الدخول الى لبنان عام 1958، كان أول عملية عسكرية تشنها القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وضع على إثرها الجنود الأميركيون في أوروبا وأميركا في حالة جهوزية للإسناد والدعم
المارينز والوحل اللبناني
الدخول الى لبنان عام 1958، كان أول عملية عسكرية تشنها القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وضع على إثرها الجنود الأميركيون في أوروبا وأميركا في حالة جهوزية للإسناد والدعم.
حينها، كان "دوايت آيزنهاور" أول رئيس أميركي يحدد الأهمية التي يمثلها الشرق الأوسط بالنسبة لجشع واشنطن، وخصوصاً لبنان، مشيراً إلى أهمية موارده النفطية الضخمة ودوره في تهديد الكيان الإسرائيلي، وطبعاً، إلى أهمية موقعه الاستراتيجي وتنوعه الطائفي. فكان لبنان 1958، المحطة الأولى للولايات المتحدة الأميركية التي استقرت بها، والتي اعتمدتها كمنصة متقدمة للسيطرة على الأوضاع التي تزامنت مع دخولها، حيث فوجئت إدارة "آيزنهاور" بالإنقلاب الذي حصل في بغداد عام 1958 (على يد عبد الكريم قاسم الذي أنهى الملكية العراقية الهاشمية بقيادة الملك فيصل)، كما استشعر الرئيس الأميركي أن الاتحاد السوفياتي يحضر له انقلاباً سيقود إلى انهيار جميع الحكومات الموالية للغرب في المنطقة، وبالتالي سيطرة الشيوعيين.
في 15 تموز 1958، أي بعد يوم واحد من انقلاب بغداد، دخل لبنان في أزمة سياسية، تدخل على إثرها الجيش الأميركي بناءً لطلب رئيس الجمهورية آنذاك "كميل شمعون"، الذي أعلن تقربه من حلف بغداد الموالي للغرب، مما أثار تحفظ عبد الناصر ورئيس الوزراء اللبناني آنذاك رشيد كرامي، كما اعتبر عبد الناصر موقف "شمعون" تهديداً للقومية العربية، خصوصاً بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا، باسم "الجمهورية العربية المتحدة".
عقب ذلك، تحركت بعض القوى اللبنانية التي رفضت العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الدول التي شنت الحرب على مصر عام 1956 (العدوان الثلاثي – حرب السويس)، مما استدعى الرئيس شمعون الى المسارعة في طلب مساعدة الولايات المتحدة الأميركية، للتدخل ودعم حكومته الموالية للغرب (كما طلب شمعون أيضاً مساعدة الإسرائيليين يومها، وقد حصل على شاحنة محملة بـ 500 بندقية).
سارعت إدارة "آيزنهاور" إلى تلبية نداء شمعون، وكان هذا التدخل (الاجتياح) أول أشكال الديموقراطية الكاذبة التي تدعيها بلاد السلام المزيف، والتي أعطت لنفسها حق اجتياح الدول أين ومتى تشاء.
حملت العملية اسم "عملية الخفاش الأزرق"، تضمنت مشاركة 1400 جندي أمريكي من الجيش وقوات المارينز، وتمثلت أهم أهداف العملية باحتلال وتأمين تثبيت القوات الأميركية في مطار بيروت الدولي، ومرفأ بيروت ومداخل المدينة، وبقيت قوات الجيش الأميركي على الأراضي اللبنانية ثلاثة أشهر متواصلة (تموز – تشرين الأول 1958) نتج عنها الدخول رسمياً إلى غرف القرار الرسمي من جهة، وبداية الغرق في وحول لبناننا من جهة أخرى.
لافتة كبيرة، قوات بشير ترحب بكم، أهلاً بالصديق الإسرائيلي وأهلاً بالمارينز..
بالتزامن مع الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 (الذي تلقى استقبالاً حاراً في مثلث خلدة) والذي سبقه تذللٌ وتمهيدٌ لبناني من بعض القوى الحاكمة حينها، ودعمٌ أميركيٌ من حيث التسليح والغطاء الدولي، ادعت الولايات المتحدة الأميركية أنها سترسل قوات لحفظ السلام! ولأهداف متعددة أهمها تأمين خروج منظمة التحرير الفلسطينية بهدوء.
كذبت! كانت تقف في صف الإسرائيليين وأصدقائهم في لبنان، من أجل تحقيق أهدافها وحماية هذا الكيان الغاصب، وتوسيع دائرة نفوذها في الشرق الأوسط، وقطع الطريق أمام الإتحاد السوفياتي، من خلال التواجد على أقرب حدود برية مع سوريا، التي تدور في فلك السوفيات.
في 25 آب / أغسطس 1982، دخلت القوات المتعددة الجنسيات الأراضي اللبنانية، التي كان قوامها 2000 جندي أجنبي، (800 جندي أميركي – 800 جندي إيطالي – 400 جندي فرنسي) وقد تمركزت في بيروت، في المرفأ والمطار، بالإضافة إلى نقاط انتشار متعددة.
كان هناك من يحرص على نقل التجربة الغربية لعائلته وأولاده بشكل دقيق، فكانت زيارات البعض "الودية" تكاد لا تنقطع، ترافقها وفود الأطفال والزهور والصور التذكارية.
في المقلب الآخر، شبانٌ من أبناء عائلات لبنانية، تعرضوا للتهجير جراء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، وغيرهم من أبناء بيروت الغربية وضواحيها، الغبيري والشياح والرمل العالي وبرج البراجنة والبركات، حملوا الفكر الحر قبل أن يمتشقوا السلاح، وتسلحوا بالإرادة قبل أن يركبوا الترند (كان الترند يومها أن تحمل بندقيةً وذخيرة، وتنتمي لفصيل ما).
لم ترعبهم قوى الاستكبار ولا الهيمنة، ولا ضخامة الآلة العسكرية الموجودة على الأراضي اللبنانية، ولا مجازر الإرهاب الصهيوني في الجنوب، ولا مجازر صهاينة الداخل في صبرا وشاتيلا وتل الزعتر وقرى الجنوب، فقرروا إخراجه تحت النار، بالإبداع والتوكل، والإيمان بأن الأرض يرثها عبادي الصالحون.
مع بداية عام 1983، تعرض الوجود الأميريكي في لبنان للعديد من العمليات العسكرية، أهمها تفجير السفارة الأميركية في منطقة عين المريسة في 18 نيسان / أبريل 1983، الذي هز قواعد الإدارة الأمريكية وأنذرها باقتراب الخطر، كما تعرضت قوات المارينز للعديد من العمليات العسكرية، وقتل عددٌ من جنودها بشكل متفرق، لكن الضربة الأقسى في تاريخ الولايات المتحدة وجيشها، كانت ولا تزال، عملية تفجير مقر المارينز في مطار بيروت الدولي.
يوم الأحد 23 تشرين الأول / أكتوبر 1983، وتحديداً في تمام الساعة 6:20 صباحاً، دخلت شاحنة مرسيدس، صفراء فاقعٌ لونها، يبلغ وزنها حوالي 20 طناً، دخلت إلى مقر الكتيبة الأولى في قوات المارينز المتمركزة في مطار بيروت، وبعد تبسم السائق للجندي الأميركي عند نقطة الدخول، اقتحم العوائق والحواجز ليصل إلى بهو المبنى الذي كان بمثابة ثكنة عسكرية (إحتلتها القوات الأميركية)، والذي يتشكل من أربع طبقات، وفجر العبوة التي قدر فيما بعد أنها تعادل 10 أطنان من مادة TNT.
الجميل أن قوة الانفجار أدت إلى ارتفاع هيكل المبنى عن سطح الأرض، ليعود - المبنى الطائر - ويستقر على نفسه ويتآكل، وتتآكل معه جثث 241 جندياً أميركياً.
استيقظت المدينة يومها، على صوت آذان متأخر! كان مصدره مطار بيروت، الله أكبر، الله أكبر، ما هذا الصباح الجميل!
وصلت الموجة الصدمية إلى المناطق المحيطة بالعاصمة بيروت، وإلى القسم الشرقي منها، كان أكبر تفجير سمعه لبنان (قبل انفجار مرفأ بيروت 2020)، وسمعته آذان هولاء الذين يعرفون مقر المارينز في زياراتهم ولقاءاتهم، كان صداه في آذانهم أن استيقظوا يا دعاة الوطنية، هناك من يحب لبنان حقاً، هناك من يغير وجه المنطقة في طريق المطار.
بعدها بدقائق، جاء التأكيد لهؤلاء، إنه ليس حلماً!، إنها الحقيقة، صوت تفجير آخر من منطقة عين المريسة، مبنى الدراكار، ثكنة المظليين الفرنسيين، شاحنةٌ صغيرةٌ أخرى دخلت المقر، وتم تفجيرها عن بعد، بعد استشهاد سائقها، فتهاوت تسع طبقات وعانقت الأرض، قتل في العملية 58 جندياً من كتيبة المظليين التي دخلت لبنان قبل عام، فكانت أسوأ وأقسى خسارة عسكرية لفرنسا منذ حرب الجزائر عام 1962.
استبدلت الإدارة الأميركية بعض الكتائب والمجموعات بأخرى، وتواصل التهديد والوعيد، لكن الحسم تمثل برسائل عدد من المجموعات المقاتلة وعلى رأسها "منظمة الجهاد الإسلامي"، وتهديدات جديدة ضد القوات المتعددة الجنسيات، متعهدةً أن "الأرض سترتجف" ما لم تنسحب هذه القوات بحلول رأس السنة الجديدة 1984!
أعلن الرئيس الأميركي "رونالد ريغين" بعدها بدء عملية انسحاب قواته من لبنان، وأمر ريغن قوات المارينز ببدء عملية الانسحاب في 7 شباط / فبراير 1984، والتي استمرت حتى 26-27 شباط فبراير 1984، لتعلن حينها الإدارة الأمريكية خروج كل جنودها من الأراضي اللبنانية.
أثناء عملية الانسحاب، فقدت قوات المارينز قدرتها على ضبط النفس، ظهر ذلك من خلال سلوك حاملة طائراتها (نيو جيرسي) المتوقفة قبالة شواطئ بيروت، حيث أطلقت ما يقارب 300 قذيفة من العيار الثقيل، كانت تعرف حينها بقذيفة (الفولز فاغن - أي أنها بوزن سيارة الفولز) نحو مناطق جبل لبنان، دون أي رصد جوي أو توجيه معلوماتي، كان قصفاً عشوائياً، يعبر عن مدى الألم والقساوة التي خلفتها الضربات المتتالية، والتي كانت نتيجتها خروج القوات المتعددة الجنسيات وعلى رأسهم المارينز في شباط 1984، الذين تركوا لنا جداريةً في مطار بيروت، يتوسطها شعار البلاي بوي، تعبيراً عن ثقافتهم، إضافةً ل 241 إسماً لقتلى المارينز، الذين اختلطت أجسادهم بالبارود والنار، وكانوا عبرةً لأصدقائهم الذين خرجوا يومها تحت النار، ولتستمر العبرة حتى اليوم لكل الوفود التي تحيي ذكراهم عند هذه الجدارية، أن اعتبروا!
Related Posts
كاتب لبناني