Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

نحن هنا إزاء تكرار لتجربة "أدب النكسة" (بعد عام 1967) في جنبة ما، تحديداً، عندما برز صادق جلال العظم ومعه حشد من المثقفين للكيل للدين والثقافة الدينية بما أعانهم عليه قلمهم وخيالهم الأورو-مركزي. الهزل آنذاك، أننا عشنا لسنوات "نقد الفكر الديني" و"نقد نقد الفكر الديني"، على شاكلة حوارات بين صادق جلال العظم، وراعي الثقافة الأول في سوريا و"حامي التراث" العماد أول مصطفى طلاس، في جولة سريالية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثلاً

بشار اللقيس

تكوين: على باب الله... وباب رأس المال

في رده على سؤال الثقافة وموقعها من المجتمع، فترة الأزمات، يقدم محمد جمال باروت (في بودكاست هامش جاد) مقاربة تستأهل الكثير من النقاش. يقول باروت أن ثمة انفكاكاً بين الثقافة والسياسة. ودليله؛ صعود المدرسة الشكلانية في روسيا نهاية الحكم القيصري (أي في إحدى أكثر لحظات التاريخ السياسي الروسي بؤساً وانحطاطاً). يرى باروت الثقافة عصية على التطويع، وأن وزارات الثقافة في عالمنا العربي ظلت عصية على التأميم (يضرب باروت المثال بروايات ديستويفسكي التي لم تستطع السلطات العربية منع طباعتها). كلام باروت يمكن فهمه بلحاظ دفاعه عن موقعه/ تاريخه السياسي ليس إلا. لكن نظرة فاحصة تفيد أن ثمة مغالطة كبرى في هذا المقام. الثقافة هي أول ما تؤممه السلطة، وديستويفسكي العربي - ترجماته العربية - لم يكن عصياً على التأميم بقدر ما كان جزءًا من سياسات التأميم. تخيلوا، في الوقت الذي تصدت فيه التجربة القومية للمشهد السياسي في كل من مصر، سوريا، ليبيا، العراق، اليمن، وفي الوقت الذي كان ينبغي للثقافة فتح أسئلة الحرية والتنمية ومسؤولية السلطة الاجتماعية، طُبعت كتب ديستويفسكي أكثر بأضعاف مما طُبع من كتاب لينين "ما العمل؟". ما العمل هو السؤال الذي يُقلق السلطة و"ما العمل" هو السؤال الذي تريد السلطة إرجاءه وتأميمه. أما السبيل إلى ذلك، فترة الستينيات والسبعينيات، فكان ببساطة؛ روايات ديستويفسكي.ا

لم تحظ الدراسات الأدبية في عالمنا العربي بقسط وافر من التأمل السياسي. وقلما دُرست النصوص الأدبية في علاقتها بالواقع السياسي. كمثال، قلما دُرست في عالمنا العربي الشكلانية الروسية باعتبارها هروباً ثقافياً من أسئلة المعنى ومترتباته السياسية أواخر المرحلة القيصرية، كما أنها قلما دُرست كتيار نقدي عالمي - فقط وفقط - عند تبني "البنيوية الفرنسية" و"تيار النقد الأدبي الجديد في أميركا" لها مرحلة الحرب الباردة. مرة جديدة، نحن أمام غياب لجنبة مهمة من النقد الثقافي العربي، تحديداً جنبة العلاقة بين الثقافة والسياسة، وبين الثقافي والسياسي. في كل طرح ثقافي ثمة سؤال لا بد منه: ما المراد السياسي من هذا الطرح؟.ا

قبل نحو ثلاثة أسابيع تقريباً، خرجت منصة "تكوين" إلى الواجهة العربية في القاهرة جامعة لعدد من الأسماء الفكرية والثقافية. أسماء و"مواهب" متعددة المشارب يجمعها عداؤها للإسلام السياسي. أما المهمة الأساس بالنسبة لها فتكمن في نقد الفكر الديني. ليست الإشكالية في نقد الفكر الديني - الأمر مطلوب بطبيعة الحال -، الإشكالية أن معيار تكوين الوعي العربي ونهضة مجتمعاتنا المسلمة، عند هؤلاء، لا يكمن إلا في نقد الفكر الديني دون سواه. نحن هنا إزاء تكرار لتجربة "أدب النكسة" (بعد عام 1967) في جنبة ما، تحديداً، عندما برز صادق جلال العظم ومعه حشد من المثقفين للكيل للدين والثقافة الدينية بما أعانهم عليه قلمهم وخيالهم الأورو-مركزي. الهزل آنذاك، أننا عشنا لسنوات "نقد الفكر الديني" و"نقد نقد الفكر الديني"، على شاكلة حوارات بين صادق جلال العظم، وراعي الثقافة الأول في سوريا و"حامي التراث" العماد أول مصطفى طلاس، في جولة سريالية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثلاً. علماني ينتقد فشل المؤسسة العلمانية بنقد التراث الموغل في التاريخ، ووزير دفاع علماني يخوض حرباً ضد الإسلام السياسي ومتفرعاته بالانتصار للتراث الفقهي "الضد دولتي" (يا لحظنا العثر في مثل هذه الواقعية السحرية). الهزل الأشد مرارة أننا اليوم أمام استعادة لنفس مكرورات "أدب النكسة". والفارق الوحيد في أن "تكوين" وقعت في نفس ما أرادت هي نقده.ا

