Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

مع عدو على هذه الحال وبهذا "العيب الخلقي" يعد أقل خلل في منظومته نصراً لك. نحن أقوى على وهننا، نحن أقدر على انتزاع حقوقنا رغم تقدمه الظاهر، لم نكن دائماً أكثر تقدماً وتطوراً عند كل الاستحقاقات التاريخية التي خضناها، لم نكن أكثر تقدماً من الفرنسيين والإنجليز.

ص. م

عِظَة التاريخ وانتقام الجغرافيا

"إن دراسة الحروب والوقائع وحدها لم يعد مجديا في الدراسات السياسية والتاريخية ، لأن الحرب جانب واحد من جوانب التفاعل الإنساني، لكن هناك جوانب أخرى، اقتصادية واجتماعية وثقافية". 

د. قاسم عبده قاسم

***

"شيفرون" تعيد توجيه صادرات الغاز الاسرائيلي إلى مصر عبر الأردن

خبر منشور عبر موقع "الشرق - بلومبرغ" يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2023

***

في صناعة السينما يلجأ المخرج أحياناً للمونتاج المتوازي. وفيه تتداخل لقطات لحدثين مختلفين في المكان ومتوازيين في الزمان لخلق تأثير درامى قوى عن طريق استغلال رابط فكرى خفى أو ظاهر بين اللقطات، حيث تتقدم على شكل متبادل في شكل فيه تصعيد للدراما ممكن ان يضيف عمقاً ودلالة خاصة.

ولعل  رصد المشاهد المتناثرة أمام أعيننا بالمونتاج المتوازي قد يساعد على توصيف وفهم ما يجري حولنا في هذه الأيام الفوارة التي قد يتوارى وراء دخان معاركها كثير من التفاصيل المهمة التي بدونها لا يكتمل رسم الصورة الكبيرة للمشهد العربي - الاسرائيلي.

مشاهد البطولة والعمالة:

كان شيمون بيريز يردد في حديثه مع بعض الساسة العرب قوله: "رابين يهتم بالشؤون السياسية، وهي باتت من معلقات التاريخ، أما أنا فاختصاصي هو التطبيع الاقتصادي، لأنه أمل المستقبل". ومنذ منتصف التسعينيات لم تعد المسألة بالنسبة لإسرائيل تتعلق بتسويات أو مفاوضات سياسية، بل بالاندماج الكامل مع المحيط العربي - أو قيادته!

وبالتزامن مع ترويج بيريز  للتزاوج بين التكنولوجيا الإسرائيلية والأموال الخليجية والعمالة العربية الرخيصة (في مصر أو الشام أو العراق أو بلاد المغرب أو السودان)،  كان يهمس في أذن مشايخ الخليج قائلاً:[1] جربتم قيادة مصر للمنطقة قبل ذلك، ماذا جنيتم؟ دعونا نجرب التعاون بيننا. 

وها قد دارت الأيام، وخرجت مصر من الخدمة العربية، بل وتم وراثة دورها؛ وقاد الخليج. ويبدو أن "إسرائيل" كانت تعي تماماً ضرورة التطبيع الاقتصادي وأهميته لوجودها نفسه. فـ"إسرائيل"  لا تستطيع الاستمرار منفردة، لا مواردها تكفي، ولا مقاطعتها تسمح لها بتصريف منتجاتها، ولا بإجراء تجاربها العسكرية ودفن نفاياتها الإشعاعية (يُقال إن بعض صحارى العرب تُستخدم لذلك الغرض).

وجرت باحترافية صناعة "مشهد  درامي" من الاندماج الاقتصادي؛ فمنذ سنوات تجري أمام أعيننا صور حية لقمم ومؤتمرات تتمخض عن اتفاقيات واستثمارات وتبادل خبرات؛ أثمرت استثمارات خليجية (سعودية، قطرية، إماراتية) بالمليارات ذاهبة إلى هناك؛ حيث يعاد تدويرها في صورة تجبّر واستيطان وقتل! بل وباتت بعض البلدان العربية كالمغرب والإمارات والبحرين تستورد فائض السلاح الإسرائيلي؛ وبلغ إجمالي ما اشتروه مجتمعين ثلث ما صدرته "إسرائيل" من السلاح السنة الماضية.

وبالأمس؛ وبالتزامن مع  مشهد حرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة؛ ومع ظهور عورات "إسرائيل" ومناطق ضعفها لدرجة إغلاق حقل غاز  "تمار" بالبحر المتوسط جراء ضربات المقاومة، وبعد أن أوقفت وزارة الطاقة الإسرائيلية الإنتاج بالحقل؛ فإذ بمشهد من التواطؤ يرقى لخيانة الدم والأخوّة - وعلى طريقة المونتاج المتوازي - تشكّلت ملامحه في مكان آخر، بعيداً عن بؤرة الضوء وصخب الحرب ولعلعة الرصاص، بالتنسيق بين السلطة المصرية والأردن و"إسرائيل"؛ بموجبه أعادت شركة "شيفرون" (وهي شركة أميركية متعددة الجنسيات تعمل في مجال الطاقة) توجيه شحنات الغاز الطبيعي الإسرائيلية البحرية إلى مصر ومنها إلى أوروبا عبر خط الأنابيب الأردني - المصري "فجر".

فبينما الشعوب منشغلة بصور البطولة التي تُرسم بالدم والنار ويداعبها الأمل في تسجيل انتصار وخنق عدوهم استغلالاً لقصوره؛ ينقلنا "المخرج" فجأة إلى مشاهد مظلمة تدور وقائعها بالهمس والتآمر!

وكانت تلك حلقة  ضمن مسلسل العمالة والاندماج، تجري صناعته منذ  سنوات طويلة، على حساب فلسطين، والأكثر مرارة، أنه على حساب وعي الإنسان العربي الذي تضخ الآلة الإعلامية الخليجية سمومها ليل نهار في عقله؛ وهي التي تدير الجانب الثقافي من الحرب لصالح إسرائيل.

انتقام الجغرافيا:

ثمة تجربة تاريخية قد يفيد الرجوع إليها لمعرفة أن "التطبيع الاقتصادي" مع المحيط العربي هو أهم ما قد يساهم في بقاء العدو وحفاظه على موقعه كقوة احتلال، بل وربما يساعده على ما هو أكثر - حلم القيادة والزمن الإسرائيلي!

 بعد عرض شيق وتفصيلي للأحوال الزراعية في المستعمرات الصليبية في بلاد الشام؛ يذكر الأكاديمي المصري وأستاذ تاريخ العصور الوسطى الدكتور حاتم الطحاوي في كتابه (الاقتصاد الصليبي في بلاد الشام) أن جميع السكان الصليبيين كانوا مستهلكين للمواد الغذائية اعتماداً على الإمدادات الدائمة من الحبوب بدون السيطرة على مصادرها، ويمكننا أن نلاحظ - والكلام للطحاوي - أن المستعمرات الصليبية، ومنذ الأعوام المبكرة، لم تحقق كفايتها من المواد الغذائية، وخاصة الحبوب، عن طريق عمليات الزراعة الداخلية الكثيفة التي وقفت عائقاً حيالها الهجمات الإسلامية المتكررة على الكيان الصليبي الجديد، وفرار الفلاحين المسلمين من قراهم وأراضيهم  منذ الأعوام الأولى للغزو الصليبي (على الهامش، لم يتقاعس المسلمون والعرب  بحجة أن الشوام هم من باعوا أراضيهم وتركوها كما يردد أصحاب السردية المتهافتة هذه الأيام!). ويضيف الطحاوي: أن ذلك إضافة إلى عدم الكفاية العددية للفلاحين الصليبيين يعني الكثير، مؤكداً على أن هذه كانت الأسباب الرئيسية لضعف بنية المستعمرات الصليبية. وهو الأمر الذي ظهر واضحاً بعد انتصار حطين حيث خسر الصليبيون الكثير من المناطق الزراعية الخصبة، ونتيجة لازدياد الكثافة السكانية في المدن الساحلية هرباً من هجمات المسلمين؛  فقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن نقص الإمدادات من الحبوب والغلال.

هنا، قد يحاجج البعض أن "إسرائيل" تنتج كل شيء ومتقدمة تكنولوجياً وعسكرياً وليست بحاجة لأحد، وهذه مجرد أوهام لا يقل من يرددها خبلاً عن ذلك القائل بأن "إسرائيل" لا تُقهر (ينقل روبرت د. كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا" عن هانز مورغانثو قوله: "إسرائيل" تقع في وسط بيئة معادية، فإما أن تكون سلبية جداً أو عدوانية جداً - والحال كذلك -، من أجل أن تظل على قيد الحياة، وذلك في المقام الأول أمر يتعلق بالجغرافيا). وإلا فليسأل هؤلاء انفسهم: لماذا الحرص والاستماتة على الاندماج الاقتصادي والثقافي مع محيطهم؟!

في تقديمه لكتاب (الاقتصاد الصليبي في بلاد الشام) يقول المؤرخ الكبير الدكتور قاسم عبده قاسم:"دراسة الكيان الصليبي من كافة جوانب وجوده واجب أكاديمي وواجب قومي أيضاً. إذ إن دراسة الحروب والوقائع وحدها لم يعد مجدياً في الدراسات التاريخية والسياسية، لأن الحرب جانب واحد من جوانب التفاعل الإنساني، لكن هناك جوانب أخرى، اقتصادية واجتماعية وثقافية". وهذا بالضبط ما نواجهه  في حربنا مع كيان اليوم الاسرائيلي؛ فالحرب متعددة الوجوه والمستويات، والأكيد أنها أكثر تعقيداً مما كانت.

خاتمة: لن نستسلم أبداً 

مع عدو على هذه الحال وبهذا "العيب الخلقي" يعد أقل خلل في منظومته نصراً لك. نحن أقوى على وهننا، نحن أقدر على انتزاع حقوقنا رغم تقدمه الظاهر، لم نكن دائماً أكثر تقدماً وتطوراً عند كل الاستحقاقات التاريخية التي خضناها، لم نكن أكثر تقدماً من الفرنسيين والإنجليز. كان جنود المارينز أكثر تطوراً عندما غادروا بيروت داخل التوابيت، كما لم يكن الفيتناميون أكثر تطوراً من الأمريكيين عندما دسوا أنوفهم في أوحال المستنقعات. ما نحن عليه الآن ليس عن عجز وقصور إنما عن إهمال وتقصير. أمة استنامت للأكاذيب وتعرضت لعملية تدجين وسيقت إلى حظائر السلام طمعاً في "الرخاء والازدهار"،  ومن يحاول التمرد ليوقظنا ويحفزنا ويقودنا، تُشن عليه الحرب. الحرب عليك اليوم ليست كما كانت قبل قرون أو عقود. اليوم، هي لجعلك تذبل وتُباد في صمت، بلا جلبة أو ذكرى مقاومة تورثها لمن بعدك.

مهما كانت ضراوة الحرب وتكلفتها، أن تحارب هو أن تبقى، هو أن تبني ذاكرة تُبقي على جذوة إرادة الحياة كإنسان حر لديه كرامة، ذاكرة شعوب حية فاعلة على مسرح التاريخ (ولو أن المقاومة لا تفعل سوى ذلك لكان كافياً لتأييدها عوضاً عن النقد والتقريع - من لديه بديل فليتفضل به مشكوراً، أو ليصمت!). أوقات التيه تكون ذاكرتك هي أثمن ما لديك، لأنها وسيلتك الوحيدة للبقاء. وعلى خشبة المسرح، يحدث تبادل للأدوار، تُهزم في فصل وتنتصر في آخر، المهم هو البقاء فوق المسرح والمعرفة بما يجري وراء الكواليس، لأن النزول يعني أن تصفق أو تبكي، وفي الحالتين أنت دائما بانتظار أحد الأبطال لإعطائك دوراً، كمنظِم حفلات أو على الأكثر بين الحشود الثانوية كـ"كومبارس"! وللبطولة دائماً أثمان، لرفض دور "الكومبارس" ضريبة، تدفعها اليوم شعوب كثيرة لسان حالها: سنقاتل... سنقاتل ولن نستسلم أبداً.


[1]ما ورد حول "شيمون بيريز" ذكره الاستاذ "محمد حسنين هيكل" بمحاضرة ألقاها  بالعاصمة الفرنسية وأعاد ذكره في كتاب (العربي التائه - نهايات طرق).

كاتب مصري