على غير عادة الأنبياء، وُلد جورج إبراهيم عبد الله على الهامش. لم يكن جورج وريث دمٍ نبيل، ولا حامل نبوءة من السماء
النبي المسلح؛ جورج عبدالله
على غير عادة الأنبياء، وُلد جورج إبراهيم عبد الله على الهامش. لم يكن جورج وريث دمٍ نبيل، ولا حامل نبوءة من السماء، بل – وعلى غير توقّع – خرج من القبيات، من بيتٍ ماروني متواضع، ليتحوّل إلى أحد آخر أنبياء الثورة في هذا الشرق المنكسر.
كان يمكن أن يكون معلماً، أو فيلسوفاً، أو مجرد لبناني يمرّ في الحرب الأهلية مرور العابرين، لكنه، حمل البندقية، وأخفى وجهه، وأعلن ولاءه لقضيةٍ أكبر من اسمه، وأكبر من طائفته، وأكبر من وطنه نفسه.
لم يكن جورج منظّراً كـ"تروتسكي"، ولا أمير حرب كـ"تشي غيفارا"، ولا قائداً شعبياً تلتف حوله الجماهير. بل كان غريباً، هامشياً، عابراً في التنظيمات. لم يقف على المنابر، ولم يكتب بياناً للتاريخ، عاش حياته كلها تجسيداً لما يؤمن به، وحين اعتقل، لم يطلب محامياً، ولم يبكِ، ولم يسترحم.
ونحن لا نكتب هنا عن رجل اعتُقل ذات مساء في باريس، بل عن فكرةٍ قرّرت أن تعيش في جسد إنسان، ثم سجنت معه.
عن نبيٍّ من هذا العصر الرديء، جعل من السجن إنجيله والزنزانة محرابه، ولم يقبل بباب "الرحمة" للخروج.
النبي المولود في الأطراف (1951 – 1979)
في بلدةٍ جبلية صغيرة تدعى القبيات، على أطراف الوطن الذي لم يُحسن أحد تعريفه بعد، وُلد جورج إبراهيم عبد الله عام 1951.
وفي القبيات كانت أولى ملامح التناقضات المؤسسة لتلك الروح الثورية. القرية المارونية التي وعلى رغم من انتماء سكانها لـ"الطائفة المؤسسة"، بحسب السردية اللبنانية، إلا أنها وبحكم كونها من قرى الأطراف عانت من إهمال "الدولة المركزية" على مر العهود، فكان غموض الولادة في بقعةٍ لا تنتمي تماماً إلى مركزٍ ولا إلى هامش.
في تلك التربة النائية، ظهرت بذرة مشاكسة، جورج، الفتى الهادئ ذو العينين الضيّقتين والابتسامة المجانية.
كان لبنان الخمسينيات والستينيات لوحة مشوهة، بلدٌ صغير يتنازعه "الكبار"، حيث كل طائفة تبحث عن ظلّها، وكل زعيم يُنَصِّب نفسه ناطقاً باسم الله.
من الميثاق الوطني الهش، إلى أحلام العروبة، إلى رائحة الحرب الأهلية التي كانت تلوح في الأفق، كان كل شيء فيه يُشبه انفجاراً مؤجَّلاً.
في هذا اللبنان، كان الانتماء أكثر من مجرد شعور، كان خندقاً.
فأن تكون مارونياً؛ إذاً يُفترض أن تكون يمينياً، تكره الفلسطيني، تخاف من كل ما هو مسلم، وتُقدّس الدولة كما هي.
لكن جورج لم يكتب على دفاتره "ما يُفترض"، واختار أن يسأل أسئلة محرّمة على أبناء طائفته: لماذا يُمنَع اللاجئ الفلسطيني من العمل؟ لماذا لا يشبه الوطن وطناً، لماذا تتكرر أسماء الإقطاعيين ولا تتغيّر إلا وجوههم؟
وفي ظل ذلك الواقع أتت القضية الفلسطينية كزلزال. كل من لم يجد له مكاناً في النظام اللبناني وجد في فلسطين مرآته، وجورج كان نموذجاً خالصاً.
في بدايات السبعينيات، تبلور وعيه السياسي، عبر التحاقه الغريزي بما كان يشبه الحقيقة المطلقة: فلسطين هي المعيار، فيها يتكشّف كل شيء: من يقف مع المستعمر؟ من يراوغ؟ من يقاتل؟ ومن يتفرج؟
في تلك السنوات، لم يكن جورج قد دخل السجن بعد،لكنه كان قد اختار زنزانته بنفسه: عزلة عن الطائفة، غربة عن الجغرافيا،
وخيار لا رجعة فيه: أن تكون حيث يجب أن تكون، لا حيث يُتوقع منك أن تبقى.
النبي في المنفى (1979 – 1984)
كان عام 1979 عاماً فاصلاً في ذاكرة الشرق. في ذاك العام، غادر جورج إبراهيم عبد الله لبنان بحثًا عن معركةٍ أشدّ تعقيداً. وفي ذاك العام وُلد تنظيم جديد اسمه "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" من رحم الغضب على الاحتلال الإسرائيلي. وفي ذاك العام انتصر في إيران الإسلام الثوري ليبعث من جديد سؤال "الثورة" كمعنى يتجاوز الأيديولوجيا. وحينما كان اليسار الثوري قد بدأ بالترنح ما بعد قمة هلسنكي، بدأ الإسلاميون يكتشفون لغتهم الجديدة بعد سقوط الشاه في إيران. وفجأة، أصبح "الانفجار الثوري" مشتركاً بين خطين بديا متوازيين لا يلتقيان.
هذا المشترك – الذي لم يكن نظرياً بقدر ما كان عملياً – انعكس في شخصيات مثيرة للتأمل، مثل أنيس النقاش وجورج عبد الله، رجال قرأوا الثورة باعتبارها قدَراً تاريخياً، في زمن بدا فيه أن كل شيء يُساق نحو الصفقات، فقرروا أن يحملوا البنادق للضغط على الواقع المرير.
عام 1979، تأسست "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" كخلية صغيرة ومتماسكة. تَشربت من مدرسة وديع حداد، الرجل الذي رفع شعار "وراء العدو في كل مكان" معلنةً هدفها: محاسبة الدول الغربية الاستعمارية المتواطئة في زرع ودعم الكيان الصهيوني.
وبحسب السلطات الفرنسية، كان جورج إبراهيم عبد الله هو من تولّى قيادتها، أو على الأقل، صار اسمُه مرتبطاً بها كما يُربط النبل بالسهم.
لم تكن الفصائل جزءاً من أي جبهة لبنانية تقليدية، بل كانت تعمل في الظل، ومن خارج السرب. تضرب في المكان الذي لا يتوقّعه أحد. ولذلك، ظلّت طوال سنوات هدفاً للغيظ الاستخباراتي الغربي، ليس لخطرها على "الجيوش الكبرى"، بل لأنها تُذكّر العالم المتحضر أنه ليس نظيفاً كما يزعم.
في تلك السنوات، تحرك جورج في أوروبا، تحت أسماء مستعارة، وبجوازات سفر مزورة، مقيماً في غرف صغيرة، ومقاهي لا تُحفظ وجوه روادها.
وكما يمارس الناس المخلصون عباداتهم، مارس العمل الثوري بوعي وتجرّد وخلوص نية. لم يطمح إلى مجد شخصي، ولم يُسجل عنه أنه ارتجل خطباً أو قاد ميليشيا، بل كان أشبه بظلّ كثيف يتحرّك حين يُستَدعى، ويختفي حين يُنجِز.
في الموازاة، كانت الثورة الفلسطينية تنوء تحت عبء الجغرافيا الجديدة، بعد الخروج من بيروت، حيث لم يعد المقاتل ينام قرب الجبهة،
بل يخطب في المؤتمرات، ويجتمع في الفنادق. وهنا بدا لجورج – كما بدا لكثيرين من الجيل القديم – أن شيئاً من جوهر الثورة قد تسرّب من بين الأصابع.
جورج لم يكن يبحث عن دولة فلسطينية بحدود 67، ولا عن تسوية مشروطة. كان يريد عدالةً لا تُقسّم، وحق لا يُفاوض عليه.
ولذلك، حين تراجع الخطاب الثوري، اختار أن يُصعّد من العمل، مستفيداً من وجوده في "الجبهة المتقدمة"؛ في أوروبا.
وكان اغتيال رجل الموساد في السفارة الإسرائيلية في باريس عام 1982، ياكوف بارسيمانتوف. ثم الملحق العسكري الأميركي، رونالد مارك عام 1984؛ رسائل مشفّرة بلغة الرصاص، تقول: "إنكم شركاء في الجريمة، ولسنا ننتظر محاكمتكم، بل نحاكمكم بأنفسنا"، فكل صمتٍ عن العدوان تواطؤ، وكل تمويلٍ للاحتلال مشاركة مباشرة في الجريمة.
في تشرين الأول/أكتوبر 1984، أوقفت السلطات الفرنسية جورج عبد الله حاملاً جواز سفر جزائري مزور.
ومع اعتقاله بدأ فصل جديد من الحكاية... السجن
الجزء الثالث: النبي المسجون (1984 – 2025)
لم تكن محاكمة جورج عبد الله عام 1986 استحقاقاً قانونياً، كانت فصلاً تمثيلياً في مسرحية كتبتها أجهزة الأمن وأخرجتها السياسة.
رجلٌ يُلقى عليه القبض في 1984 بفضل "وشاية" من المخابرات الأميركية؛ تُفتّش شقته بطريقة غير قانونية؛ تُزرع فيها أدلة؛ ثم يُحاكم بتهمة "حيازة أسلحة" في محكمة ابتدائية؛ وبعد سنتين، وفي محكمة استئناف، يُحاكم من جديد، هذه المرة بتهمة "التواطؤ في القتل" ليس لأنه "قاتل"، بل لأنه تواطأ بالفكر، بالموقف، بالانتماء.
محاكمة في دولة تدّعي أنها تحتكم إلى القانون، لكنها في العمق تدين الفكرة التي يعبّر عنها الرجل، فكرة أن المستعمَر لا يحتاج إلى ترخيص ليقاوم، أن القتل من موقع الدفاع، لا يُعادِل القتل من موقع الاحتلال.
لم تكن المحاكمة بحثاً عن "الحقيقة"، بل تأكيداً على أن العدالة مجرّد واجهة، تُرفع لتُخفى خلفها تعليمات السياسة العليا، والسياسة هناك كانت أمن "إسرائيل".
ومنذ العام 2003، بدأت المحاكم الفرنسية تصدر قرارات بالإفراج المشروط عنه، شرط ترحيله إلى لبنان، إلا أنّ الدولة الفرنسية كانت دائماً تجد وسيلة للتراجع؛ وزير الداخلية يوقّع قرار الترحيل... فتُبطله وزارة الخارجية. القضاء يصرخ: "أطلقوه!"، فتهمس الدولة: "ليس بعد".
وبدا أن القضية خرجت من يد القضاء الفرنسي لتصير جزءاً من توازن دولي خفي: أميركا تضغط، فرنسا تهادن، "إسرائيل" تُصر، ولبنان... يرسل مذكرات رسمية بلا وزن. وهكذا، تم اختراع شكل جديد من السجن: سجين يُفرَج عنه قانونياً، لكنه يبقى خلف القضبان لأن الإرادة السياسية قررت تعليقه في الهواء.
ومن داخل الزنزانة، بدأ جورج يكتب رسائله، وكانت كل منها تبدو كأنها منشور ثوري، ولكن بلغة النبوءة: لا يبيع الوهم، ولا يصفق للممكن، بل يذكّر دائماً بالمبدأ. كانت رسائله تشبه "الإنجيل العلماني للمقاومة": تذكير دائم بأن الكفاح المسلح ليس خطأ ولا خطيئة، بل خيار لا زال قائماً.
لم ينشغل بالسرديات الذاتية، لم يتحدث عن طفولته أو أمه أو زنزانته، بل كتب عن فلسطين، ورفاقه، والتحولات في ميزان القوى العالمي. كتب عن الإمبريالية كما يكتب ناسكٌ عن الشيطان، وعن الرفاق كما يكتب نبيّ عن الرسل.
وكما دخل جورج السجن ابناً وفياً للماركسية اللينينية، خرج منه، فكريًا، في موقع أكثر تركيباً،فلم يتخلّ عن الماركسية، لكنه أدمجها برؤية أوسع. صارت فلسطينُ عنده ليست فقط قضية تحرر وطني، بل معياراً أخلاقياً: إن لم تكن مع فلسطين، فأنت مع النظام العالمي كما هو، وإن كنت معها، فكل الجغرافيا الأخرى قابلة لإعادة التفكير.
وفي قلب زنزانة فرنسية، صاغ جورج "نظرية البوصلة": فلسطين ليست وجهة سياسية فحسب، بل بوصلة أخلاقية تُقاس بها المواقف والأحزاب والثورات وحتى الأشخاص.
ومن هناك، من قلب سجنه، لم يكتب وصيته، بل كتب دعوته: أن تكون حراً ليس أن تخرج من السجن، بل أن ترفض السجن ولو متّ فيه.
كاتب وإعلامي لبناني