سلفيتين حاكمتين:ا

شكل كتاب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي "السلفية مرحلة تاريخية مباركة لا مذهب إسلامي" نقطة افتراق مهمة بين البوطي والتوجه السلفي في سوريا (بالرغم من الصدور المتأخر للكتاب نسبياً على تاريخ افتراق الطرفين). بالنسبة إليه، كان وضع السلفية في سياقها التاريخي ضرورة تحتاجها الحركة الإسلامية قبل غيرها. ثمة فخ يقع فيه كثير من الإسلاميين والعلمانيين (على حد سواء) في نظرتهم للدين وللواقع اليوم. إن خيال الإسلاميين في أن الحل الإسلامي لتحديات الراهن إنما هو حبيس مدونات السلف أو الصدر الأول من الإسلام – فقط - فيه كثير من المغالطة، كما أن خيال كثير من العلمانيين في كون حلول الواقع مرهونة حصراً بنقد التاريخ الديني فيه مغالطة أكبر. الطرفان يقعان ها هنا في الفخ الفيبري، وفي إعطاء المجتمعات صفة جوهرانية، وفي سوء تقدير العلاقة بين الثقافة والسياسة وفي علاقة الثقافة بالواقع. لقد طوّف ماكس فيبر المسألة الثقافية وأعطاها صفة جوهرانية في المجتمعات، فصار التقدم الغربي رهن "روح العمل البروتستانتية" والتخلف الإسلامي رهن "روح العمل الإسلامية" التي لم تنتج رأسماليتها الخاصة (يمكن أن نجد هذا المنطق عند ماكسيم رودنسون في الإسلام والرأسمالية). الإشكالية ها هنا، أننا نعطي الثقافة مكانة جوهرانية أبدية في حياة الشعوب، ونظن أن التقدم/ التخلف رهن الالتزام/ التجديد أو حتى التحرر من مثقلات الثقافة الجوهرانية الملازمة للمجتمعات. العلمانية والإسلام السياسي هذا بالتحديد، حبيسان لرؤية "سلفية فيبرية واحدة" حكمت خطابنا الثقافي منذ الحوار الأول بين إيرنست رينان وجمال الدين الأفغاني منتصف القرن التاسع عشر. كان رينان مصراً على أن مشكلة المسلمين نابعة من مشكلة الإسلام نفسه وعدم صلاحية الإسلام لقبول العلم والمعرفة، وكان دفاع الأفغاني مستميتاً في تأكيد صلاحية الإسلام للعقلانية وللانخراط في الحداثة، والطرفان غيبا الظروف الكولونيالية الحاكمة في القرن التاسع عشر على المشهد العالمي كله. إننا أمام هرم معرفي وأخر مقلوب رأساً على عقب، يتناوب فيه طرفان النقد و"نقد النقد" بعيداً عن الواقع، مع ما يفرزه الواقع من إكراهات ومشاكل وحلول، وهو حالنا منذ ما يزيد عن القرنين بأبسط تقدير.ا

على باب الله وباب رأس المال:ا

لم تكن الدولة وحدها من "أُسقطت من أعلى" على مجتمعاتنا في النصف الأول من القرن العشرين. مفاعيل الدولة وما أفرزته من طبقات، أو شبه طبقات، لا تزال عصية على الفهم إلى اليوم. في تحليله للنموذج السوري يتوقف جوناثان فيجر (Jonathan Viger) عند كتاب ماركس "الثامن عشر من برومير" باعتباره النص الأكثر صلاحية من كتاب "رأس المال" لقراءة الواقع العربي. السلطة في العالم العربي أشبه بطبقة رأسمالية منفكة عن المجتمع، تنتج رأسماليتها الخاصة، وشبكة صراعاتها النفعية داخل بنى الدولة وأجهزتها، لا داخل المجتمع وبناه (لذا هي تذوي عند كل صدام أو توتر اجتماعي لتظهر على شكل شبكة فظة من المحسوبيات ليس إلا). يتقاطع فيجر ها هنا مع خلدون النقيب، ونزيه الأيوبي نسبياً، في أن الطبقات لم تتشكل إلى اليوم في عالمنا العربي كقوة اجتماعية بنحو مستقل. نحن نملك "شبه بروليتاريا" و"شبه برجوازية" و"شبه طبقة وسطى". وعلى عكس الطبقة الوسطى التي تولدت في أوروبا نتيجة صراع/ نمو اجتماعي طبيعي وكمنتج رأسمالي له دورته الصناعية الخاصة. لا تملك الطبقة الوسطى في عالمنا العربي ما تعتاش عليه أصلاً، لذا هي على الدوام ملتبسة التكوين والتوجه وفي خدمة رأس المال "أنّى حطت ركائبه". الإشكالية تتفاقم إذا ما لحظنا فشل الدولة القطرية في إنجاز أي من وعودها، (التنمية، الحرية، الاستقلال) قد زاد بدوره من تيه الطبقة الوسطى التي كان من المفترض أن تحمل مشروع الدولة التنويري على كاهلها. والنكبة تتفاقم يوماً بعد يوم مع اقتحام الثقافات الهامشية في الخليج (السلفية الجامية والليبرالية الاستهلاكية) قلب المشهد الثقافي العربي مدفوعة بفائض العائد النفطي.ا

إن وقوف المثقف على باب الله وباب رأس المال، يجعله على الدوام عرضة للصيد السهل. ولو كانت الصيدة مجتمعات ودول بحجم "أوطان" يتهاوش النظام الرسمي الخليجي عليها. ولو كانت الصيدة "بالية" على شاكلة "نقد الفكر الديني". ولو كانت المهمة "شكلانية" من قبيل مواجهة الإسلام السياسي.ا

رئيس تحرير صحيفة الخندق