أصبح قول أن العالم ما بعد 7 تشرين/ أكتوبر يختلف عما قبله كليشيه سياسية وصحافية رتيبة. فالحديث عن التواريخ أو الأحداث دون التطرق إلى السرديات التي تبْنيها، و تتصارع في بنائها، لا يُنتج وعياً بقدر ما يوهم صاحبه بمعرفة التطورات الآنية
السابع من أكتوبر: الثابت الإقليمي والمتحول العالمي
أصبح قول أن العالم ما بعد 7 تشرين/ أكتوبر يختلف عما قبله كليشيه سياسية وصحافية رتيبة. فالحديث عن التواريخ أو الأحداث دون التطرق إلى السرديات التي تبْنيها، و تتصارع في بنائها، لا يُنتج وعياً بقدر ما يوهم صاحبه بمعرفة التطورات الآنية.ا
اقتربت حرب طوفان الأقصى من اكمال الأشهر الثلاثة. بقدر ما هي حرب ميادين وسلاح، هي صناعة لا متناهية لخطابات متعددة الأبعاد، تشكّل حاضر ذهنية المتلقي بإنتاج سردية الماضي والمستقبل في آن واحد. وكأن اللحظة الحاضرة هي قوّة متحركّة على الدوام؛ وبالتالي لا يمكن الوقوف عندها أو الإشارة إليها.ا
منذ شيوع خبر بدء معركة طوفان الأقصى، تجلّت الخطابات الغربية، السياسية والاجتماعية والإعلامية، على أساس امتلاك الحقيقة وإدانة كل ما يعارضها. بغض النظر عمّا تتضمنه من عنصرية وفوقية من ناحية، وتأكيد على صياغة الاستحقاق اليورو- أميركي للهيمنة من ناحية أخرى، لم تنحصر هذه الخطابات على الهيمنة السياسية والاقتصادية فقط، بل والاستحواذ على الحقيقة التاريخية والثقافية التي تحدد ماهية الذات والآخر. بالتالي، كل ما يعارض هذا الاستحقاق هو إنسان بربري، متوحش، وغير متحضر.ا
مثلما أصبح الحديث عن وقع 7 تشرين/ أكتوبر كليشيه، صارت الإشارة إلى عنصرية الغرب ممّلة. فمنذ أن بدأ الأوروبيون في السيطرة على الملاحة العالمية في القرن الخامس عشر، وبالتالي على منافذ التجارة وبدء مرحلة الاستعمار، حَرّكت السرديات العنصرية، الدينية والعلمية على حد سواء، صياغة اللغة السياسة في علاقاتهم مع الآخر.ا
ما يهمني هنا هي الخطابات العربية، وما بني عليها، وما أنتجته من سرديات توهم قارئها أنها متنوعة ومتفاوتة، بينما غالبها لا يعدو أكثر من صياغات متعددة لذهنية المستعمر/ المهيمن القريب - البعيد.ا
منذ بدء انتشار فيديوهات وصور عملية طوفان الأقصى على مواقع التواصل الاجتماعي، برزت أصوات مثقفين وصحفيين عرب تدين وتستهجن ما حصل استناداً على العقلانية والإنسانية ورفض إيذاء الآخر، خصوصاً المدنيين، تحت أي ذريعة كانت. وكأنّ السؤال الأخلاقي المجرّد الذي على المتلقي البدء منه: هل توافق على مهاجمة وقتل وأسر المدنيين العزّل؟ أي محاكمة الذات على أساس وجود قاعدة أخلاقية كونية نحتكم ونقرأ الحدث من خلال عدساتها المحددة سلفاً؟.ا
ما تغلّفه هذه السردية، أو تسقطه عمداً، لتحقيق أهداف سياسية، هو أن الاحتلال بحد ذاته خلل سياسي ومنظومة ضد الحرية والكرامة والعدالة، وبالتالي ضد الإنسان والأخلاق والقيم وحق العيش بأمان. أو كما يوضح فرانتس فانون في كتاب معذبو الأرض بأن الاستعمار فعل عنف لا على مستوى البنى الأولية التي تشكّل علاقات الإنسان المُستَعمر في الفضاء الاستعماري فقط، بل يتجاوزه ليصل إلى أعماق تشكّل الهوية وذاكرتها. بالتالي، لا يمكن التصدي وإنهاء عملية العنف هذه إلا بعملية عنف مضاد. وفي سياق فلسطين، لا يمكن التحرّر إلا عن طريق الكفاح المسلّح. ولنا في الجزائر وتحرر غالبية الشعوب في القارة السوداء خير مثال.ا
تماهت وتعالت الأصوات الرافضة والمحاربة للكفاح الفلسطيني المسلّح في الصحف الخليجية (الليبرالية جداً في سنواتها الأخيرة) وعلى رأسها الشرق الأوسط من ناحية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي من ناحية آخرى. وكالمعتاد من الليبرالي العربي (الطائفي تحت عباءة التقدم، والذي لا يختلف عن العنصري الأبيض المتلحف بالحضارة والإنسانية)، هوجمت حركة حماس في ثلاث سياقات أساسية شكّلت الفضاء العام المعارض لعملية طوفان الأقصى. تتفاوت وتتداخل هذه السياقات حسب صاحب الخطاب ومكانته في سلّم الإعلام والثقافة، وموقعه الجغرافي ما بين عواصم أوروبا، والرياض، وأبو ظبي.ا
السياق الأول هو اتهام "المحور الإيراني" بزعزعة استقرار المنطقة. وكأنّ قتل الفلسطينيين وسجنهم وتعذيبهم واغتصاب الفلسطينيات وتشويه الأطفال لا يخدش هذا الاستقرار السلمي. أو أن احتلال فلسطين عبارة عملية سلمية من قبل الصهاينة، وعلى الفلسطينيين التعامل معها على مبدأ الحوار الحضاري (أحّا).ا
ولإضافة بُعد توصيفي يمكن من خلاله مخاطبة البنية الاجتماعية العربية، القائمة على قواعد طائفية في خطاباتها وتحليلاتها السياسية التي ترتكز على مجابهة "المد الشيعي الإيراني" منذ ما يتجاوز الأربعين عاماً، تم إقحام التشيّع – عمداً – لضرب شرعية العمل المقاوم في فلسطين. فمهاجمة عدم إعلان حزب الله دخول حرب كونية مع الكيان من ناحية، ومهاجمة حماس لتخريبها السلم الاجتماعي في الإقليم خدمة للمشاريع الإيرانية في المنطقة من ناحية أخرى، توضح عمق الأزمة الطائفية في مجتمعاتنا.ا
القراءة السياسية التي تقوم على أساس طائفي جهلٌ مقفع وخطير. وللأسف، القراءة السياسية الطائفية هي القاعدة في مجتماعتنا،لا الاستثناء. ويمكن تعديد أمثلة كثيرة نلخّصها في جموع كتّاب صحيفة الشرق الأوسط، نشطاء"الثورة السورية"، ولا ننسى أحفاد الفنيقيين والفراعنة والكلدانيين.ا
السياق الثاني هو مهاجمة حماس لكونها حركة دينية، مصنّفة في لوائح الإرهاب العالمي. وكأنّ مشكلة حماس لا بمشروعها السياسي أو المقاوم، ولا باستراتجياتها وعلاقاتها ومخططاتها، بل بكونها دينية (أخونجية)، وبالتالي يجب رفض كل فعل يصدر عنها، بعيداً عن قراءة التاريخ والواقع الفلسطيني. كما برز مثقفو أوهام النخبة – أدونيس مثلاً – في اقتراح ما عليه أن تكون الأيديوجيا التي على الإنسان العربي المقاوم تبنّيها.ا
وكأنّ هناك لائحة تعريفية كونية على المنتسبين لحركات المقاومة تبنيها واتّباعها لينظر لهم كبشر: شعراء يكتبون قصيدة النثر، متأثرون ببودلير ورامبو، فنانون تشغلهم نظريات ما بعد الحداثة، قرّاء لماركيز ونيتشه وهايدجر، ندماء ليل ونبيذ يستمعون لباخ ويناقشون قصائد أبي تمام (ياي سوو كيوت).ا
تكمن أزمة هذا الخطاب بسلخ إنسان المكان وتجريده من تاريخه وواقعه وهويته. خطاب قادم من خارج مجرّة درب التبانة يتهم العرب – العوام خصوصاً - بعدم معرفتهم لتاريخهم وثقافتهم وتنوعهم، دون النظر إلى الواقع الإجتماعي الناتج عن هذا التاريخ.ا
السياق الثالث يرتكز على إدانة الضحية ومحاباة الجلّاد. أي اتهام حماس بتدميرغزة وإيقاض الوحشية الصهيونية النائمة التي تتغذى اليوم على إبادة الشعب الفلسطيني. ولا أعرف حقاً هل أصحاب هذا الخطاب جهلاء بتاريخ الكيان، أم أنهم قابعون في مستنقعات الانهزامية التي لا عمق لها؟ا
يتداول الكثيرون في مواقع التواصل الإجتماعي عبارة "لا تعتاد على المشهد" دون الالتفات على اعتياد الشعوب على خطابات مشبّعة بالطائفية والتسطيح السياسي والانسلاخ الفكري والثقافية؛ خطابات تأكّد على دونية الشعوب العربية والإسلامية، وتساهم في تكريس وتجسير مشروع ازدهار المنطقة المشروط بالاعتراف بالكيان وأحقية وجوده.ا
نعم، العالم ما بعد 7 تشرين/ أكتوبر يختلف عما قبله، لكن الخطابات الطائفية والسياسية في منطقتنا ما زالت تنضح من ذات الوعاء.ا
Related Posts
كاتبة من البحرين