Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم يكن مرسَلاً، ولا حمل رسالة، ولا انتظر وحياً. ومع ذلك، مشى بين الناس كمن يحمل نبوءة لا يريد أن يؤمن بها أحد

مصطفى خليفة

النبي الأعزل؛ زياد الرحباني

لم يكن مرسَلاً، ولا حمل رسالة، ولا انتظر وحياً. ومع ذلك، مشى بين الناس كمن يحمل نبوءة لا يريد أن يؤمن بها أحد.

وُلد زياد الرحباني في بيت يُشبّه بالمعبد، حيث الغناء طقس، والمسرح محراب، والأب أسطورة تُروى بصوت الأم.

نشأ في حضن النبوّة الرحبانية، لكنه لم يلبس عباءتها، بل راح يمزقها خيطاً خيطاً وهو يضحك، وعوض أن يكون تلميذاً أو امتداداً لظاهرة "الأخوين الرحباني"، كان انشقاقاً وخصماً مبكراً لما أُريد له أن يكون.

في عمر السادسة لحن، وفي العاشرة كتب، وفي السابعة عشرة افتتح تمرده بدم بارد: أخرج السخرية من النشيد، والشتيمة من المونولوغ، واليأس من الحب.

وكأنه أتى ليهدم المعبد لا ليكمل الرسالة، فكل ما فيه كان يتحدّى السياق، كان مأزقاً موسيقياً، سياسياً، وجدانياً، في وطن لا يتحمل النكتة إلا إذا كانت مرّة، ولا يُحب الحقيقة إلا حين تُغنّى.

هذا هو زياد الرحباني كما نكتبه الآن: نبيّاً لم يُرسل، وطفلاً عبقرياً تمرد على حليب الميراث، واختار أن يعزف الحقيقة. لم يشأ أن يكون فارساً على حصان الرحابنة الأبيض، فركب بدلاً منه قطاراً مُعطّلاً وساقه إلى الحرب. في موسيقاه سُخرية عاشق، في كلماته مرارة منفيّ، وفي صوته ضجر نبيّ لم يجد من يُصدّقه.

بيت النبي

لم يُولد زياد الرحباني في بيت، بل في أسطورة. لم يكن له ماض خاص، إذ كان حاضر العائلة صاخباً بما يكفي ليبتلع كل ذاكرة فردية. البيت الذي دُفنت فيه الخصوصيات تحت طبقات من المجد الجماعي، هناك، كان يُمنع الحزن أن يعلو فوق اللحن، وتُقمع الفوضى بحبال الكمنجات.

فيروز، أمّه، لم تكن أمّاً تقليدية، كانت الوطن كلّه، وكانت الصلاة، وكانت الجواب حين لا ينفع السؤال. أما الأب، عاصي، فكان كاهن المعبد الأعظم: ناظم الطقوس، وأمير تلك المملكة الرحبانية حيث يُوزن الكلام كما يُوزن الذهب، ويُرتّل كما يُتلى الإنجيل.

وُلد زياد وكأنه نبوءة: طفل صغير يكتب موسيقى الكبار، ويؤلّف وهو بعدُ يتلعثم في الكلام، يُجالس العمالقة، ويضحك لنكتة لا يفهمها أحد سواه.

لكن، كل نبوءة جميلة في بدايتها، قبل أن يحين أوان رسالتها. وكان العبء مبكراً على طفل رأى ما لا يجب أن يُرى.

رأى هشاشة الجوقة من الداخل، ورأى أن "لبنان المغنّى" شيء، ولبنان الحقيقي شيء آخر، رأى أن الأصوات العالية قد تُخفي صمتاً هائلاً، وأن اللحن الجميل قد يُغطّي على كذب دفين.

أُعطي زياد موهبة على شكل لغم زرع في قلب اللوحة الرحبانية، فكان لحنه سُخرية اللحن الرحباني السوداء، وفي وقتٍ كان الجميع يرنّم مع فيروز: "بحبك يا لبنان"، كان زياد يفكّك الكورال قطعةً قطعة، ويكتب: "قوم فوت نام".

