ليست الطائفية في العالم الإسلامي مجرد تراث عقائدي متنازع عليه، بل تحوّلت إلى أداة لهندسة وإدارة الصراع الإقليمي والدولي، وقد أصبح الانقسام السني الشيعي أحد العناوين الثابتة في مشهد الصراع السياسي والاجتماعي في المنطقة
تجسير الهوة الطائفية
ليست الطائفية في العالم الإسلامي مجرد تراث عقائدي متنازع عليه، بل تحوّلت إلى أداة لهندسة وإدارة الصراع الإقليمي والدولي، وقد أصبح الانقسام السني الشيعي أحد العناوين الثابتة في مشهد الصراع السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية والإسلامية، خصوصاً مع تصاعد موجات العنف الطائفي عقب احتلال العراق عام 2003، وما تبعه من تحولات كبرى شملت تفكك الدولة، وصعود الجماعات الطائفية المسلحة، وإعادة رسم الخارطة الطائفية في أكثر من بلد.
غير أن ما يجعل السؤال عن مدى إمكانية "تجسير الهوة بين السنة والشيعة" شديد الإلحاح اليوم، ليس فقط حجم التوترات الطائفية المتصاعدة، بل كذلك تحوّل هذا الانقسام إلى أداة وظيفية بيد القوى الدولية والإقليمية، تُستخدم لإعادة رسم الخرائط وتفكيك الكيانات وتشويه القضايا المركزية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
من هنا، لا يمكن النظر إلى الخلاف السني الشيعي كمجرد قضية تاريخية أو جدلية فكرية، بل كمشكلة بنيوية مركبة تستوجب معالجة سياسية، ومعرفية، ومجتمعية، واستراتيجية. كما لا يُقصد بالسؤال هنا الدعوة إلى تحقيق تقارب مذهبي أو دمج عقدي، فهي دعوة ساذجة، وإنما السعي إلى خفض التوتر، وتحييد الخلافات العقائدية عن مسارات الصراع السياسي والمجتمعي، وخلق بيئة تعايشية تمنع الاحتراب وتُبقي الخلاف ضمن دوائره النظرية.
أولاً: بنية الخلاف الطائفي المأزق التاريخي والوضع الراهن
الجذور التاريخية
لم يكن الانقسام السني الشيعي ـ في بداياته ـ محمولاً على طابع عقدي محض، بل نشأ في سياق نزاع سياسي حول السلطة بعد وفاة الرسول (ص)، يقول علي شريعتي: "الصراع بين التسنن والتشيع ليس صراعاً على العقيدة، بل هو صراع سياسي ألبسوه لبوس الدين".
وكلام شريعتي صحيح على الأقل في منشأ الصراع حين نشأت رؤى مختلفة حول أحقية الخلافة، وتجذّرت لاحقاً بفعل تراكمات تاريخية جمعت بين الظلم والتهميش السياسي والاجتماعي، وتحولت لاحقاً إلى مذاهب عقدية متكاملة، وتطورات علم الكلام، وتدوين المرويات، واحتكار الحقيقة الدينية من الطرفين.
تطورات مذهبية
تعزز الخلاف لاحقاً بفعل تطور الفقه العقائدي، وظهور قضايا خلافية جوهرية كالإمامة، وعدالة الصحابة، والعصمة، وغيرها، ثم جرى إعادة توظيف هذا الانقسام في سياقات مختلفة؛ فقد استخدمته الدولة العباسية لإضعاف الحراك العلوي، ثم وظفته الدولة الصفوية لبناء هوية مذهبية قومية في وجه العثمانيين.
وما بين تصدير "الرافضي" كتهديد وجودي، و"الناصبي" كعدو كامن، تشكلت بنية ذهنية مغلقة تجعل من الطائفة الأخرى نقيضاً لا شريكاً، وتحولت الطائفية من اختلاف مذهبي قدري في الأمة إلى هويات مغلقة قُدِّست فيها المقولات، واستُهلك فيها التاريخ، واستُبيح فيها الحاضر.
تحولات سياسية معاصرة
لم يكن الصراع الطائفي حاضراً بهذا العنف في الوجدان الشعبي لقرون، حتى أعيد تفعيله وتوظيفه سياسياً في العصر الحديث بعد الثورة الإيرانية، ضمن ما يمكننا تسميته بـ"هندسة التفكيك الطائفي"،بدءً بالحرب العراقية الإيرانية، وسقوط بغداد، وظهور الطائفية السياسية في العراق ولبنان واليمن وسوريا، إذ استخدم كأداة للصراع بالوكالة في المشهد الإقليمي برعاية قوى إقليمية ودولية.
ثانياً: بين التعايش والصدام دروس التاريخ وإمكانات الواقع
صيغ التعايش الممكنة:
رغم اشتداد الاستقطاب الطائفي، عرف التاريخ الإسلامي لحظات تعايش مرن، أبرزها: استيعاب الخلافات في إطار الدولة المركزية (كما في العصر العباسي)، ووجود مدارس متعددة في الحواضر الإسلامية الكبرى (بغداد، القاهرة، حلب، الكوفة)، وانتشار مشايخ التصوف من السنة بين شيعة العراق وإيران، والعكس.
اختلالات عصر ما بعد الاستعمار:
لكن انهيار الدولة المركزية، والنظم السياسية ما بعد الاستعمار، أعادت إنتاج الانقسام والمحاصصة وفق منظور قومي ومصلحي، مما جعل من الطائفية أساساً لإدارة الحكم، كأداة تعبئة سياسية وهندسة طائفية، لا مجرد تباين فكري أو تراث عقدي، وهو ما تجلى في توظيف الطائفية في الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988)، وصعود حزب الله كفاعل شيعي مسلح في لبنان، وبروز الطائفية السياسية بعد عام 2003 في العراق، وتكرار النموذج نفسه في سوريا واليمن.
ثالثاً: تجسير الهوة كضرورة استراتيجية
إن معالجة الخلاف السني الشيعي ليست مسألة دينية فقط، بل مسألة أمن قومي للأمة كلها، فجميع مشاريع التقسيم، وخرائط "الشرق الأوسط الجديد"، و"صفقة القرن"، اعتمدت على استمرار هذا الانقسام، واستخدامه كسلاح في يد المستعمر القديم والجديد.كما أن أية مقاومة حقيقية للصهيونية أو للهيمنة الغربية لا يمكن أن تُبنى على أرضية طائفية، فخطاب المقاومة إذا لم يكن عابراً للطوائف، سيتحول إلى وقود لصراع داخلي بدل أن يكون سلاحاً في وجه العدو المشترك.
رابعاً: فرص التجسير بين الواقع والإمكان
التجسير بين السنة والشيعة ليس مستحيلاً، لكنه لا يمكن أن يكون كاملاً أو سريعاً، بل هو مشروع متدرج، متعدد المسارات، يراهن على ترشيد الخطاب، وكبح الانفجار، وتوسيع المشتركات، وتحييد ملفات الصدام، لذلك فهو ممكن وليس مستحيلاً، ولكن بضوابط ضرورية لا يتم بدونها ومن أهمها:
· الاعتقاد حق إنساني ولأهل الفرق المختلفة اعتقاد ما يشاؤون ما لم يفرضوه على غيرهم، أو يعتدوا على الأمة على أساسه.
· الاعتراف بوجود الخلاف وعمقه، دون تسعير الكراهية.
· التمييز بين العقيدة والصراع السياسي، فلا تكون الخلافات الدينية مبرراً للقتل أو التهميش.
· وجود إرادة سياسية ونخبوية جادة عند الطرفينلتفكيك الصراع السياسي بإدارة ورعاية دول إسلامية قوية تمتلك من الآليات فرض ذلك.
· تحييد التدخلات الخارجية التي تستثمر في الانقسام
· وفي حال التعدي يُدفع الصائل على دماء غيره من المسلمين وأعراضهم وأموالهم.
ورغم حالة التشظي وتعقيد المشهد، إلا أن هناك مؤشرات على وجود تحولات واقعية قد تؤدي إلى تقليص الفجوة الطائفية، وأبرزها:
1. إنهاك الشعوب ومجتمعات الصراع من الحروب الطائفية حيث بدأت قطاعات واسعة من المجتمعات المحلية في العراق وسوريا ولبنان واليمن تُدرك أن الاحتراب الطائفي لا يخدم سوى مصالح بعض النخب، وأجندات الخارج، بينما تدفع هي كلفة باهظة من دمائها ولا تُجنِ شيئاً.
2. تحولات في وعي الجيل الجديد: غدت الأجيال الشابة أكثر اتصالاً وانفتاحاً، وأقل اكتراثاً بالسرديات الطائفية الجامدة.
3. المصالح المشتركة المتنامية من مواجهة التطبيع، إلى حماية القدس، إلى مقاومة التقسيم، تفرض الحاجة إلى "جبهة إسلامية موحدة" لا "خنادق مذهبية متقابلة.
خامساً: التحديات البنيوية وعوائق التجسير
يمكننا رصد أربعة عوائق رئيسية تُعيد إنتاج الهوة السنية الشيعية اليوم:
أولها: الحواضن الفكرية الراديكالية عند الطرفين، التي تنطلق من مبدأ "الفرقة الناجية" والإقصاء الكامل، كما تعتبر التعدد خيانة، وتتخذ من محطات الخلاف التاريخي تكئة وركيزة، لتُعيد اجترار المرويات المهينة أو التقديسية، ما يجعل الخلاف غير قابل للنقاش الموضوعي.
ومما هو جدير بالملاحظة؛ غياب المرجعيات الموحدة القادرة على اتخاذ قرارات تاريخية، فلم تمتلك أية رموز دينية معاصرة مهما كان اعتدالها؛ الشجاعة الكافية لإسكات الأصوات الشعبوية والتهيجية، بمعنى آخر علو أصوات العامة والدهماء من الطرفين على أصوات المراجع والشيوخ، فقد ارتد علي النخبة ما صنعته أيديها عبر عقود، وخرج الأمر عن أيديهم.
ثانيها: استقطاب النظام السياسي طائفياً.
وهذا يقوم على محورين؛ أحدهما داخلي والآخر إقليمي. فأما الداخلي فهو في مجتمعات دول التعدد ذاتها، حيث يقوم على تقسيم الحصص بين الطوائف بدلاً عن بناء دولة المواطنة، كما في لبنان والعراق، مما يحوّل الخلاف المذهبي إلى معركة صفرية حول النفوذ. وأما الخارجي فيقوم على توظيف الهوية المذهبية في صراعات النفوذ الإقليمي بين محور إيران ومحور الخليج، وتبادل التجييش الإعلامي والمذهبي.
ثالثها: التدخل الخارجي.
لا توجد إرادة دولية حقيقية لإنهاء النزاع الطائفي، بل توظيف الطائفية كوسيلة لإدارة الصراع بهدف إضعاف الشعوب وتقسيم الجبهات لمناطق نفوذ طائفي، لأن استمراره يخدم هدف التفتيت والسيطرة، سواء برعاية الغرب للأنظمة الطائفية الهشة، أو توظيف الطائفية لتبرير التدخل العسكري والسياسي.
أما الرابع: فضعف المجتمع المدني في البيئات الطائفية، وخضوعه لسلطة رجال الدين أو أمراء الحرب.
سادساً: مداخل الحل والاستراتيجيات المقترحة
لا توجد وصفة سحرية لتحقيق الغاية المنشودة بردم الهوة بين كلتا الطائفتين، ولكن يمكننا الاعتماد على مقاربة متعددة المستويات كالتالي:
ـ المستوى المعرفي: بناء الوعي المشترك بإعادة إنتاج سرديات نقدية غير متحيزة لتاريخ الخلاف الإسلامي، وتحويل مادة الجدل من تكفير إلى تفكير.
ـ المستوى الديني: إعادة ضبط الخطاب الديني ليكون أقرب إلى المقاصد الكبرى للإسلام لا إلى معارك السرديات القديمة، وذلك بإطلاق مبادرات فقهية مشتركة لتجريم التكفير والسب واللعن، وعدم الاكتفاء بتصريح خجول هنا أو كلمة خافتة هناك، ثم بإحياء منهج التثبت والعدالة والاحترام المتبادل في الجدل العقدي. كما ينبغي فتح قنوات للتواصل النخبوي وعقد الحوارات الفكرية الجادة بين المثقفين والنخب العلمية من الطرفين.
ـ المستوى السياسي: تحصين النسيج الوطني ببناء دولة المواطنة، التي تضمن الحقوق دون اعتبار طائفي، ودعم النظم السياسية التي تقوم على مبدأ المواطنة، لا المحاصصة، ومنع تسييس الدين في الحكم والانتخابات.
ـ المستوى التعليمي: تنقيح المناهج التعليمية من خطابات الإقصاء، وإدراج مبادئ التعدد داخل النسق الإسلامي كأحد القيم المؤسسة، وتدريب المعلمين على خطاب التعدد.
ـ المستوى الشعبي والاجتماعي: دعم مشروعات التعايش في المناطق المختلطة، مثل بغداد، والقطيف، وصنعاء، وإنتاج محتوى شبابي تفاعلي مشترك يدعم خطاب الوحدة، وتسليط الضوء على قصص التعاون والتعايش لا على الخلاف؛ بمعنى تكريس النماذج الحية الناجحة للتعايش الآخوي الإسلامي كما حدث في بعض دول المهجر.
ـ المستوى الإعلامي: كبح إعلام الفتنة، وكسر احتكاره للمشهد، وإطلاق مبادرات محتوى مشترك يحترم الطرفين، ومواجهة خطاب الكراهية الطائفية بحزم قانوني وإعلامي.
سادساً: توصيات عملية
- إنشاء مرصد بحثي سنّي شيعي مستقل، يديره عقلاء الطرفين، لرصد التحولات الطائفية، ومقترحات الحد منها.
- منع بث القنوات التي تحرض على الكراهية الدينية، من أي طرف.
- تخصيص يوم سنوي للوحدة الإسلامية، يجمع رموز الطرفين على خطاب مشترك.
- تشجيع الإنتاج الدرامي المشترك الذي يُظهر قصص التعايش والبطولة العابرة للمذاهب.
- عقد لقاءات سنوية للنخب الشبابية من الطرفين في بيئة محايدة.
- إطلاق سلسلة كتب مبسطة تتناول تاريخ الخلاف بمنظور نقدي.
- إدماج فقه التعايش في مناهج الجامعات الإسلامية.
- الاستفادة من التجارب الجادة والبناء عليها، فرغم القبح الذي أفرزته الطائفية، فإن هناك محاولات جادةومشرفة حاولت كسر هذه الحلقة المغلقة مثل:
- كتاب "المراجعات" لعبد الحسين شرف الدين الموسوي في حواره مع شيخ الأزهر سليم البشري، وهو حوار فقهي عقلاني رفيع المستوى، تتمثل فيه الفكرة لا الخصومة، ويقوم على الحجة لا العواطف، كما يستبطن نية التوفيق لا التفوق.
- منتدى التقريب العالمي بإيران: وهو محاولة تنظيمية لعقد مؤتمر سنوي لعلماء الطوائف المختلفة، وقد عانت التجربة من فشل نسبي بسبب ظنون حول تسييسها واختزالها في المصالح الإيرانية لا في الأمة، رغم تناسي تلك الدعاوى الطبيعة السياسيى للتشيع عموماً
- كتابات د. يوسف القرضاوي في فقه الأولويات والموازنات التي أعادت ترتيب أولويات الأمة على أساس وحدة الصف.
- نموذج علي شريعتي والشيخ أحمد الوائلي والسيد كمال الحيدري: وكلاهما حاولا التأطير للتشيع كظاهرة اجتماعية قابلة للنقد والتحول، كما دعوا لفصل التشيع العلوي عن التشيع الصفوي.
ختاماً: من الطائفية إلى المشروع الحضاري
يبقى التجسير بين السنة والشيعة هدفاً معقداً، لكنه غير مستحيل. والمطلوب اليوم ليس طمس الخلاف، ولا التبشير بالوحدة العقدية، بل السعي إلى ترشيد النزاع، وتحويله من حرب هوية إلى جدل فكري يمكن تدبيره، وبناء فضاء مشترك يتسع للاختلاف دون أن يتحول إلى صراع صفري.
وفي لحظة تتسابق فيها المشاريع الصهيونية والاستعمارية لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة، يبدو أن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الالتقاء على قاعدة الخروج من لعنة الصراع بين قوم لم نكن فيه حاضرين، ولا جناية لنا فيه، لكن نتحد لأجل القدس ومستقبل أمتنا وأجيالنا.
إن سؤال تجسير الهوة ليس سؤالاً عابراً أو دعوة للعاطفة، بل هو استحقاق وجودي. فوحدة الأمة، بمذاهبها ومدارسها، لم تعد ترفاً أخلاقياً، بل ضرورة استراتيجية لإنقاذ ما تبقى من استقلالها، ومقاومة المشروع الصهيوني، والتصدي لانهيار المجتمعات من الداخل.
وليس المطلوب أن يصبح السني شيعياً، ولا الشيعي سنياً، بل أن يُنزَل كلٌ منزلته، دون ظلم ولا ازدراء، وأن نعيد ترتيب أولويات الصراع:من الخلاف المذهبي إلى العدو المشترك، من الفتنة إلى المشروع الحضاري.
باحث ومفكر إسلامي من مصر