عشية الحرب على أوكرانيا، ومع فرض الغرب عقوباته على روسيا، بدت "إسرائيل" قلقة من العقوبات الغربية على موسكو. واقع الأمر، كانت مخاوف تل أبيب متمحورة حول ما يمكن أن تطاله العقوبات من شركات إسرائيلية ومستثمرين صهاينة في روسيا. التقارير الاقتصادية الاسرائيلية عشية العقوبات ما انفكت تكرر مخاوفها من تضرر عدد من قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي بشكل جدي؛
تقدير موقف: العلاقات الروسية - الإسرائيلية (2)
عشية الحرب على أوكرانيا، ومع فرض الغرب عقوباته على روسيا، بدت "إسرائيل" قلقة من العقوبات الغربية على موسكو. واقع الأمر، كانت مخاوف تل أبيب متمحورة حول ما يمكن أن تطاله العقوبات من شركات إسرائيلية ومستثمرين صهاينة في روسيا. التقارير الاقتصادية الاسرائيلية عشية العقوبات ما انفكت تكرر مخاوفها من تضرر عدد من قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي بشكل جدي؛ "إسرائيل اليوم" ما انفكت تشير إلى الخسائر التي ستتكبدها الشركات؛ القمح، الحبوب، والفحم ستكون أول القطاعات المضررة. الاستثمارات الإسرائيلية في مجال العقارات في روسيا كانت عرضة للضرر إذا ما اهتز الاقتصاد الروسي، ناهيك عن قطاع المجوهرات. يستورد التجار الإسرائيليون من روسيا المجوهرات الخام ثم يعيدون صقلها وتصديرها إلى الأسواق العالمية. بحسب مكتب الإحصاء الإسرائيلي المركزي، فإن حجم استيراد المجوهرات من روسيا بلغ في العام 2021، 688 مليون دولار، بينما بلغت باقي أصناف الاستيراد مجتمعة ما قيمته 275 مليون دولار. الأرقام لم تكن لغة الإعلام الإسرائيلي بأسره. يمكننا لحاظ حضور هذه الأرقام في الصحافة ذات الميول اليمينية دون سواها. وعلى عكس هآرتس، تبنت "إسرائيل اليوم" لغة الأرقام مظهرة مخاطر العقوبات الغربية على موسكو. هذا ليس تفصيلاً في الإعلام الإسرائيلي.
تصريحات لافروف حول الأصول اليهودية لهتلر في حواره مع قناة "زونا بيانكا" الإيطالية كانت هي الأخرى محط جدل وتباين في الآراء داخل تل أبيب. اللافت مجدداً، كان حجم تباين آراء أقطاب السياسة الإسرائيلية وموقفهم من تصريحات لافروف.[1] فأقسى ردود الفعل الإسرائيلية جاءت على لسان وزير الخارجية السابق يائير لبيد الذي وصف تصريحات لافروف بأنها "عنصرية، وكلام لا يغتفر، وخطأ تاريخي فظيع"، وبأن "اليهود لم يقتلوا أنفسهم في الهولوكوست". لابيد نفسه كان له عدد من التصريحات التي هاجمت روسيا وعملياتها في أوكرانيا. وهو اتجاه لم يمض به رئيس الحكومة آنذاك نفتالي بينيت، الذي حرص على تأكيده حياد "إسرائيل" في أوكرانيا، داعياً إلى تجنب استخدام المحرقة وذكراها في أي هجوم سياسي.[2] الأمر تجدد بعيد إلقاء زيلينسكي كلمة له في الكينيست الإسرائيلي في 20 آذار 2022. خطاب زيلينسكي ذاك عمّق الفجوة بين بلاده و"إسرائيل". هاجم نفتالي بينيت زيلينسكي بعيد الخطاب مباشرة. فيما انتقد عدد من أعضاء الكنيست الخطاب بشكل صريح.[3] نقد أعضاء الكينيست اليمينيين ركز على مسألة واحدة؛ رفض تشبيه زيلينسكي ما يفعله الروس في أوكرانيا بالنازيين. في العمق لم تكن الإشكالية مسألة أخلاقية، بقدر ما كانت مسألة مشروعية؛ من غير المسموح تأسيس حكاية أخرى للمظلومية اليهودية غير تلك التي قدمتها الصهيونية بداية القرن الماضي. رواية زيلينسكي - فيما لو نجح الرجل في مواجهة روسيا - ستكون بمثابة تهديد هيستوغرافي للفكرة الصهيونية برمتها. نعم، يمكن لليهودي أن يعيش خارج "إسرائيل" وأن يكون "قائداً وطنياً ناجحاً". لا يمكن قراءة المشهد الإسرائيلي بعيداً عن هذا المُعطى، كما لا يمكن فهم النظرة الإسرائيلية لزيلينسكي بغير هذا المنظار؛ إن أي نجاح لزيلينسكي يعني خداع الصهاينة لليهود. "فإسرائيل" ليست مأمن اليهود الوحيد، كما أنها ليست قدرهم الوحيد.
لفهم المنطق الإسرائيلي هذا، ينبغي على القارئ العودة إلى مرحلة على غاية من الأهمية في قراءة المسألة اليهودية عامة في شرق أوروبا (موطن الفكرة الصهيونية بنسختها الأولى). فمن غير الممكن فهم النخبة الإسرائيلية بعيداً عن "النص المؤسِّس للفكرة الصهيونية" وأثره داخل البيئة اليهودية. المرحلة الممتدة بين المؤتمر الصهيوني الثالث عشر المنعقد في كارلوفي فاري في تشيكوسلوفاكيا سنة 1923، والمؤتمر السادس عشر للصهيونية المنعقد في زيوريخ في سويسرا سنة 1929 تكشف اللثام عن كثير مما نعيش الآن. في المؤتمرين، كان انشغال المجتمعين في نقطة محددة وحاسمة. ما الموقف الصهيوني من اليهود اللامؤمنين بالصهيونية في أوروبا؟. في زيوريخ حسم الصهاينة أمرهم؛ علينا دمج غير الصهاينة بالوكالة اليهودية بغض النظر عن موقف غير الصهاينة العقائدي والسياسي من الصهيونية، كما وعلى اليهود الألمان الكف عن الدعوة لنيل الحقوق المدنية في ألمانيا. هدفَ موقف حاييم وايزمان - المؤيد لهذا الخيار – إلى الاستحواذ على الصوت اليهودي في الغرب. يُمنع على أوروبا سماع أي صوت يهودي غير صهيوني فيها. وبالتآزر مع "ألفريد روزنبرغ - Alfred Rosenberg" (المنظر السياسي النازي ومؤلف كتاب "محاكمة اليهود في العصور المتغيرة" عام 1927) راح الإثنان يجدّان السير في بناء سردية اليهودي/الصهيوني المُستضعف. اتفاقية "هعفراه - העברה" (العبور أو الانتقال) بين الوكالة اليهودية والنظام النازي عام 1933 كانت تتويجاً لجهود الطرفين، إذ سمحت الاتفاقية بنقل رؤوس أموال اليهود الألمان المهاجرين إلى فلسطين مقابل الغاء الصهيونية حصارها الاقتصادي على البضائع الألمانية.[4] ومع ذلك، ظل اليهود الأوكران معضلة تؤرق الحركة الصهيونية، بعدما اعتبرت حركة بريسلوف الحسيدية (إحدى أكبر الجماعات اليهودية الصوفية) أنها غير معنية بالصهيونية. هكذا ظل يهود أوكرانيا لفترات طوال خارج النسق الذي أرادته الصهيونية لهم. فوجدوا أنفسهم على الدوام عند مفترق طرق بين القوى المتصارعة. وربما كانت الفترة من 1917 حتى 1920 خير مثال على ذلك. فقد ألغى السوفييت منطقة الاستيطان (التي تلزم اليهود بالبقاء في مناطق محددة) وأسس الأوكرانيون مجلساً قومياً أعلن استقلال أوكرانيا عن روسيا، وعقدوا تحالفاً مع اليهود في أوكرانيا وجاليشيا لمقاومة النفوذ البولندي. وفي ظل منطقة تعج بالصراعات العسكرية العديدة (كان هناك جيش أوكراني تحت قيادة سيمون بتليورا يواجه الاحتلال الألماني، بمساعدة من الفلاحين والقوزاق، وكان هناك الجيش الروسي الأبيض أو جيش المتطوعين المعادي للبلاشفة تحت قيادة دينيكين، كما كان هناك الجيش الأحمر) توزع اليهود على مختلف هذه القوى.
ومع ذلك، وبحلول عام 1922، كان الآباء اليهود يفضلون إرسال أولادهم إلى المدارس التي تعلِّم الروسية بالرغم من الاعترف الأوكراني باليديشية كلغة رسمية، ومع فتح مدارس تابعة للنظام التعليمي الييديشي السوفياتي. وتلك نقطة على غاية من الأهمية في مقاربتنا للصهيونية والأزمة الأوكرانية اليوم. لا تختفي ندوب الماضي بسهولة في الشخصية اليهودية، كما أن هواجس سرعان ما تنبعث عند كل تحدٍّ، وهو ما يهدد تماسك الإسرائيليين في رؤيتهم وتطلعهم. زيلينسكي في هذا الموضع ليس حالة استثنائية. هو معضلة لا تبارح فكر الصهاينة اليوم؛ ماذا لو نجح اليهود خارج "إسرائيل"؟. وبقولنا ذلك لا نروم للرجل مكانة أو شرفاً (هو نفسه لا يدعيه) بل نحاول أن نستقرئ عدونا من داخل منطقه الخاص.
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق