بدل أن تتحقق دعوة تشي غيفارا بأن تخلق أكثر من فيتنام لاستنزاف الامبريالية الأمريكية وعت أمريكا درس فيتنام وخلقت من أفغانستان فيتناماً للسوفييت. على مر فترات زمنية مختلفة كانت أرض أفغانستان وما زالت ساحة لصراع قوى دولية مختلفة كان لها أثر كبير في تشكيل واقع البلاد الحالي
وجه القمر: أفغانستان كساحة لتحقق ذوات مغامرة
"البواخر مخرت أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل"
الطيب صالح - موسم الهجرة الى الشمال
***
بدل أن تتحقق دعوة تشي غيفارا بأن تخلق أكثر من فيتنام لاستنزاف الامبريالية الأمريكية وعت أمريكا درس فيتنام وخلقت من أفغانستان فيتناماً للسوفييت. على مر فترات زمنية مختلفة كانت أرض أفغانستان وما زالت ساحة لصراع قوى دولية مختلفة كان لها أثر كبير في تشكيل واقع البلاد الحالي. في تاريخها الحديث شهدت الساحة الأفغانية أشكال مختلفة من أنماط الحكم وتشكل بناء الدولة بدءً من الملكية في عهد أمان الله في العشرية الثانية من القرن العشرين مروراً بإعلان الجمهورية وإنهاء الملكية على يد محمد داوود مطلع السبعينات ثم الانقلاب اليساري على جمهورية داوود في ما عرف بثورة ثور وإعلان الجمهورية الديموقراطية على يد نور محمد تراقي وما تلى ذلك من صراع بين جناحي الحزب الشيوعي خلق (الشعب) وبرشام (الراية) ثم الصراع داخل جناح خلق بعد تمكنه الكامل من السلطة وصعود حفيظ الله أمين لمنصب الأمين العام لحزب الشعب الديموقراطي بعد تصفيته لرفيقه تراقي. تبع مرحلة الصراع الدامي بين مكونات السلطة المحلية احتلال عسكري مباشر من قبل القوات السوفيتية للبلاد لتحديد شكل النظام الحاكم خصوصاً مع تخوف أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي من شخص حفيظ الله أمين وعلاقته مع الغرب، بالإضافة الي قصور النظام الحاكم في أفغانستان عن السيطرة على الصراع الدامي في ريف البلاد وفشل النظام في اخماد الحرب الأهلية المشتعلة في البلاد. كان النظام الحاكم يتعرض لحرب عصابات محتدمة من قبل بعض القوى الدينية التقليدية والأحزاب الإسلامية الحديثة الحاضر الأقوى في الصراعوبعض تنظيمات المغاوير ماوية التوجه التي لم يدم وجودها طويلا في ساحة الصراع. ساهم دخول قوى إقليمية ودولية (باكستان، السعودية، والولايات المتحدة) في خط الصراع في عولمة الصراع وإطالة أمده فتجاوز الصراع خصوصيته المحلية وأصبح جزء من صراع الحرب الباردة المحترم بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية فتحولت أفغانستان الي ساحة حرب يتم فيها استنزاف الإتحاد السوفيتي بصورة مستمرة. في المغامرة السوفيتية في أفغانستان سقطت الصورة التي كان يروج لها سابقاً عن الإتحاد السوفيتي كنصير العالم الثالث وحليف حركات التحرر الوطني وخلقت صورة مغايرة لإمبريالية مهيمنة تسعي للسيطرة علي الأرض والموارد لأجل تحقيق مصالحها الخاصة. كمقابل لسطوة الإمبريالية السوفيتية خلقت ظاهرة جديدة لموجهاتها عرفت بتجربة الجهاد الأفغاني تخلقت هذه الظاهرة في ظل تحولات كبيرة في الساحة الدولية شهدت افول نجم الاطروحات الاشتراكية الكلاسيكية وفشل تجارب المشاريع القومية في الدول المنعتقة من الاستعمار وعجز مشاريع التحديث عن تحقيق الأثر المرجو منها شهدت المرحلة أيضاً عودة الرابطة الدينية بقوة في المجال العام وبتمظهرات في مختلف الساحات السياسة من يسار ويمين. فكما تحدث ميشيل فوكو عن مستودع بارود اسمه الإسلام في مقالاته عن الثورة الإيرانية وكما شهدت فترة نهاية الستينات والسبعينات صعود حركات لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية مع غوستافوغوتريز، ليوناردو بوف، كاميلو توريس وغيرهم، شهدت الساحة العالمية أيضاً صعود اليمين الديني في الولايات المتحدة، أوربا، ودور الحركات المدنية المسيحية في مناهضة الانظمة اليسارية كما حدث في بولندا. في ظل هذه الفترة المضطربة عالمياً ساهمت عدة عوامل في خلق واستمرار الصراع الدامي والمدمر الذي تعارف علي تسميته بالجهاد الافغاني والذي استمر من نهاية السبعينات وخلال فترة الثمانينيات من القرن المنصرم حتي دخول المجاهدين الأفغان الي كابول في العام 1992.
أفيون الشعوب وفائض قيمته المسلوب:
في سبعينات القرن المنصرم شكلت البوذية صرعة جديدة للشباب الغربي الباحث عن المعنى. كانت أفغانستان نقطة في طريق رحلات الشباب الهيبي الرافض لقيود الحداثة الغربية وماديتها والباحث عن روحانية متخيلة ومشتهاة في ساحات الشرق الغامضة حسب الروىءالاستشراقية المهيمنة على تصور ذلك الجيل. في فترة تمدد السياحة الروحية القصيرة توطنت زراعة نبتة الحشيش المستعمل بكثرة من قبل الهيبيز في تلك الفترة. لم تكن زراعة الحشيش في أفغانستان شائعة قبل علو الطلب عليه في فترة السياحة الروحية. تاريخياً لم يكن لزراعة الحشيش وجود يذكر وكان الأفيون هو المحصول الأقدم والأكثر شيوعاً في أفغانستان وشبه القارة الهندية. اقتصاد أفغانستان الحديثة كأغلب دول العالم الثالث يعتمد على الزراعة. عولمة الطلب على الحشيش والأفيون منذ سبعينات القرن المنصرم ساهمت في توطين زراعة المحصولين في البلد مع حضور أقوى للأفيون نسبة لهامش ربحه العالي نسبياً مقارنة بباقي المحاصيل الزراعية. المفارقة المعبرة عن واقع أفغانستان المذري أن 1% فقط من عائد تجارة الأفيون يصل للمزارعين محلياً بينما يتمركز فائض القيمة المنهوب في سوق المخدرات العالمي.
***
"وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل مدينة،
(( قُتِل القمر))!
شهدوه مصلوباً تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر!
نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره!
تركوه في الأعواد،
كالأسطورة السوداء في عيني ضرير"
أمل دنقل - مقتل القمر
***
شكلت أفغانستان الثمانينات نقطة التقاء لأطياف مختلفة من الشباب الرافض لبنى مجتمعاتهم القائمة. فكما كانت أفغانستان السبعينات نقطة لالتقاء الهيبيز شكلت أفغانستان الثمانينات نقطة لألتقاء الشباب الباحث لمعنى لوجوده وذاته في مغامرة خطرة. من بين الشخصيات الجاذبة للاهتمام المشاركة في تجربة الجهاد الأفغاني شخصية المخرج السينمائي الجنوب أفريقي الجنسية والمنحدر من أسرة من السكان الأصليين لأمريكا "الهنود الحمر" ريشتارد ستانلي وصديقه المجاهد وقتها والمراسل الحربي لاحقاً كارلوس مافروليون الذي غير اسمه إلى كريم الله بعد اعتناقه الإسلام. كارلوس وجوده في أفغانستان سابق لحضور ريتشارد. جاذبية الأيدولوجيا الحية التي صاغتها روح المرحلة والتي اعتنقها كارلوس جعلته يترك عمله في سوق الأسهم وثروة أسرته المتجاوزة لـ100 مليون جنيه استرليني ويتوجه للمشاركة في تجربة الجهاد الأفغاني. في معسكرات الحزب الإسلامي جناح المولوي يونس خالص كانت قلة قليلة من القيادات تعرف حقيقة قصته. بينما كان يعرف نفسه لعموم المقاتلين بأنه كريم الله سليل أسرة أفغانية من نورستان. اختيارهلنورستان لم يكن جزافاً إذ انه على دراية بتاريخ المنطقة وأنها كانت تعرف بكافرستان حتى وقت قريب إذ لم يدخلها الإسلام إلى قبل فترة لا تتجاوز المئة عام. يلاحظ أن نفس النقطة ركز عليها ريتشارد ستانلي في مطلع فيلمه التسجيلي "وجه القمر" الذي قاما بتصويره خلال مشاركتهم في معركة جلال آباد التي شهدت ايضاً حضوراً من قبل المقاتلين العرب الموجودين في المنطقة والذين أضافوا عليهاً بعداً أسطورياً ساهم في تأسيس تصورهم لسردية طبيعة مشاركتهم في الحرب. التركيز على البعد الوثني المناقض للحداثة في الفيلم يحمل مضمون أكبر لطبيعة الأسباب التي دفعت بكارلوس وريتشارد للانضمام لمغامرة خطرة هروباً من حداثة مادية إلى متخيل سابق للحداثة. نفس التجربة مر بها المخرج الافغاني صديق بارماك بعد عودته من دراسة السينما في الاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من الثمانينات فبدل ان يسير على خط السينمائيين السوفييت ملهميه لدراسة السينما "إيزينشتاين، بدوفكين، ميخائيل روم، وباراجانوف" صار ملهمه خط سينمائي جديد خطه السينمائي الإيراني الناقد للحداثة الغربية مرتضى آويني فترك عمله في مؤسسة الفيلم الافغاني وتوجه لبنشجير منضماً لقوات أحمد شاه مسعود ونفس السؤال طرحه على نفسه الفنان الكوميدي أمان مجددين المتشبع بالوجودية السارترية والعائد من ولاية فلوريدا الأميركية للمشاركة في نفس الصراع. يلاحظ في تجارب الافراد السابق ذكرهم غياب الانتماء الى بنية تنظيمية مؤسسة او حضور أيدلوجية منظمة قبل الانضمام الى الساحة الأفغانية. هذا الغياب ساهم بصورة رئيسية في تشكيل مألات تجارب هولاء الافراد فلم يمضوا في تجربة خلق الذات من خلال العنف الى نهايتها بخلاف جيل معاصر لهم ومعولم مثلهم خاض التجربةبصورة مماثلة لكن سابق انتماءاتهم التنظيمية وتجاربهم المريرة مع تنظيماتهم السابقة خصوصا التمثلات المختلفة لجماعة الاخوان المسلمين بشقها السوري كما كان الحال على سبيل المثال مع مصطفى ست مريم نصار (أبو مصعب السوري) القادم الى أفغانستان من مهجره في إسبانيا أو بشق الجماعة المصري كما كان الحال مع مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) القادم إلى أفغانستان من مهجر الخليج فتجاربهم السابقة لتجربة أفغانستان كان محفزهم الرئيس ودافعهم لخلق تصورات جديدة للعمل التنظيمي ناقدة وناقضة لتجاربهم الماضية فكانت أفغانستان ساحة صراع ونقطة تكوين لقاعدة صلبة لكنها ليست نهاية المراد او وجه القمر الذي حاول إيصال صوته كريم الله وريتشارد ستانلي.
"Related Posts
كاتب سوداني