هكذا، لم ينشقّ زياد عن البيت فحسب، بل عن الفكرة التي بُني عليها، وكالمسيح كانت أولى مظاهر دعوته؛ أنّ هدّم المعبد القديم.

النبي الساخر

حين قرر زياد الرحباني أن يخرج من ظلال العائلة، أزاح الستار عن مسرح جديد، وجلب معه نبوءة مختلفة: السخرية هي القشة التي ستنقذ المدينة من موتها البطيء.

وفي بداية السبعينيات، عندما انطلقت رصاصات الحرب الأهلية تهز لبنان، تحدث زياد بلغة الحرب، لغة الضحك المرّ، ذاك الضحك الذي ينبع من الحلقوم الممزق، حيث الألم لا يتحوّل إلا إلى نكتة سوداوية.

في "سهرية"، و"نزل السرور"، كسرزياد "قدسية" الفن الرحباني، وفتح نوافذ على الحقيقة التي كانت تُخبأ خلف الألحان المجنحة والكلمات الشعرية الراقية؛ أعاد صياغة اللغة، فجعلها أكثر لحماً ودموية؛ كلغة الثورة والشارع والحرب، كلغة من لا مكان لهم.

عام 1978، وبينما كانت بيروت تحترق بنار الحرب الأهلية، قدّم زياد الرحباني على خشبة مسرح البيكاديللي عملاً لا يشبه شيئاً قبله، "بالنسبة لبكرا شو؟".

من حانة صغيرة في شارع الحمرا، يُطل علينا زكريا وثريا، زوجان هاجرا من الريف إلى المدينة بحثاً عن حياة أفضل، ليجدا نفسيهما في دوّامة من الفقر، والانكسار، والخيبة.

يعكس زكريا، العامل الفقير العاجز عن إعالة زوجته، مأساة شريحة واسعة من اللبنانيين الذين سحقهم الواقع الاقتصادي والاجتماعي، في المقابل، تمثّل ثريا "الانحدار الأخلاقي للمضطر"، حين يصبح الجسد سلعة للبقاء. وبين الغيرة والعجز، تنكشف العلاقة الزوجية كبنية مهزوزة تهتز تحت وطأة السوق والعار.

وسؤال "بكرا" لا يُطرح في المسرحية، لا من باب التفاؤل ولا الاستشراف، فلا أحد يعرف إلى أين تتجه البلاد، ولا أحد يثق بمؤسسة أو قيادة، فالوطن ليس سوى حانة تغمرها الإضاءة الخافتة والضحكات المصطنعة، والكل يتظاهر بالحياة كي لا ينهار.

وفي حانة زياد الرحباني (وطنه) الشرف كذبة، والكرامة رفاهية، والحب خرافة. حتى المثقفون الذين يظهرون في الخلفية ليسوا أكثر من فُقاعات لغوية، غارقين في خطابيات جوفاء. كل القيم تتعرّى أمام الواقع القاسي، لتُظهر هشاشتها الفاضحة.

ومثّلت هذه المسرحية حجر الأساس في مشروع زياد الرحباني الذي سيستمر لسنوات: فضح البنية الاجتماعية اللبنانية من الداخل، والانحياز الدائم إلى الطبقة الوسطى المتآكلة، واستخدام الفن كمرآة مشروخة. فهو اختار الواقع على الحنين، وأن يكشف "خيانة الوطن" لا الغناء له.

وحين كتب زياد الرحباني مسرحيته "فيلم أميركي طويل"، عام 1980، كانت بيروت قد تجاوزت منتصف الطريق نحو الجحيم.

الحرب الأهلية لا تزال تنهش أوصال المدينة والناس، والمستقبل يبدو كصورة مشوشة على شاشة تلفاز انقطعت عنه الإشارة، في هذا السياق، يقدّم زياد واحدة من أكثر مسرحياته قتامة وجرأة، مسرحية تُعدّ وثيقة اجتماعية ونفسية عن الانهيار، بقدر ما هي عمل فني يندرج ضمن رؤيته النقدية الشاملة للمجتمع والسياسة والإنسان.

تدور المسرحية حول مريض في مستشفى للأمراض النفسية يدعى "رشید"، يعتقد الجميع أنه فقد عقله، فيما هو على الأرجح أكثر اتزاناٌ من محيطه. المرضى في المستشفى يبدون وكأنهم مرايا مشوّهة للمجتمع اللبناني: رجل يظن أنه رئيس الجمهورية، امرأة تعيش وهم النجومية، شاب مهووس بالثورة إلى حد الهذيان... في هذا المكان، تتقاطع مصائر الشخصيات لتكوّن صورة سريالية للعالم الخارجي، كأنما الجنون هو النتيجة المنطقية الوحيدة للبقاء في بلد مزّقته الحرب.

ولا يكتفي زياد الرحباني بعرض هذه الشخصيات ككائنات مأزومة، بل يستخدمها كأدوات لسبر أغوار الانهيار اللبناني: الانقسام الطائفي، فقدان البوصلة الوطنية، تحوّل الثورة إلى فانتازيا، وانهيار الثقة بالذات وبالآخر.

النبيّ الشيوعي

لم يكن الالتزام الحزبي عند زياد التزاماً تقليدياً، كان حواراً مستمراً مع الذات والمجتمع، حيث يُجرب الماركسية كإطار لفهم الألم، وللبحث عن خلاص لا يأتي من السماء، بل من الأرض.

تأثر بـ"الماركسية الشعبية"، التي لا تفقد لمسة الإنسان وسط تحليلاتها الاقتصادية والسياسية، وارتبط باليسار الوجودي الذي يرى في السياسة تجربة ذاتية عميقة، وليست فقط كتيّباً أو جدولاً نظرياً.

وفي هذا المشهد، صار النبي أعزلاً أكثر: لم يعد ينتظر المعجزة، ولا حتى الثورة الكبيرة، بل يراقب النهاية المحتومة لوطنٍ لا يُحب سوى رماده.

كان النبي الذي رأى الخلاص في الأرض لا في السماء، في الكلمة التي تُقال في مقهى قديم، في نكتة تُطرح في ليلة باردة، في أغنية لا تجد جمهوره، نبياً ظل وحيداً في خندق التجريب الذاتي والالتزام المتألم.

وفي مقابلاته النادرة، حيث كان يرفض أن يكون سفيراً لأي فكرة سوى سخرية الوجود ذاته، ترك لنا زياد الرحباني نصوصاً مقطوعة، تنطق بالعبث والحقيقة في آن، كلمات لا تبتسم إلا لتعض.

كانت النكات بالنسبة إليه سلاحاً ذو حدين: تفضح الوجع، وتخفيه، تُقربنا من القلب، وتبعدنا عن الغرق في بحر الكآبة.

أما الفواصل الموسيقية، فهي إنجيله الجديد، الكتاب المقدس للنبي الأعزل.

صدى النبوءة في برية الصمت

لم يحمل زياد الرحباني عصاً، ولم يشقّ بحاراً، ولم يُلقَ في بطن حوت.

كان نبياً بلا معجزة، بلا أتباع، بلا جبلٍ يتنزل عليه الكلام فيه، كتب إنجيله على وقع البيانو، وسكبه في فناجين القهوة، وخبّأه بين السطور، وفي ضحكةٍ ساخرة، وفي تنهيدةٍ لم تُسمع إلا لمن أصغى طويلاً.

اليوم، في هذا الركام المدوّي الذي نسمّيه وطناً، تصعد نبوءة زياد كضحكةٍ حزينة من زمنٍ مضى. نراها في عيون شابٍ يُصفّف كلماته كألغام، أو في عجوزٍ يتذكّر "بالنسبة لبكرا شو؟" ولا يضحك. كأن رسالته كُتبت لتُفهم بعد فوات الأمل، بعد أن ينفد الضحك، وتبقى النكتة الأخيرة وحدها تصرخ في العراء.

زياد لم يصعد إلى جبل، لم ينزل عليه وحي. كان هو الجبل. وهو الشك. وهو الصدى الذي ما زال يتهكّم، حتى ونحن نحترق.

كاتب وإعلامي لبناني