغلاف طيلة ساعات من الهجوم الأول، وهنا سؤال لن نعرف جواباً له عما قريب على ما يبدو). بُعيد أقل من ساعة كانت جميع مستوطنات غلاف غزة (زكيم، إيرز، سديروت، نتيفوت، بئيري، رعيم، كيسوفيم، عين هشلوشاه) قد باتت تحت السيطرة المباشرة من كتائب القسام. غطى السلاح الصاروخي بنيرانه مستعمرات غوش دان ريشون لتسيون، أسدود، عسقلان، فضلاً عن مستوطنات شمالي النقب وبئر السبع وصولاً إلى الخليل في عملية إلهاء وإشغال مُحكمة.
ليس هذا فحسب، كان ذلك الهجوم فاتحة الإبداع للضيف وإخوته. فلقد استطاع الرجل تحويل المرحلة الأولى من الهجوم إلى حرب شعبية بالكامل. من خارج المنطق العسكري أتاح رجال الضيف للناس التوغل إلى مستعمرات غلاف غزة بشكل فوضوي؛ أخ لشهيدين يذهب ثائراً لإخوته فيعود ومعه دراجة هوائية لطفله من أوكافيم. فتية متحمسون يأسرون مسنّة ضاحكين. أطفال خرجوا للاحتفاء بالمقاتلين في مستعمرات كانت حتى ذلك التاريخ قلاعاً تورث الخوف. أربك المشهد القيادة في تل أبيب. كانت هذه الفوضى ضرورية لإرباك نظم الإسخبارات الإسرائيلية. فحتى الساعة الواحدة ظهراً لم يكن للهكرياه (مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب) أي قدرة على ضبط المعلومات أو معرفة "ما الأمر" بالتحديد. في الخامسة بعد الظهر كانت عبارة واحدة لأحد مسؤولي الجيش تختصر المشهد برمته: "ثمة انعدام للكفاءة بشكل مفرط... الجيش نسي كيف يقاتل".
***
التصق بالتراب لتنجو: أن تُفكّر من خارج المنطق العسكري.
للجيوش منطقها، تقاليدها، وتراثها غير المنظور. بإمكاننا اعتبار المؤسسة العسكرية الحديثة وليدة مدرستَي سان سير الفرنسية وساندهيرست البريطانية بنحو كبير. ولدت هاتين الأكاديميتين مطلع القرن التاسع عشر في ذروة التنافس الفرنسي – البريطاني فترة حرب "التحالف الثالث". وكانتا حكراً على الأرستقراطيين وعائلاتهم. عملت المدرستان على تخريج نخب الجيش والدولة في كل من فرنسا وإنجلترا. وبفضل هاتين المدرستين، اكتسبت العلوم العسكرية الكثير من طبائع الدولة الأرستقراطية والنظم الإمبراطورية. وهو ما سيظهر سريعاً في نفس العلوم العسكرية ونمط حياة القادة العسكريين وقيمهم طوال القرن التاسع عشر. كان الجنرال العسكري يفكر بالنحو الذي يفكر فيه الأرستقراطي. هو يحاول أن يرى الأمور من أعلى، وتكمن كفاءته في رفع جاهزية عناصره وتقليص الخطأ لحدوده الدنيا، وعلى وحداته الإتسام بالانضباط إلى الحد الأقصى (في السلوك واللباس والشكل ...إلخ) لتحقيق المهام بأعلى وأكثر حرفية ممكنة. لا يحبذ العسكري اللاعقلانية في العمل ، ولا يستأنس خلال عمله بقربه من الناس.
تلك السمات التي ورثتها الجيوش منذ بدء زمن الأنوار ومن ثم الحداثة، هي بالضبط النقيض لما هو عليه محمد الضيف وإخوته في المقاومة. بإمكاننا اعتبار الرجل نموذجاً للعمل "غير العقلاني" بمعايير وأدبيات الدولة الحديثة (بالأصل، المقاومة كلها هي فعل غير عقلاني في المنظور الدولتي أصلاً). محمد الضيف، هو ابن مخيم خان يونس. والمخيم هو النقيض لسلطة الدولة. في المخيم تضيق الشوارع فلا قدرة للجيوش/ سلطة الدولة وآلياتها على اقتحامه. المخيم فضاء مكاني شاهد على خروج جماعة ما عن نص السلطة الرسمي. المخيم هو "غير المُفكَّر فيه" دولتياً، أو ما لا تريد الدولة التفكير فيه، لذا هي غالباً ما تسوِّره وتحكم مداخله ومخارجه (تتعاطى الدول مع المخيمات تعاطيها مع المصحة العقلية). بمعنى آخر، هي لا تريد أن تعرف ما فيه ولا تتطلع لأكثر من ضبطه/ ضبط تأثيره على محيطه وهذا ما تحاول اسرائيل فعله مع قطاع غزة بأسره (هي تحاول جعل القطاع مخيماً كبيراً). لذا، لم يكن هجوم السابع من أكتوبر تشرين فعلاً عادياً لـ"دولة كإسرائيل". هو كان اجتياح اللامعقول إلى داخل وعي الإسرائيليين. لذا ليس من الغريب أن يستولد الهجوم أسئلة داخل العقل الإسرائيلي أشد قسوة من أسئلة حرب 1973.
لقد زاوَج هجوم القسّام بين أنواع عدة من الحروب. حرب الأمشاط المتشابكة الفيتنامية (حيث لا يكون تقدم القوات متوازياً في العمق)، الحرب الخشنة غير المقيدة (حيث لا تحكم الحرب نظم قتالية محددة)، خوض المعارك المتتابعة دون استراحة، وعدم ترك العدو لتحديد منطقة الالتحام من خلال إشغاله في خطوطه الخلفية. هذه العناصر الأربع هي مزيج معقد من الحرب الشعبية "بالنحو الفيتنامي والصيني". بمعنى آخر، كان الهجوم من خارج نسق المنطق العسكري الكلاسيكي. يتطلب إنجاح هذا النوع من العمل جاهزية شعبية وقدرة تنظيمية عالية على ضبط الناس وتحويلهم من العمل المدني إلى العمل الميداني وبالعكس بنحو سريع. وبالمثل، يتطلب هذا العمل كفاءة عسكرية وأمنية عالية في تماهي عناصر الهجوم مع البيئة المدنية المحيطة بنحو كلي (في كثير من المشاهد ظهرت قوات النخبة في القسام بلباسهم المدني بعيداً عن صورة العسكري التقليدي التي نتصورها عن قوات النخبة). لقد أراد محمد الضيف من العملية أن تكون نوعاً من الاحتفاء الشعبي بدلاً من أن تكون عملية مقننة ومرشدة ومحتسبة بالمعنى العسكري التقليدي. الاجتهاد في التشخيص مع الانضباط في الأداء كانت سمة حركة قوات القسام المقتحمة، الأمر الذي أعطاهم الأفضلية على الشرطة والجيش الإسرائيليين. لم يستخدم القسام في الهجوم أياً من الإمكانات المتقدمة التي تعلم "إسرائيل" حيازة حماس لها. في ناحل عوز دخل المقاومون ومعهم الناس دون استخدام الصواريخ المضادة للدروع من مسافات بعيدة (كالكورنيت مثلاً). فضّل الضيف وإخوته مشهد إشعال الدبابات بالطريقة البدائية بدلاً من استهدافها في مواقع أخرى. في رعيم استخدم المقاومون الدراجات النارية الخفيفة، دون تمهيد ناري ضخم. وفي ختام اليوم كان الضيف وإخوته من أبناء تراب مخيمات غزة قد تفوقوا على "الإسرائيليين" في أسلوب عملهم "الشعبي – العسكري". هم التصقوا بتراب فلسطين لينجوا، وننجوا نحن معهم إلى أعلى.
***
واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.
في التراث الإبراهيمي، يشكل خروج إبراهيم (عليه السلام) بزوجته وابنه اسماعيل إلى "وادٍ غير ذي زرع" مغامرة العقل الديني الأولى في تشكيل الأسرة/ المجتمع. لقد مضى ابراهيم في "اللامعقول" باحثاً عن مدنية جديدة في صحراء مقفرة. وأما دعاؤه لربه فقوله: "واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم".
يا رب، ونحن الذين نعيش قفار صحاري واقعنا العربي الجدب. لا نملك الكثير غير بضع كلمات، نسألك فيها حفظ الضيف وإخوته، وأن تجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق