تشير هذه الأرقام إلى جملة أمور، منها: يحصل التغيير في "إسرائيل" على نحو عمودي. فانخفاض نسبة القاطنين في ضواحي تل أبيب (الطوق الثاني والثالث بلحاظ المركز) تشير إلى تدني نسبة "رأس هرم الطبقة الوسطى" في البلاد من جهة، كما وآثار سياسة "الدولة" الليبيرالية الآخذة في قسمة المجتمع بين طبقات عليا وأخرى متدنية الأجور
النخبة الجديدة في "إسرائيل" - الجزء الأول
تميز الاقتصاد الإسرائيلي منذ نشوء الكيان، سنة 1948، بتدخل حكومي تمثل بملكية "الدولة" لوسائل الإنتاج، والمشاركة الحكومية المباشرة في الصفقات الاقتصادية. وقد سعت "الحكومات المتعاقبة" للسيطرة على المجالات الاقتصادية من خلال:
- مشاريع تملكها الحكومة مباشرة وتتمتع باحتكار بيع منتوجات وخدمات، مثل خدمات البريد والهاتف والاتصالات الإلكترونية، والموانئ والمطارات والقطارات، وإدارة أراضي ما يُسمى بـ"إسرائيل"، كما والمصانع العسكرية ومؤسسات الرهان، والكهرباء، والفوسفات والسماد الكيمياوي، واللحوم، وغيرها. وعادة ما تكون إدارة هذه المشاريع جزءاً لا يتجزأ من الإدارة الحكومية.
- إنشاء وحدات اقتصادية تابعة للحكومة أقيمت بحسب قانون خاص: مثل مجالس الإنتاج والتصريف الزراعي، ومؤسسة التأمين الوطني، وبنك إسرائيل، ونجمة داود الحمراء، ومجلس التعليم العالي، وسلطة الموانئ، وسلطة الإذاعة، ومجلس تنظيم الرهان في الرياضة، وغيرها.
- مشاركة الحكومة في ملكية شركات اقتصادية عن طريق امتلاك أسهم فيها، على أن تمارس الأخيرة أنشطتها في إطار نظام الشركات العامة وفي إطار قانون الشركات الحكومية منذ سنة 1975.
- تقديم الحكومة دعماً خاصاً لمؤسسات محددة مثل التعليم والصحة، والجمعيات الاستيطانية، ومنظمات الدفاع عن المستهلك، وغيرها.[1]
ومع ذلك واجه التدخل الحكومي المباشر في النشاط الاقتصادي (وتحديداً امتلاك المشاريع والشركات) اعتراضات من جانب المبادرين منذ أوائل السبعينات. في الحقيقة، كانت عملية الخصخصة قد بدأت منذ أواخر الستينيات، بعدما أظهرت الضائقة الاقتصادية الأولى في الكيان سنة 1966 الضعف الذي يعانيه القطاع العام الإسرائيلي. لكن الخصخصة تلك ظلت على مستوى ضيق ومن دون أي أفق أيديولوجي. أمّا التزام الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أكانت يسارية أم يمينية، في خصخصة القطاع العام بصورة واسعة، فقد بدأت منذ أواسط الثمانينيات، تمشياً مع أيديولوجيا تحرير الأسواق، وبرامج الإصلاح الاقتصادي. وقد شملت عملية الخصخصة في الكيان ثلاث مهمات متباينة ومترابطة في آن، هي: بيع المنشآت الاقتصادية التي تملكها الحكومة، والتي كانت تشمل 12% من أكبر 100 شركة صناعية سنة 1985. 2- حديث وخصخصة الشركات التي يملكها الهستدروت، والتي تشكل 35% من أكبر 100 شركة صناعية في السنة نفسها. 3- خصخصة المصارف الخمسة الكبرى التي تهيمن على معظم النشاط المالي في الكيان، والتي أصبحت الحكومة تسيطر على نشاطاتها منذ سنة 1983.[2]
وخلال عقد واحد (أي من سنة 1986 إلى سنة 1996) تمكنت الحكومة الإسرائيلية من بيع 68 شركة. أما الشركات الكبرى فلم تتمكن من بيعها وذلك بسبب مجموعة عوامل منها: أن الوزراء المسؤولين عارضوا أحياناً عملية البيع كونها تفقدهم جزءاً مهماً من مصادر قوتهم. كما كانت اللجان المالية في الكنيست تعارض مرات عمليات البيع لأسباب استراتيجية وأيديولوجية. لكن وبالمحصلة، جرى إنهاء احتكار القطاع العام، والسماح للقطاع الخاص بالعمل في مجالات كثيرة، كالطاقة والاتصالات والتعليم والصحة منذ أواسط التسعينيات.[3]
أواخر سنوات العقد الأخير من القرن العشرين، تسارعت عملية الخصخصة فتم خصخصة 89 شركة حكومية بين عامي 1986 و2005، كان منها: شركة الطيران الإسرائيلية "العال"، وشركة الملاحة الإسرائيلية "زيم – Zim"، وشركة الاتصالات الإسرائيلية "بيزيك – Bezeq"، وشركة الكهرباء الإسرائيلية "IEC". أما عامي 2005 و2006 فقد تم خصخصة منشآت تكرير النفط في حيفا وأشدود، وبنك ليؤومي، كما تم تنفيذ إصلاحات في قطاع العقارات والإنشاءات والبنية التحتية.م أواخر العقد الثاني من هذا القرن جاءت عمليات الخصخصة لتطال مرافق مهمة من القطاع العام، كدائرة البريد وشركة صناعة الطيران – Israeli airspace industries ، وسوق تل أبيب للأوراق المالية.[4]
التحولات الاجتماعية:
لم يكن التحول الاقتصادي بمعزل عن التحول الاجتماعي. يمكن للمراقب متابعة التحول الاجتماعي من خلال انزياح الشرائح الطبقية في متروبولين تل أبيب (منطقة غوش دان).[5] وللعلم، يعتبر متروبولين تل أبيب منطقة على غاية من الأهمية لقراءة التحول في البنية الاجتماعية الإسرائيلية. فسكان المتروبولين هم طليعة الأشكيناز الأوائل الذين أتوا إلى فلسطين. ومن خلال قراءة تحولاته يمكن لحاظ عمق التحولات الواقعة في "إسرائيل". يضم متروبولين تل أبيب جملة ضواحٍ منها: بيت يام، حولون، رامات جان، بني براك، رامات هشارون وهرتسيليا. يمتد طوق المتروبولين الخارجي من أشدود جنوباً مروراً بموديعين وروش هاعين (رأس العين) شرقاً حتى ضواحي الخضيرة في الشمال. فيما يشمل الطوق الأوسط اللد ورحوبوت في الجنوب وصولاً إلى بيتح تكفا في الشرق وكفار سابا ورعنانا في الشمال.
عام 1972، حوت تل أبيب الكبرى (غوش دان) سبعة وعشرين تجمعاً سكنياً تم توزيعها على ثلاثة أحزمة. عام 1983 كان في متروبول تل أبيب 41 تجمعاً سكنياً. وبدءاً من إحصاء 1983 أضيف طوق جديد إلى تل أبيب لتشمل المدينة نواةً وثلاثة أطواق (بالمحصلة صرنا أمام 4 دوائر مركزية).
ساهمت مسارات نشوء الضواحي بين عامي 1983 و1993 مع ما رافقها من سياسات تمدين القرى في إحداث تغيير ديمغرافي نوعي. لذا، ففي إحصاء 1995 تم ضم أكثر من مئتي قرية وتجمع سكني لمتروبول تل أبيب، ليرتفع عدد المستوطنين بين عامي 1961 وعام 2000 من 670 ألفاً إلى 2.8 مليون (أي 43.7% من نسب المهاجرين إلى فلسطين حتى ذلك العام).
إن إمعاناً بسيطاً في المرحلة الممتدة من عام 1961 إلى 2000 سيُظهر أن الزيادة السكانية لم تكن موحدة في أجزاء المتروبولين المختلفة. فقد سجلت زيادة معتدلة في النواة والطوق الداخلي القريب منها بينما سجلت زيادة سريعة نسبياً في الطوق الأوسط والخارجي. كما أن مراجعة دقيقة للمسارات التي طرأت على أجزاء المتروبولين سريعاً ما تُظهر النتائج التالية:
- في نواة مدينة تل أبيب: تم تسجيل زيادة تتراوح بين (سالب -0.9%) بين الأعوام 1972/1983 إلى زيادة إيجابية صغيرة (0.3%) في الأعوام 1995 - 2000. (هذا التحول من السالب إلى الموجب صار بموجب هجرات رأس المال الروسي والنخبة المالية اليهودية الجديدة، فترة التسعينيات والذي استوطن قلب المدينة مباشرة).
- طوق تل أبيب الأول: بالرغم من زخم التزايد السنوي للسكان عند 7% في أواسط السبعينيات حتى أوائل الثمانينيات، إلا أن الهوة أخذت بالتقلص إلى أن انخفض الزخم في الأعوام 1995 - 2000 في الطوق الداخلي إلى (0.2%) وهو أقل بقليل من زخم التزايد الذي ميز النواة في هذه الأعوام. (في هذا الطوق تسكن النخب الأشكينازية من جماعة "الصهيونية الأولى" ويبدو أن حجمهم السكاني استقر منذ مطلع التسعينيات).
- طوق تل أبيب الثاني والثالث: (الأوسط والخارجي). وقف التزايد السنوي المتوسط لأطراف متروبول تل أبيب عند 50% في الأعوام 1961-1972 ثم انخفض إلى 19% في الأعوام 1972 – 1983، ثم إلى 4% الأعوام 1995 – 2000 (يمكن تسجيل الملاحظات نفسها التي سُجلت على الطوق الأول).
ومع ذلك، فإن الفارق البارز ما بين النواة والأطراف أخذ بالاعتدال في العقدين الأخيرين حيث يُلمس الارتفاع على طلب السكن في النواة من قبل أطراف شابة (عوائل مالية قومية جديدة غير ذات صلة بالنخب والعوائل القديمة). وكنتيجة لذلك طرأ ارتفاع معتدل على نسبة التكاثر الطبيعي في النواة (مدينة تل أبيب) منذ عام 1988. فبينما كانت نسبة التكاثر الطبيعي في الأطواق (1، 2، 3) أعلى بخمسة أضعاف عن نسبة التكاثر الطبيعي في النواة عام 1985، صارت هذه النسبة أعلى بـ 1.5 ضعفاً فقط في العام 2000.[6]
على مستوى الهرم العمري للمستوطنين. يُمكننا لحاظ اختلال الهرم العمري عند مقارنة المنطقة الوسطى/ تل أبيب، مقارنة بأطراف المتروبول. إذ يبلغ متوسط عمر السكان في "إسرائيل" 27.6 سنة، مقارنة ب34.1 سنة لمستوطني نواة تل أبيب. ويمكننا لحاظ انخفاض متوسط العمر كلما ابتعدنا عن نواة متروبول تل أبيب باتجاه الأطراف. وهي السمة التي ظلت مراوحة منذ أواسط التسعينيات إلى اليوم.
تجدر الملاحظة، أن كثيراً من الشقق التي أخلاها المهاجرون في أحياء الطبقات الدنيا – الأحياء الفقيرة - في وسط وجنوب تل أبيب سكنها عمال أجانب يُقدر عددهم بعشرات الآلاف (بعضهم يسكن بشكل غير قانوني). وهم غير مشمولين بالإحصاء السكاني. ويمكن الافتراض أنه لو تم تضمين العمال الأجانب في عدد سكان النواة لاتضح أن اتجاه انخفاض السكان محصور بكل ما يتعلق ب"المستوطنين الإسرائيليين"، لكنه ليس صحيحاً عند الحديث عن إجمالي السكان بما فيهم العمال الأجانب والمقيمين.
الطبيعة الاجتماعية لمستوطني متروبولين تل أبيب:
يشمل متروبول تل أبيب تجمعات سكانية ذات مكانة اجتماعية - اقتصادية متنوعة. بدءاً من الطبقة الدنيا إلى الطبقة العليا. حسب تصنيف المكتب المركزي للإحصاء لعام 1999 فإن سلّم التجمعات السكنية في ما يُسمى بإسرائيل هو من عشرة مستويات، يمكن رسمها بشكل تصاعدي (من المستوى الأول الذي يمتاز بطبقة اجتماعية - اقتصادية دنيا/ معدومة، حتى المستوى العاشر الذي يمتاز بمكانة اجتماعية - اقتصادية عالية جداً). في تل أبيب الكبرى (تل أبيب وضواحيها) توجد تجمعات سكنية من المستوى الثالث حتى العاشر، وهذه المستويات تم إسكانها في خمس أحزمة من المكانة الاجتماعية / الاقتصادية.
بنحو عام، تبدو العلاقة بين الطبقة الاجتماعية - الاقتصادية، والمنشأ القومي – الطائفي شديدة الصلة في الكيان. فتجمعات المستوى الثالث التي تمتاز بمكانة متدنية جداً تبدو عربية - حريدية (كفر قاسم، جلجولية، قلنسوة وتجمع الحريديم في بني براك كمثال.[7] (تمتاز هذه التجمعات بمستوى دخل متوسط للفرد يصل لحوالي 55% - 60% من الدخل المتوسط في متروبول تل أبيب.
تجمعات المستوى الرابع والخامس ذات المكانة المتدنية أيضاً تشمل بلدات ومدن توجه إليها في الخمسينيات والستينيات مستوطنون كثيرون من دول عربية، وهم متمركزون في الرملة، اللد، كريات عكرون، أور يهودا، بئر يعقوب، بيت دغان، كفار يونا وعدد من القرى العربية: كفر كنا، الطيرة. ويصل مستوى دخل التجمعات ذات المكانة الدنيا إلى حوالي 85% من الدخل المتوسط.
