كشفت عدّة تحقيقات صحفية تطوير "اسرائيل" واستخدامها لبرامج الذكاء الاصطناعي في حربها الإبادية على غزّة
الفلسطيني من مستعمَر إلى مكوّن خوارزمي
وصف بعض المسؤوليين في "اسرائيل" معركة سيف القدس عام 2021 بـ"حرب الذكاء الاصطناعي الأولى" للكيان، مباهين بتقدمهم التقني وقدرتهم على أخذ الحروب إلى مستوى غير مسبوق. عملت الشركات "الاسرائيلية" على تسويق تقنياتها الحربية والتجسسية بوتيرة متصاعدة في العقدين الماضيين، محولةً احتلال فلسطين إلى مختبرٍ للتجارب، حيث أصبح الإنسان الفلسطيني مادةً للاختبار والفحص والبرهان. نقل تطور نماذج الذكاء الاصطناعي المتسارع في السنوات الماضية منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية، بنيوياً، إلى مرحلة أمنية استثنائية. مع هذه النقلة، حوّلت "اسرائيل" الفرد الفلسطيني من انسان مُستعمَر إلى مكوّن خوارزمي لتأسيس وتطوير برامجها التجسسية وتقنايتها الحربية، وفي الختام إحلال الشعب الفلسطيني بالكامل.
بعد حوالي خمسة أشهر من معركة سيف القدس، وقّعت شركتا جوجل وأمازون عقداً بقيمة 1.2 مليار دولار أميركي مع "اسرائيل"، عُرف باسم مشروع نيمبوس. وفّرت الشركتين بهذا العقد ما يعرف بخدمات السحابة الرقمية لجيش وحكومة الاحتلال. تعزّزهذه التقنية قدرة "اسرائيل" على مراقبة الفلسطينيين وجمع بياناتهم، وتخزين هذه البيانات ومعالجتها واستخدامها، وبيعها، لأي غرض يصب في منفعة منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية.
ليس جديداً أن تراقب منظومة الاستعمار الشعب المُستعمر، وتعمل على جمع البيانات الاجتماعية والجغرافية لإحكام السيطرة السياسية والاقتصادية على الأرض ومواردها. يمكننا اعتبار جمع البيانات سلاح قوى الاستعمار الأنجع منذ بداية ظهور نظم الاستعمار الأوروبي في القرن الخامس عشر. فقد شكلّت عمليات التجسس وتحصيل المعلومات أساساً جوهرياً في تأسيس كيان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني منذ بدايات القرن العشرين. ومع الانتفاضة الأولى، وتطور التقنيات الالكترونية في نهاية ثمانينات القرن الماضي، انتقلت آلية التجسس وجمع البيانات إلى مرحلة جديدة في فلسطين المحتلة.
ابتدع مايكل كوِت مصطلح "الكولونيالية الرقمية" في دراسته المنشورة عام 2019 بعنوان "الكولونيالية الرقمية: الإمبراطورية الأميركية والإمبريالية الجديدة في الجنوب العالمي". يعرف كوِت الكولونيالية الرقمية بـأنها منظومة هيمنة تعتمد على الملكية المركزية والسيطرة على الركائز الثلاث الأساسية للنظام الرقمي: نظم البرمجيات، وحدات التخزين، وشبكات الاتصال. ومع اعتماد الاقتصاد الحديث على النظم والخدمات الرقمية، أصبحتالشركات العملاقة مثل مايكروسوفت وأمازون وجوجل "الإمبريالييون الجدد"، كما اسماهم كوِت.
بدأت "اسرائيل" فرض نظام البطاقة الممغنطة على العمال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ منتصف عام 1989. تحتوي البطاقة الممغنطة على معلومات الفرد الشخصية وسجلّه الأمني. بعد الانتفاضة الثانية مباشرة،أضافت قوى الاحتلال الأمنية المعلومات الحيوية إلى البطاقة الممغنطة، كما انتشرت تقنيات المراقبة والتجسس البصرية في معابر وطرقات ومراكز الضفة الغربية، ما سمح للاحتلال بملئ بنوك المعلومات الاستخباراتية بكم هائل من البيانات. ومع شيوع الانترنت والهواتف الحديثة، والتطور التكنولوجي لنماذج الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى حصيلة عقود من مخازن البيانات الفلسطينية عند قوى الاحتلال، دخل الانسان الفلسطيني سوق البيانات العالمي كوحدة رقمية تعريفية، مجرّداً من انسانيته وطبيعته البشرية.
يفصّل الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين في كتابه الشهير "مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم" الآليات التي اتبعتها منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية في تصدير نماذج وأنظمة التجسس والحرب المختلفّة إلى العالم بعد تجربتها على الشعب الفلسطيني. فمن كاميرات المراقبة والرصد إلى الطائرات بدون طيار ومعدات الأسلحة المختلفة، تشكّل البيانات الفلسطينية أساساً في تطويرها ودراستها والتسويق لها، دون رادع أو حد؛ حتى وصلت حالة الاعتداد بالنفس عام 2020 عند العقيد "الاسرائيلي" أورين ماتزلياش الذي كان يعمل على تطوير أحد برامج التطبيقات الأمنية لجيش الاحتلال بقول أن قصف الفلسطينيين وقتلهم سيكون أسهل من طلب البيتزا بالهاتف الذكي.
يبيّن لونشتاين في كتابه الاستقصائي أن آلة الحرب والتجسس "الإسرائيلية" مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمنظومة العالمية لا على مستوى البنية الاقتصادي وحسب، بل حتى على مستوى البنيّة التشريعيّة. فعلى الرغم من إصدار الأمم المتحدّة في فبراير/شباط 2020 قائمة تضم 112 شركة تعمل في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، داعيةً إلى إنهاء عملها غير القانوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أنّ الأم المتحدة ذاتها لم تتورع عن توقيع عقود أمنية مع بعض الشركات "الاسرائيلية" المدرجة في القائمة لتوفير المعدّات والأجهزة الأمنية لقواعدها ومؤسساتها المنتشرة حول العالم في العام نفسه.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول سارعت شركة جوجل لتوفير تقنيات الذكاء الاصطناعي وخدمات السحابة الرقمة الخاصة بها للجيش "الاسرائيلي"، محاولةً قطع الطريق على منافسيها الكبار، حسب وثائق مسربة حصلت عليها صحيفة واشنطن بوست. لم تنجح جوجل في حصر التعامل الأمني معها. تعاونت الشركات الأميركية العملاقة مع الجيش "الاسرائيلي" وتسابقت على توفير خدمات الذكاء الاصطناعي ودخول معترك المختبر الفلسطيني من أوسع أبوابه: حرب الإبادة. قدّمت كل من شركات مايكروسوفت، أمازون، أوبن أي آي، وميتا خدماتها المتقدّمة ومميزات تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة لـ "اسرائيل". ومع امتلاك أحدث التقنيات وأكثرها تطوراً، انتقلت "اسرائيل" من مرحلة قتل الإنسان الفلسطيني إلى مرحلة محو الكيان المُعرّف بالوحدات الرقمية. بتعبير آخر، صار الإنسان الفلسطيني عبارة عن مجموعة من الوحدات الرقميّة التي تحدد هدف/أهداف قصف الجيش "الاسرائيلي".
كشفت عدّة تحقيقات صحفية تطوير "اسرائيل" واستخدامها لبرامج الذكاء الاصطناعي في حربها الإبادية على غزّة. برامج مثل "لافندر" و"غوسبل" فُعّلت لتحديد اهداف قتل وتدمير مختلفة تتراوح من البشر إلى مكونات البنية التحتية في غزّة. تباهت بعض المصادر "الاسرائيلية" في حديثها عن استخدام الذكاء الاصطناعي لصحيفتي الجارديان و لوكل كول ومجلة 927+ بامتلاك الجيش "الاسرائيلي" ما اسموه "بنك أهداف الذكاء الاصطناعي". وعلى الرغم من الاختلافات الوظيفية لهذه البرامج، تعتمد جميعها على عمل الخوارزميات وبنوك البيانات، التي جمعتها أجهزة وتقنيات التجسس على مدى سنوات، في تصنيف وتحديد اهداف القصف. فكل ما هو فلسطيني في غزة تصنّفه أنساق سلسلة صفر-واحد في السحابات الرقمية التي تتغذى عليها خوارزميات ومعالجات برامج الذكاء الاصطناعي "الاسرائيلية".
طوّرت الوحدة 8200 خلال الحرب نموذج ذكاء اصطناعي توليدي تجسسي يشبه تطبيق شات جي بي تي المشهور. لم تكتفي الوحدة 8200 بجمع البيانات عن طريق قرصنة أجهزة تواصل الفلسطينيين حول العالموالرجوع إلى بنوك المعلومات الموجودة عندهم وحسب، بل حسنّت عمل نموذج التطبيق التجسسي من خلال تدريب الخوارزميات على البيانات العربية الموجودة على الانترنت بمختلف انماطها ولهجاتها. كما كشف التحقيق الصحفي الذي نشرته مجلة 927+بالتعاون مع صحيفتي الجارديان و لوكل كول أن كل الاتصالات والمحادثات والصور والرسائل وغيرها من البيانات الموصولة بالشبكات الالكترونية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مراقبة ومخزّنة في بنوك المعلومات عند اجهزة الاستخبارات "الاسرائيلية".
رغم أن "منطق الإحلال"، كما يسميه باتريك وولف،ركيزة عضوية في منظومة الاستعمار الاستطياني، أي إلغاء إنسان الأرض ومحو تاريخ المكان وذاكرته الثقافية للاستحواذ على الأرض وكتابة تاريخ جديد للمكان، إلا أن الذكاء الاصطناعي أضفى على الاستعمار الاستيطاني الصهيوني خاصيّة المحو الرقمي الكولونيالي. اعتمدت كل نظم الاستعمار تاريخياً، بما فيها "اسرائيل"، على تجريد المُستعمَر من انسانيته إما للاستحواذ على الأرض، أو الاستحواذ على اليد العاملة، أو كليهما. أما في حالة الانسان الفلسطيني، أضافت "اسرائيل" محو الفلسطيني بتحويل وجوده لوحدات رقمية في بنوك المعلومات ومخازن البيانات الاستخبارتية من جانب، وتأكيد وجوده الرقمي بمحو وجوده المادي على الأرض من جانب آخر. وفي كلا الحالتين، تصدّر اسرائيل نتائج المحو الرقمي الكولونيالي إلى العالم، وعلى رأسهم الدول العربية، لتجذير وجود الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بخلق استراتجية تراكم أرباح وهيمنة جديدة، وفرتها نماذج الذكاء الاصطناعي.
كاتب وناشط سعودي