Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

'إن هؤلاء اليهود الذين ولدوا يهوداً بالمصادفة فقط، هم مرضى انفصام الشخصية واغتراب الهوية. والحق أنهم هم، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، مَن يمثلون الخطر المحدق بالدولة اليهودية وبشعب الله المختار'". مائير كاهانا مؤسس حركة كاخ"

بشار اللقيس

صعود الدينية السياسية في "إسرائيل" (2)

"إن هؤلاء اليهود الذين ولدوا يهوداً بالمصادفة فقط، هم مرضى انفصام الشخصية واغتراب الهوية. والحق أنهم هم، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، مَن يمثلون الخطر المحدق بالدولة اليهودية وبشعب الله المختار. إنهم يخربون البلاد من الداخل، فما العمل لمواجهتهم؟ كيف نحاربهم؟ كيف نتحرك بسرعة، وبأية وسائل؟ الجواب هو في تخليص أنفسنا من القراءة المتطرفة لقاعدة "حبّ اليهودي لأخيه اليهودي". مؤسس حركة كاخ مائير كاهانا.

***

إنه العام 1995، المكان "مستوطنة كريات أربع" بالقرب من الخليل. جماعات من المستوطنين تحتفل بعيد المساخر اليهودي. أجواء هستيرية تعم الحفل. أطفال يرتدون أزياء تنكرية على شكل حيوانات؛ قطط، جراء، خنافس، وأسود. شيوخ كبار يرتدون أزياءً للهنود الحمر، الأفارقة، المغاربة، المكسيكيون. المفارقة كانت في أن ذلك النهار كان قد صادف ذكرى مرور عام على مجزرة الحرم الإبراهيمي ما أضاف على الحفل مزيداً من الهستيريا. أحاول استعادة مشاهدة أرشيفية لذلك النهار. في أحد الفيديوهات تظهَر ملامح الاستغراب على وجوه الجنود الإسرائيليين. على الشاشة  يظهر أحد المحتفلين وهو يرتدي زي طبيب أبيض، وعلى كتفيه رتبة عسكرية كالتي ارتداها باروخ غولدشتاين عند ارتكابه مجزرة الحرم الابراهيمي قبل عام من ذلك النهار. يضع الشاب الظاهر على الشاشة ورقة مكتوباً عليها "باروخ القديس الذي يطلق النار.. ويثق الله به". يقترب الشاب من الكاميرا ليقول: "غولدشتاين بطلاً بالنسبة لي، لذلك أنا ارتدي زياً كزيه... إنه بطلي". لوهلة أشعر أني أعرف ذلك الشاب. أعيد المشهد مرة، مرتين. هذا هو... إيتمار بن جفير قبل ستة وعشرين عاماً. "فتى المساخر" هذا صار اليوم زعيماً لحركة "قوة يهودية" وبات جزءًا من نسيج "إسرائيل" السياسي.

البعض يقول أن مصالح نتنياهو هي التي أفضت إلى حالة "الوضع القائم" اليوم. آخرون يحملون المسؤولية لليمين؛ مجمل اليمين. الحقيقة تبدو أصعب وأمرّ، "قوة يهودية" ليست نتاجاً طارئاً على الحياة السياسية. يكفي أن نعرف أن قبول ترشيخ بن كفير، وبتزي غوبشتاين، وباروخ مرزل، من قبل لجنة الانتخابات العليا تم بتواطئ من حزب العمل عندما تغيب سامي شوشان - صهر عمير بيرتس، عن التصويت قبل أشهر. ولولا رفض المحكمة العليا ترشيح الأخيرَين لكان الثلاثة اليوم في الكينيست الإسرائيلي.

ما الذي حدث في كل هذه السنوات؟

قبل 25 سنة تقريباً، دخل باروخ غولدشتاين إلى الحرم الإبراهيمي وأطلق النار على المصلين. قتل 29 مصلياً وجرح 125 منهم. كان غولدشتاين عضواً في منظمة "كاخ" وفي مجلس "كريات أربع". خلال السنوات الخمس والعشرين، حاول النظام الإسرائيلي دفع كهانا إلى الخليل لابعادها عن الحياة السياسية في تل أبيب. بعد ربع قرن تبدو الأمور على غير حال. ليس من المصادفة أن يكون ثلاثة من الأعضاء الأربعة الكبار في حزب "قوة يهودية" (بنزي غوبشتاين، وباروخ مرزل، وإيتامار بن غفير) من الخليل. كاهانا ما زال على قيد الحياة، وأبناؤه نزلوا اليوم من الخليل إلى الساحل الإسرائيلي. لم تنجح السياسة الإسرائيلية في "ضم المناطق" (أي تلك التي اتبعها نتنياهو لضم المناطق الاستيطانية في الضفة)، هذه الأراضي هي التي ضمت "إسرائيل". لقد ابتلعتنا الخليل تقول يديعوت أحرونوت[1]، "الخليل لا إسرائيل" هي من باتت أولاً وقبل كل شيء.

أساس المعضلة:

خلال القرن الثامن عشر، أسس الحاخام إسرائيل بن أليعازر (1700-1760)  في أوروبا الشرقية حركة صوفية شعبية أطلق عليها تسمية الحسيدية. إلى حد كبير، لعب بن أليعازر (والذي صار يُعرف باسم "بعل شِم توف" ويعني "سيد الإسم الجيد") دور "مارتن لوثر" داخل الحاضنة اليهودية. من جبال أوكرانيا، راح إسرائيل يداوي المرضى ويساعد الفقراء. كان همه الأول انتشال الكابالاه وتعاليمها من سلطة الحاخامية النصية، وإعادة انتاج فهم مختلف للدين قوامه الروحانية البهيجة. كان ثمة ضرورة بالنسبة له في استعادة التصوف من فضائه الانعتاقي الحزين، واستبداله بجملة ممارسات شعائرية بهيجة؛ من قراءة وصايا الله (ميتزفوت)، والصلاة القلبية، وصولاً للحب الذي لا حدود له لله والعالم. كانت الحسيدية مدرسة تجديدية في مناهج التصوف اليهودي ومسالك تأويل (القبّالة). شجعت الحسيدية اليهود الفقراء والمضطهدين في أوروبا في القرن الثامن عشر على أن يكونوا أقل أكاديمية وأكثر عاطفية. لقد فتحت الحسيدية لليهود آفاقاً شعورية مختلفة، حتى باتت الوسيلة التي يمكن من خلالها للجماهير غير المتعلمة العيش حياة يهودية أكثر عمقاً وسلاماً.

مع مرور الوقت، انقسمت الحسيدية إلى مجموعات مختلفة، تولى كل منها أحد المتصوفة ممن ينظر إليه المؤمنون باعتباره أحد الصديقين أو الأبرار المخفيين[2]. الحاخام ناخمان من بريسلوف حفيد إسرائيل بن إليعازر لناحية الأم كان أحدهم. واجه نخمان الفلسفة باعتبارها هرطقة، وركز أكثر على القلب كقوة مدركة. فيما نحت كتابات حباد لشنيور زلمان من ليادي Shneur Zalman Baruchovitch/ Zalman of Liady (مؤسس الحركة الحبادية)، إلى توحيد الفلسفة والتصوف في معنى ديني. من خلال الآية التوراتية "من جسدي أرى الله" انتقل زلمان إلى مفهوم آخر لمعنى الجسد والزمن، فصارت حركته الأكثر تأثيراً في العالم الحسيدي[3]. خلفه بعد عقود مناحيم مندل شنيرسون (غير مناحيم مندل - صهر الحاخام إسرائيل فريدمان – المتوفى سنة 1884)، وهو الرجل الذي أقام "العروة الوثقى" بين التيار الحسيدي الأميركي والمحافظين الجدد من جهة، والحسيدية الإسرائيلية بشكلها الراهن. سطوة شنيرسون على الساسة الإسرائيليين جعلت منه قبلة وجهتهم بالرغم من أنه لم يسكن "إسرائيل" يوماً.

لا يمكن فهم الواقع الإسرائيلي اليوم بمعزل عن شنيرسون وغيره من دعاة الحسيدية من جهة، كما وآخرون من الحاخامية التقليدية من أمثال الحاخام أفراهام إسحق كوك. فعلى يديهما، وأيدي أبنائهما تُجسر الهوّة بين التيارين الديني والقومي. لم تكن "إسرائيل" لتكون اليوم "حجر أساس قيام عرش الربّ على الأرض" – بحسب تعبير أفراهام كوك - لولا تلك المدارس الاجتهادية[4]. والأخيرة، بالمناسبة، تكاد تكون غائبة (بحضورها وفلسفتها) بشكل كلي عن مواطني الساحل الإسرائيلي. تلك هي العقيدة التي ستقوم عليها كل جماعات التطرف الصهيوني. "غوش إيمونيم"، "شبيبة التلال"، "حركة كاخ"، "أمناء الهيكل" وغيرهم من الحركات الاستيطانية.

***

نذر حرب أهلية!

لم تتجسد الكاهانية الصهيونية (وهي أحد اتجاهات الصهيونية المتطرفة) يوماً بمثل ما تجسدت في شخص وأفكار الحاخام مئير كاهانا. ولد مارتن ديفد، الذي عُرف في ما بعد بمائير كاهانا في الأول من آب من العام 1932 في نيويورك. وفيها درس العلوم اليهودية. انضم كاهانا إلى حركات "بيتار" و"بني عكيفا"، ثم أسس "لجنة حماية اليهودية" عام 1968 في الولايات المتحدة. في العام ذاته اسس كهانا حركة "كَاخ" (أي "هكذا" في اللغة العبرية) التي ركزت على هدفين رئيسيين: 1- ضمان اتساع حدود الكيان الصهيوني ليشمل جميع أجزاء ما يُسمى بـ"أرض إسرائيل التاريخية"، مع نقل جميع السكان العرب إلى خارج حدود الكيان. 2- تحويل النظام السياسي للكيان الصهيوني لنظام ديني، تطبق فيه أحكام الشريعة اليهودية تطبيقاً كاملاً. ركز كاهانا في دعايته على الهدف الأول، دون ذكر الهدف الثاني. كهانا كان الصيغة القصوى لانصهار الحسيدية بالكهانية والصهيونية بأقصى تجلياتها. دعا كاهانا إلى المواجهة الشاملة مع "اليهود الهيللينيين"، أولئك الذين نقلوا الثقافة الغربية إلى التوراة، وجلبوا أوبئة الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية. وفي كتابه الأشهر "أربعون عاماً" كتب يقول: "هذه بلاد تنغل بالهيلينية، وبالغوييم (الذين لا يجمعهم بالدين سوى النطق بالعبرية، والذين تتضخمت عندهم نزعة الأنا إلى حدّ الدوس على الهيكل ونسف الديانة. الهيلينيون يسرحون ويمرحون في أرض الرب؛ وحين انفصلت اليهودية عن الصهيونية، باتت هذه الأخيرة مجرد شكل من النزعة القومية الكريهة. اليهودي ضدّ الهيليني، هذه هي المعركة الحقيقية الوحيدة. إن هؤلاء اليهود الذين ولدوا يهوداً بالمصادفة فقط، هم مرضى انفصام الشخصية واغتراب الهوية. والحق أنهم هم، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، مَن يمثلون الخطر المحدق بالدولة اليهودية وبشعب الله المختار. إنهم يخربون البلاد من الداخل، فما العمل لمواجهتهم؟ كيف نحاربهم؟ كيف نتحرك بسرعة، وبأية وسائل؟ الجواب هو في تخليص أنفسنا من القراءة المتطرفة لقاعدة "حبّ اليهودي لأخيه اليهودي"[5].

... يُتبع


[2]  الأبرار المخفيون أو اللاميد فافنيكس بحسب المصطح الييدشي (לאמעד וואווניק): هو إسم يطلق على كل واحد من الصالحين المتواضعين الـ36 المذكورين في القبالة الباطنية. ووفقاً لهذا الاعتقاد، فإن الأرض لا تخلو من 36 شخصاً مقدساً من الصالحين. هؤلاء الناس مخفيون ومحجوبون عن الأنظار. أي لا يعرف حقيقتهم أحد. وقد لا يعرفون حقيقة أنفسهم هم أيضاً. من أجل هؤلاء الصالحين الـ36 المختبئين، يحفظ الله العالم حتى لو انحدرت البشرية إلى مستوى البربرية الكلية. وبما أن أحداً لا يعرف من هم، ولا حتى هم أنفسهم. يستوجب على كل يهودي التصرف كما لو كان أحدهم.
[3]  أوضح زلمان المعنى الداخلي أو "الروح" للتوجه الصوفي اليهودي بطريقة عقلانية باستخدامه تشبيهاتٍ مستمدةً من واقع الإنسان. وهو ما يمكن أن يمكن العقل البشري من إدراك مفاهيم التقوى. وصل هذا التطور - الذي بلغ ذروته في التعاليم اليهودية الصوفية - بين الفلسفة والتصوف من خلال التعبير عن التعالي بمصطلحاتٍ إنسانية. Immanuel Etkes; Rabbi Shneur Zalman of Liady: The Origins of Chabad Hasidism, Amazon, December, 2014
[4]  عشية انتصار الإسرائيليين في حرب حزيران عام 1967، توجه الحاخام تزفي يهودا - إبن افراهام كوك – سائلاً: "أين الخليل التي تخصنا نحن؟ أين أريحا التي لنا؟ هل سننسى أريحا؟ وماذا عن الضفة الأخرى من الأردن؟ إنها ملك "إسرائيل" في كل شبر منها، فمنذا الذي يملك الحقّ في التنازل عن متر واحد منها؟". الأرض بحسب حاخامية كوك – الإبن لها موقع خاص من القداسة. القداسة في فقه الحاخامية لا علاقة لها بالسياسات والحسابات والشرائع محلية كانت أم دولية. قداسة أرض "إسرائيل" هي كيفية روحية خصّ بها يهوه بني إسرائيل. "الربّ هو الذي قرّر أننا الشعب المختار مرّة وإلى الأبد، وهذه حقيقة واقعة تخصّ الأرواح كما الأبدان، وحقيقة واقعة تخصّ الأرض المقدسة التي اختارها الرب لتكون صهيون إسرائيل. إسرائيل الكبرى هي الأرض المقدسة الشاملة التامة، وهي الشعب المختار شاملاً تامّاً" يقول تزفي يهودا. https://bit.ly/3u6WQwz
[5]  Rabb Meir Kahane, The Ideology of Kach, amazon, June, 2012, p 65.

"

رئيس تحرير صحيفة الخندق