بقدر ما تتفاقم التناقضات بين المعسكرين العمالي واليميني، يُحسن المعسكر الديني مواقعه ويزيد من مطالبه الدينية. لقد صعدت الأحزاب الدينية في 'إسرائيل'" من خلال اللعب على التناقضات. فبهدف هزيمة الخصم السياسي، عقد القادة الإسرائيليون شراكات خاصة مع وكلاء الله على الارض."
صعود الدينية السياسية في "إسرائيل" (1)
"ثمة وطنان آخذان بالتكوين في إسرائيل: وطن الاسرائيليين ووطن اليهود. أما الاسرائيليون فهم أغيار غرباء يتكلمون اللغة العبرية لا أكثر ولا أقل. وقد انكتهم الحروب وسئموا منها، ونسوا الصهيونية، ولم يعرفوا اليهودية يوماً". الحاخام يسرائيل هارئيل رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية
***
لعب حزبا همزراحي وهابوعيل همزراعي في "إسرائيل" دوراً بارزاً في حرب 1948 من خلال الكيبوتس الديني الذي ساهم في المعارك والعمليات الارهابية. كان هذان الحزبان طليعة الصهيونية الدينية التي باشرت الاندماج في المجتمع الصهيوني باكراً. كان للحاخام موشيه شابيرا – وهو أحد كوادر الحركة المزراحية - دور كبير في توجيه أنشطة عصابات الهاغانا وآتسل. كما شارك الحاخامان شابيرا وفيشمان بتمثيل الحزبين الدينيين في حكومة الحرب الاسرائيلية التي أعلنت عام 1948. وبعد اندماج الحزبين المذكورين ضمن حزب واحد هو حزب المفدال (الديني القومي) عام 1956 شارك المفدال في جميع الحكومات الاسرائيلية، ما خلا فترة قصيرة بين عامي 1958 و1959 عندما أدى الجدال الذي ثار حول مسألة: من هو اليهودي؟ إلى انسحابه المفاجئ والمؤقت من الائتلاف الحكومي. وعلى كل حال، انخراط المفدال في السياسة لم يكن أمراً بلا مسوغ ديني، لذا حاول الحزب تسويغ هذه المواقف من خلال الادعاء بأن مشاركته الدائمة في الحكم تتيح له حماية المصالح الدينية بشكل أفضل مما لو كان في المعارضة.
هكذا عمل المفدال، والأحزاب الدينية عامة، على قولبة الشريعة اليهودية لتتلاءم مع دولة علمانية كافرة ومعتدية وفق قناعات مؤسسيه الأوائل، وكان مبرره على الدوام بأنه يسعى لاضفاء الطابع اليهودي على اسلوب الحياة في "إسرائيل" سلماً وحرباً.
يصف الكاتب أوري افنيري صهيونية المفدال بقوله: "إن الجناح الفعال فيه ذو لون شوفيني غامض وهو الجناح الذي يملي على الحزب الخط والأسلوب".[1]
الصهيونية الدينية، والتاريخ العلماني المتوتر في "إسرائيل":
بقدر ما تتفاقم التناقضات بين المعسكرين العمالي واليميني، يُحسن المعسكر الديني مواقعه ويزيد من مطالبه الدينية. لقد صعدت الأحزاب الدينية في "إسرائيل" من خلال اللعب على التناقضات. فبهدف هزيمة الخصم السياسي، عقد القادة الإسرائيليون شراكات خاصة مع وكلاء الله على الارض. لقد كذي القادة العلمانيون على انفسهم باعتمارهم (القلنسوة الدينية) - الكيباه - وبالركوع أمام الحاخام بابا سالي والحاخام لوبا فيتش والحاخام شاخ.
"ان قوة الاحزاب الدينية لم تنبع من داخل اليهودية الأصولية بل من رشاوى اليسار واليمين المتعطشين دوما للسلطة" يقول سامي ميخائيل[2].
هذا يفيد بأن اليهودية الحريدية جمعت القوة من غروب شمس الصهيونية العلمانية ووقوعها في أوحال التآمر الرخيص من أجل السلطة. هكذا سعت الاحزاب الدينية المشاحية والحريدية واليهودية المسيطرة على القرار الديني لجعل "إسرائيل" دولة تخدم الشريعة اليهودية طالما أن دولة الشريعة لن تقوم إلا بمجيء المخلص.
متى ابتدأ كل هذا؟
فرضت حرب عام 1967 على المجتمع الصهيوني إعادة ترتيب الأولويات اليهودية والصهيونية في قالب جديد، بعدما تغلغلت التيارات الدينية إلى داخل قطاعات العلمانية في حزب العمل وإلى داخل الصهيونية الليبرالية. وإذا كانت الصهيونية الدينية قد اتسمت، حتى حزيران 1967، بالاعتدال في السياسات الداخلية والمطالبة بتطبيق تعاليم "الهالاخاه" - الشريعة في قوانين وتشريعات الدولة والسياسة الخارجية -، فان هذا الوضع تغير بصورة راديكالية بعد عام 1967، بحيث أضفى اليهود المتزمتون وزناً لاهوتياً على المطالبات السياسية بضم الأراضي العربية المحتلة. وهو ما انعكس سياسياً بنحو حاد بعيد انقلاب عام 1977 الذي نقل دفة السلطة إلى اليمين الصهيوني الشوفيني.
في تلك المرحلة بالتحديد، تزايدت قوة التوجه المشيحاني في كل من اليهودية والصهيونية، بحيث حذر المفكر الصهيوني جرشون شالوم مرة من هذا المنزلق الأيديولوجي السياسي البعيد عن الواقعية بقوله: "أعتقد أن كارثة عظمى ستحدث اذا ما قام الصهاينة أو الحركة الصهيونية باستبدال أو طمس معالم الحدود بين المسار الديني المشيحاني وبين الواقع السياسي التاريخي"[3].
والحقيقة أن الصعود الديني كان يأخذ مجراه شيئاً فشيئاً، حين برزت نقاشات سياسية من نوع جديد داخل تيار المفدال الديني، والذي كان متماهياً مع حزب العمل تحت سقف "الوضع القائم" في علاقة الدين بالدولة. إذ وبعيد حرب 1967 اعتبرت التيارات الدينية أن "هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية لبداية الخلاص المشيحانية"[4].
بناءً عليه، جاءت الدعوة الى عدم التنازل عن أية قطعة من أرض احتُلت عام 1967 من منطلق أولوية فرض الشريعة وعدم جواز التخلي عن أي أرض تبسط فوق ظلالها الشريعة الموسوية.
قد تجلى نشاط الاحزاب الدينية بادئ الأمر بزيادة نشر التعليم الديني، والمزيد من الانخراط في النشاط السياسي والاستيطاني في المناطق العربية المحتلة.
وقد بلغ هذا النشاط أوجه بظهور "الحركة السرية اليهودية" التي قام اعضاؤها بسلسلة من الأعمال الإجرامية والإرهابية ضد المواطنين العرب. مترافقة مع أعمال عنصرية أخرى للحاخام مئير كاهانا ضد المواطنين العرب ومقدساتهم، جنبا لجنب مع أعمال مماثلة مارستها تنظيمات تنتمي إلى بعض الأحزاب الدينية مثل غوش ايمونيم (كتلة الايمان).
أثر الأحزاب الدينية في صنع سياسات الدولة:
اكتسبت الأحزاب الدينية من خلال القوة التي حققتها في التمثيل الحزبي مجالاً واسعاً للمناورة، جعل منها تتحدث جهاراً عن احتمال تعديل اتفاقية "الوضع القائم" التي عقدت بين بن غوريون وحزب أغودات يسرائيل عام 1947 (وهي الاتفاقية التي ارست ملامح العلاقة ما بين الدين والدولة في "اسرائيل" إلى اليوم، خاصة في كل ما يتعلق قضايا التربية التعليم والأحوال الشخصية). ومع ذلك، لا يمكن الحديث عن التيار الديني ككتلة واحدة. أقله منذ نهاية الحرب الباردة وبداية التسعينيات. ففي التسعينيات سرعان ما انفجر الاءتلاف الديني بعيد عملية التسوية التي شرعت الولايات المتحدة في رعايتها في أعقاب حرب الخليج الثانية. وقد وقع الخلاف بشكل رئيس بين دعاة التنازل عن أجزاء من الأراضي المحتلة عام 1967، وعلى رأسهم حزب شاس، وبين دعاة ما يسمى "اسرائيل الكبرى"، وعلى رأسهم حزب المفدال الحليف التاريخي لحزب مباي/ الليكود. الأمر الذي تصاعد بصورة دراماتيكية وأفضى إلى هدر دم رئيس الحكومة اسحق رابين بفتوى شرعية من قبل الأصولية اليهودية.
لقد جاء اغتيال رابين مع أخبار تناقلتها الصحف الإسرائيلية مفادها أن ثلاثة من الحاخامات المعروفين طالبوا باصدار حكم الموت على رابين بسبب التسوية، وذلك من خلال إخضاعه لما يسمى في المصطلح الديني اليهودي "دين موسير" أي حكم الخائن الذي يعرض المتهم بنقل معلومات أو ممتلكات تخص شخص يهودياً إلى شعب أجنبي للخطر. حصل هذا مترافقاً مع فتوى 1500 حاخام يتقدمهم الحاخام الأكبر السابق يعقوب شابيرا بعدم جواز إخلاء القواعد العسكرية في الضفة والقطاع. آنذاك، طالبت الفتوى الجنود بعدم إطاعة الأوامر العسكرية الخاصة بالانسحاب تنفيذاً لاتفاقات أوسلو لأن الانسحاب المقترح يعرض حياة السكان للخطر بل ويهدد وجود "إسرائيل" وينذر بوقوع فتنة بين الجيش والشعب.
ولعل بعض الحاخامات كان قد ذهب أبعد من ذلك عندما رأى أن الحكومة نفسها تفتقد إلى الشرعية وبالتالي فإن أوامر الجيش غير شرعية. فارتفعت أصوات بعض الحاخامات منادية بالانفصال عن العلمانيين لأنهم يرفضون التراث والتقاليد اليهودية ويظهرون العداوة للمستوطنين.
انتخابات عام 1996، والصعود السريع للدينية السياسية:
ضاعف تطبيق "إسرائيل" لنظام الانتخاب المزدوج لكل من رئيس الحكومة وأعضاء الكنيست، كلّ على حدة، عام 1996، حضور الأحزاب الدينية في "إسرائيل"، إذ سمح النظام الإنتخابي الجديد للناخبين المتدينين بالكسب المزدوج، إذ صار بوسعهم التصويت لأحزابهم وقوائمهم الخاصة، إلى جانب تصويتهم لصالح رئيس الحكومة اليميني (عادة). في حين أن الهدف من وضع النظام الانتخابي الجديد كان الحد من ابتزاز الاحزاب الصغيرة وخاصة الدينية منها اثناء تشكيل الحكومات الاسرائيلية.
وكان السبيل إلى ذلك تقوية رئيس الحكومة تجاه الكنيست وأعضاء الحكومة من غير حزبه بإعطائه الحق بحل الكنيست. إلا أن القانون الجديد أوجد نظاماً هجيناً يخلط ما بين النظامين الرئاسي والبرلماني. وقد أدركت الأحزاب الدينية (وخاصة المفدال وشاس) أن ائتلافاً يمينياً من الليكود وجميع أحزاب اليمين والوسط لن يتمكن من تشكيل ائتلاف حكومي يحظى بثقة الكنيست من دونها، فعادت إلى ممارسة لعبة "بيضة القبان"، الأمر الذي دفع باليمين واليسار على حد سواء إلى الاقتناع بضرورة العودة إلى النظام القديم واختيار أهون الشرين. وهكذا تمت المصادقة على إلغاء نظام الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة واعتماد تعيين رئيس أكبر الأحزاب وأقواها كمرشح لترؤس الائتلافات الحكومية المقبلة.
أما بالنسبة للمصالح التي ترتكز عليها الأحزاب الدينية وتسعى لابتزازها من اي حكومة، فهي أولاً تعديل قانون العودة وترسيخ شروط "الوضع القائم" والمطالبة بالمزيد من المناصب والمسؤوليات الوزارية والسياسية (خمس وزارات على الأقل) وبالمزيد من المخصصات المالية لمؤسساتها ومدارسها، وتوسيع صلاحيات القضاء الديني، وعدم إصدار أي تشريع من قبل القضاء المدني يتعلق بشؤون الدين والأحوال الشخصية، والاستمرار في إعفاء الشباب المتدين من الخدمة العسكرية. ومن أجل الحيلولة دون تشكيل حكومات وحدة وطنية، طالبت الأحزاب الدينية بعدم ضم أية كتلة برلمانية جديدة إلى الإئتلافات إلا بموافقتها.
كنموذج لفهم نفوذ هذه الأحزاب مرحلة التسعينيات، يكفي أن نتطلع إلى فضيحة "بار أون" عضو اللجنة المركزية لحزب الليكود وقتها، بعدما تم تعيينه كمستشار قانوني لحكومة نتنياهو عام 1996، نتيجة صفقة ما بين آرييه درعي زعيم حزب شاس ونتنياهو، اذ هدد درعي نتنياهو بأنه لن يصوّت، ومعه نواب حزبه العشر، إلى جانب اتفاق الخليل مع ياسر عرفات، ما لم يتم تعيين بار أون في المنصب، آملا في أن يبرئه ذلك من قضايا الفساد والاختلاس التي تلاحقه (أي آرييه درعي).
ولم يمض الكثير من الوقت، حتي نشبت أزمة حكومية جديدة سببها أحد أعضاء حزب المفدال الذي هدد بالاستقالة من الائتلاف الحكومي بعد أن تم تعيين قضاة من المتدينين (الحريديم) وقاض واحد من المتدينين الصهيونيين في المحاكم الشرعية، مما دفع بالمفدال إلى التهديد بالتصويت ضد الحكومة في الكنيست وحجب الثقة عنها. هكذا، تتابعت الأزمات الحكومية الواحدة تلو الأخرى على خلفية النزاعات المتتالية بين اليهود المتزمتين والإصلاحيين، الأمر الذي كشف عورات وعيوب النظام الانتخابي المزدوج الذي لم يحل مشكلة الممارسات الابتزازية للأحزاب الدينية.
في انتخابات عام 1999 للكنيست الخامس فاز زعيم حزب العمل ايهود باراك وفشل نتنياهو. وفي هذه الانتخابات حصل حزب مفدال على خمسة مقاعد فقط بعد أن كانت لديه تسعة مقاعد في الكنيست الرابع عشر عام 1996. فيما حصل حزب شاس على 17 مقعداً، أي بزيادة سبعة مقاعد عن الدورة الانتخابية السابقة، وحصل "ديغل هاتوراه" على خمسة مقاعد. وبذلك تصاعدت القوة التمثيلية للاحزاب الدينية في الكنيست لتصل إلى 27 مقعداً من أصل 120، وهذه كانت أعلى نسبة تمثيل في تاريخ "إسرائيل"، الأمر الذي دفع بأحد الحاخامات للقول "لقد حولنا الكنيست الى كنيس".
Related Posts
صحيفة الخندق