في المستويين السادس والسابع اللذين يتميزان بمكانة متوسطة توجد تجمعات كبرى من مثل: نتانيا، بات يام، رحوفوت، وبيتح تكفا. وتجمعات قروية مرّت بمسيرة تمدّن كبيرة من مثل: نس تصيونا، كديما تسوران، فضلاً عن تجمعات مهاجرين صارت ضواحي مثل روش هاعين. مستوى الدخل المتوسط للفرد في هذه التجمعات يساوي الدخل المتوسط بل يزيد في بعضها ويصل إلى حوالي +15% عن الدخل المتوسط في قلب المتروبول. فيما ترتبط الطبقة الاجتماعية العليا في المستويين الثامن والتاسع في تل أبيب ومدن غفعتاييم وكريات أونو، رمات جان، هرتسيليا، ايفن يهودا. إذ يزيد متوسط دخل الفرد في هذه التجمعات بحوالي 30 إلى 60% عن المتوسط العام. أما تجمعات العنقود العاشر فتشمل الطبقة الأرقى. وهي تضم تجمعات الضواحي مثل: رعوت، كفر شمرياهو، رمات هشارون، نافيه افرايم، ساقيون ورامات هشافيم. تتميز هذه التجمعات بمستوى دخل أعلى بضعفين وأكثر عن متوسط دخل الفرد في تل أبيب. وقد سجلت سافيون الرقم القياسي في الدخل حيث فيها. وبعد ساقيون تأتي بالتدريج نفيه إفرايم مونوسون، رمات هشارون، كوخاف يائير وشوهام.
يكشف التصنيف وفقاً للمستويات عن العلاقة الوثيقة بين التجمعات والبنى الطبقية الاجتماعية. في أسفل درجات المستوى الاقتصادي تقع التجمعات العربية وفوقها التجمعات التي يقطنها مهاجرو الخمسينيات من السفارديم الذين جاؤوا من الدول العربية. ثم في الوسط التجمعات ذات التركيبة السكانية المتعددة من الأشكيناز الهاجرين من أوروبا فترة الخمسينيات.[8]
ما وراء الأرقام:
تشير هذه الأرقام (مع علمنا بأنها متعبة للقارئ) إلى جملة أمور، منها: يحصل التغيير في "إسرائيل" على نحو عمودي. فانخفاض نسبة القاطنين في ضواحي تل أبيب (الطوق الثاني والثالث بلحاظ المركز) تشير إلى تدني نسبة "رأس هرم الطبقة الوسطى" في البلاد من جهة، كما وآثار سياسة "الدولة" الليبيرالية الآخذة في قسمة المجتمع بين طبقات عليا وأخرى متدنية الأجور. ليس هذا فحسب. إن زيادة النمو السكاني في قلب تل أبيب بالرغم من الهجرات الواسعة التي قام بها الأشكيناز ناحية ضواحي كفر شمرياهو، رمات هشارون، نافيه افرايم، تشير إلى أن ثمة طبقة رأسمالية جديدة تحل محل القديمة. وهذه الجديدة ناتجة عن هجرات لرأسمالية جديدة تقتحم قلب المدينة ونواتها. ومع سيطرة الأحزاب اليمينية على مجمل المشهد السياسي، لن يكون من الصعب على القارئ ربط الهجرات الجديدة بالرأسمالية المشرقية السفاردية. إن ضواحي بني براك، وإن لم تكن النموذج الرأسمالي لـ"إسرائيل" الجديدة، هي دون أدنى شك، مثال الثقافة الهوياتية الجديدة. إن تل أبيب منقسمة اليوم بين اتجاهين. وهي أسوة بالمدن الليبيرالية المتشظية مكانياً وطبقياً، ليست حاضرة في تل أبيب نفسها، بقدر وجودها في الضواحي البعيدة (رمات هشارون، نافيه افرايم حيث الرأسمالية الأشكينازية، وفي معاليه أدوميم شرقي القدس وجوش عتصيون في الخليل). ثمة "إسرائيل" جديدة اليوم. وهي متشظية على غير ما عرفناها من قبل.
لقد أدى هذا التحول كله إلى انتقال جزء كبير من الموارد العامة إلى أيدي المستثمرين في القطاع الخاص من أبناء النخب الجديدة. فانعكس ذلك في خلق تبعية متبادلة بين شريحة صغيرة من المبادرين والمستثمرين المنتفعين من الاحتكارات المستجدة وبين شريحة من الموظفين الإداريين في الجهاز الحكومي، وآخرين من سياسيين متنفذين في الأحزاب الكبرى. وقد شكل هؤلاء جميعاً شريحة واحدة ذات مصلحة مشتركة في عدم إعطاء فرصة لمبادرين جدد لدخول السوق الإسرائيلية... وهو ما سنحاول تبيانه بشكل مفصل في الجزء الثاني من المقال.
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق