Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

على عكس مما يعتقد الكثيرون، لا يعمل اللوبي (أو جماعة الضغط) في الولايات المتحدة بموجب مصالح الدولة العميقة. تاريخياً، يقدم المؤرخ الأميركي بيتر غران منظوراً مختلفاً لعمل قوى الضغط في الولايات المتحدة. إن خروج صناعات السيارات من قلب أميركا نحو شرق آسيا لم يكن بالضرورة قراراً سيادياً أميركياً

بشار اللقيس

اللوبي الأرميني في أميركا: لماذا نجح وفشلنا نحن؟

على عكس مما يعتقد الكثيرون، لا يعمل اللوبي (أو جماعة الضغط) في الولايات المتحدة بموجب مصالح الدولة العميقة. تاريخياً، يقدم المؤرخ الأميركي بيتر غران منظوراً مختلفاً لعمل قوى الضغط في الولايات المتحدة. إن خروج صناعات السيارات من قلب أميركا نحو شرق آسيا لم يكن بالضرورة قراراً سيادياً أميركياً. يمكن لقوى الضغط أن تضر بالولايات المتحدة في كثير من الأحيان، وأن تعمل لصالح حساباتها الخارجية الخاصة. اللوبي الأرمني هو أحد تلك الجماعات الضاغطة التي نحاول استقراء عملها في أميركا. لقد أسدى اللوبي الأرمني، وبتحالفه مع اللوبي اليوناني، ضربة قاصمة للعلاقات الأميركية – التركية، كما ولمصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط بنحو كبير. السؤال الذي نتطلع إليه في ختام هذا المقال (الذي ننشر منه الجزء الأول الآن) هو التالي: لماذا لم يستطع اللوبي الفلسطيني، والعربي بشكل عام، من تأسيس قوة ضغط حقيقية في الولايات المتحدة؟ ولماذا تأخرنا في تأسيس هذه الهيئات والقوى فيما تقدم الآخرون؟

نظرة عامة على اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة

ثلاثة عوامل تجعل الشتات الأرمني ناجحاً في الولايات المتحدة. الأول هو أن هناك مدارس تدرس باللغة الأرمنية ولديها كنائس خاصة بها. والثاني هو نشر العديد من الكتب والمجلات والصحف باللغة الأرمنية. والثالث هو البث التلفزيوني باللغة الأرمنية. باختصار، بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه، يعمل كل فرد أرميني لصالح أرمينيا ويفعل شيئاً من أجل دولته.

يهتم الأرمن بشكل خاص بأنشطة الضغط. يتعامل اللوبي الأرميني مع العديد من القضايا المتعلقة بالسياسة الدولية، لكن قضيتين اثنين تظلان على رأس جدول أعماله: تحصيل اعتراف بما يسمى الإبادة الجماعية للأرمن من قبل الولايات المتحدة (وهو ما استطاع تحقيقه في نيسان/ أبريل 2021)، ودفع الولايات المتحدة لدعم أرمينيا وناغورنو كاراباخ مالياً على الساحة الدولية. إنهم يرغبون في زيادة المساعدات المالية الأميركية لأرمينيا. في الغالب، يتركز اهتمامهم على القضايا المتعلقة بتركيا وأذربيجان.

يُسجل للوبي الأرمني، بشكل عام، نجاحه السياسي وفعاليته في تحقيق ما يصبو إليه. الأميركيون اليهود والأرمن الأميركيون هم الأفضل على الإطلاق. إنهم الأفضل تحفيزاً، والأفضل تعبئة والأفضل تدبيراً. ومع ذلك يواجه اللوبي الأرمني جملة تحديات تواجه قوته. على سبيل المثال، أشار أحد العاملين في وزارة الخارجية إلى أن للأرمن الأميركيين الكثير من الطرق في التعامل مع القضايا المتعلقة بأرمينيا، ولكن دون أي شيء آخر. إذ اقتصرت إنجازاتهم النهائية على قضايا مثل مساعدة الولايات المتحدة لأرمينيا لفترات طويلة.

 

استراتيجيات وتكتيكات اللوبي الأرميني:

نظم النشطاء الأرمن الأميركيون حفنة من مجموعات الضغط ولجان العمل السياسي لتعزيز قضيتهم لأكثر من عقدين. نظمت هذه المجموعات نفسها على غرار لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (الـAIPAC). هكذا، نشأت مجموعات مثل الجمعية الأرمنية الأميركية واللجنة الوطنية الأرمنية الأميركية في جنوب كاليفورنيا ومدينة نيويورك وديترويت وبوسطن وعدد قليل من الأماكن الأخرى التي يعيش فيها الأرمن في الولايات المتحدة. لقد نجحت لجان العمل السياسي الأرمني في جمع أموال كبيرة للحملة، كما استخدم اللوبي الأرمني استراتيجيات ضغط رسمية معقدة للغاية. فقاموا بزيارة أعضاء الكونجرس بشكل متكرر، وقدموا عملاً إعلامياً جباراً من خلال العروض الوثائقية في الكونجرس والندوات وحلقات النقاش، كما بنى الأرمن مع الكثيرين من أعضاء الكونجرس علاقات متينة (Beriş and Gürkan، 2002، 10). أفضت هذه السياسات لتحقيق عدد من النجاحات أبرزها الاعتراف الأميركي بالإبادة الأرمنية. لقد وازن الأرمن كثيراً بين التحديات والفرص بشكل ذكي. كمثال، ناشد الرئيس جورج بوش الإبن أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، سنة 2007، عدم تمرير مشروع قانون الإبادة الأرمنية، وذكر أن تمرير هذا القرار سيخلق مشاكل خطيرة في العلاقات مع تركيا، الحليف المهم في منظمة حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من جهود الرئيس جورج بوش، وجد اللوبي الأرمني طريقه للوصول إلى أحد أبرز السياسيين في الولايات المتحدة مثل رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي. نظراً لوجود عدد كبير من الأرمن في منطقتها الانتخابية ودعم اللجنة الوطنية الأرمنية، أكدت أنه كان ينبغي النظر في مشروع القانون وطلبت من رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب توم لانتوس تحديد موعد للتصويت في اللجنة.

 

التعاون والتحالفات:

يتعاون اللوبي الأرمني مع حلفائه التقليديين، وبشكل خاص مع اللوبي اليوناني. تتضامن جماعات الضغط اليونانية والأرمينية الأميركية على أساس وجود قواعد دينية مميزة في كنائسها الأرثوذكسية، ويشترك الطرفان في مخاوفهم التاريخية من تركيا.

للوبي الأرميني نشاط خاص كذلك في تشكيل تحالفات مع بعض جماعات حقوق الإنسان. على سبيل المثال، تعمل اللجنة الوطنية الأرمنية مع مجموعات غير أرمينية للاعتراف بانتهاكات حقوق الإنسان والإبادات الجماعية لا في أرمينيا فحسب، بل وفي أماكن أخرى من العالم. يؤدي العمل بشأن دارفور والقضايا الأخرى المماثلة كمثال إلى زيادة قدرة اللجنة الوطنية الأرمنية على تقديم نفسها كخبير موثوق في الإبادات الجماعية وحقوق الإنسان. فمن خلال توسيع نطاق تركيزهم على الإبادات، يحشد الأرمن الرأي العام والجماعات العرقية المختلفة حول القضية الأكثر أهمية بالنسبة للمجتمع الأرمني؛ الإبادة الجماعية.

 

العمل الدؤوب بالرغم من النجاح المحدود حتى عام 2007:

تم تنشيط مجموعات الضغط الأرمينية المنظمة جيداً في واشنطن لتحقيق أهدافها السياسية. من أهم أهداف اللوبي الأرمني العمل من أجل إقرار الإبادات الجماعية للسكان الأرمن أواخر فترة الدولة العثمانية عام 1915. جهود الضغط التي بذلها اللوبي كانت ناجحة بشكل عام. ومع ذلك، فإن الجهود المبذولة حتى عام 2007 لم تسفر عن النتائج المتوقعة. يمكن تفسير النجاح المحدود للوبي الأرمني ببعض العوامل. أولاً: أولوية السياسة المحلية في سياسة الولايات المتحدة. وهو ما يفرض على أي جماعة ضغط أن تهتم بضرورات السياسة المحلية أولاً وقبل كل شيء. ثانياً، الدعم الخارجي الأميركي لتركيا بسبب ضرورات الأمن القومي وحاجة الخارجية لتركيا كحليف استراتيجي مهم للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز. فتركيا عضو بارز واستراتيجي في منظمة حلف شمال الأطلسي. قد تدفع ضرورات السياسة الخارجية الولايات للتحالف مع تركيا. في مثل هذه الحالات، تتقدم أولوية الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة مقدمة على السياسة الداخلية. نتيجة لذلك، يمكن تفسير النجاح المحدود لجهود الضغط التي بذلها اللوبي الأرميني من خلال تقييم المخاطر التي تعيشها إدارة الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية، وانعكاس كل من الموضوعين الخارجي والداخلي على أجواء اللجان الفرعية ولجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي.

 

النجاح النسبي للوبي الأرميني عام 2010

أنتجت جهود اللوبي الأرميني نجاحاً نسبياً خلال الدورة التشريعية عام 2010. فقد نفّذ اللوبي الأرميني بنجاح استراتيجيات الضغط الصحيحة من استخدمه لرأس المال والموارد الأخرى للضغط. بالإضافة إلى أنشطة الضغط الناجحة التي يقوم بها اللوبي الأرمني، ساهم الضعف النسبي للوبي التركي وفشل تحالفات الجانب التركي في نجاح الجانب الأرمني. فاللوبي الإسرائيلي بدءاً من عام 2009 تخلى عن قضية تركيا. كما غيرت بعض النخب السياسية المحافظة مواقفها من أنقرة. لقد انهار التحالف الطبيعي بين مؤيدي قضايا تركيا في الولايات المتحدة بسبب التغييرات الأخيرة في فهم الاصطفاف السياسي لتركيا.

 

النجاح الباهر للوبي الأرميني عام 2019:

اعتمد مجلس النواب الأميركي القرار 296 الذي يعترف بما يسمى بالإبادة الجماعية للأرمن في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. وقد أقر البرلمان مشروع القانون - الذي قدمه النائب الديمقراطي آدم شيف في نيسان/ أبريل 2019 - بأغلبية 405 صوت موافق، مقابل 11 صوت رافض. في وقت لاحق، في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019، اعتمد مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع القرار البسيط رقم 150 للاعتراف بما يسمى الإبادة الجماعية للأرمن. كان لهذه القرارات غير الملزمة رمزية دالة لأنها تعكس نهج الكونجرس في هذه المسألة.

فإلى جانب النجاح الباهر الذي حققه اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة، هناك عاملان وراء قرارات الاعتراف بما يسمى بالإبادة الجماعية للأرمن في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، هما تدهور العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، والصراعات الآخذة في الاتساع في السياسة المحلية الأميركية.

 

تدهور متزايد في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة:

بدأت العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة في التدهور منذ عام 2012. وعلى وجه الخصوص، بعدما ارتكبت إدارة باراك أوباما "أخطاء جسيمة بحق تركيا" وفق منظور أنقرة. أولى الأخطاء كانت بحسب أنقرة في سوريا بعدما غيرت الولايات المتحدة موقفها ضد النظام السوري وتركت تركيا وشأنها. ثاني الأخطاء تمثلت في دعم واشنطن أنشطة فتح الله غولن (FETO)، الذي دعم محاولة الانقلاب في 15 تموز/ يوليو 2016. ثم ما تلى هذين الأمرين من اعتراف الولايات المتحدة بحزب العمال الكردستاني/ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، كطرف شرعي في شمال سوريا. وصفقة تركيا التي اشترت بموجبها منظومة S-400 بدلاً من منظومة باتريوت. كل هذه القضايا السلبية بين الإدارات المتعاقبة أسهمت في خلق مشكلة انعدام الثقة بين الطرفين بحلول عام 2017.

اعتباراً من عام 2017، وصل التوتر في علاقات الولايات المتحدة مع تركيا إلى ذروته بعد "عملية نبع السلام" التي نفذتها تركيا في سوريا، بدأت مناقشة الاعتراف بمشروع قانون الإبادة الجماعية للأرمن بدعاية جادة ضد تركيا بقيادة مجموعة داخل الكونجرس. في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2019، تم اعتماد القرار 296 في مجلس النواب الأميركي للاعتراف بما يسمى بالإبادة الجماعية للأرمن. بعد ذلك، وتحديداً في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019، اعتمد مجلس الشيوخ بالإجماع القرار رقم 150. وقد أكدت كلمات ستيف كوهين، عضو مجلس النواب الأميركي، عمق الأزمة بقوله: "كنت دائماً ضد قرار الإبادة الجماعية للأرمن، لكني صوتت له هذا الأسبوع. لأن تركيا لا يبدو أنها تحترم الولايات المتحدة".

بالخلاصة، يمكن القول أن اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة وصل إلى النتيجة المرجوة، بتحويله التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا إلى فرصة. ومع ذلك، يمكن القول أيضاً أن كونغرس الولايات المتحدة استخدم الحالة الأرمنية بما يتماشى مع مصالحه الخاصة. الكونجرس الأميركي الذي يريد إظهار القوة والانتقام من تركيا. لذا، هو اتخذ قراراً بالاعتراف بما يسمى بالإبادة الجماعية للأرمن من خلال اختيار التوقيت السيئ. تظهر هذه القرارات أن اتهامات ما يسمى بالإبادة الجماعية ضد تركيا جاءت من خلال الحسابات السياسية بدلاً من السعي وراء العدالة التاريخية. بالإضافة إلى ذلك، أدى اتخاذ كونغرس الولايات المتحدة لهذه القرارات إلى مزيد من التوتر في العلاقات مع تركيا، الحليف ذو الأهمية الكبرى بالنسبة للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، أضر كونغرس الولايات المتحدة بمصالح الولايات المتحدة، وأضعف علاقة الولايات المتحدة بتركيا وسلط الضوء على الإنجازات البارزة التي حققها اللوبي الأرميني في الولايات المتحدة.

رئيس تحرير صحيفة الخندق