في 25 من شهر شباط/فبراير الفائت أقدم الجندي في الجيش الأميركي آرون بوشنيل على إحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في الولايات المتحدة، في بث حي ومباشر صرّح فيه بأنه لن يقبل بأن يكون شريكاً في عملية إبادة الفلسطينيين، ولذلك أراد أن يكون اعتراضه مدوياً
الغرب.. عقدة الذنب والسلوك التعويضي
في 25 من شهر شباط/فبراير الفائت أقدم الجندي في الجيش الأميركي آرون بوشنيل على إحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في الولايات المتحدة، في بث حي ومباشر صرّح فيه بأنه لن يقبل بأن يكون شريكاً في عملية إبادة الفلسطينيين، ولذلك أراد أن يكون اعتراضه مدوياً.
بعد أيام قليلة قام عدد من الشبان الذين سبق وأدوا الخدمة الإلزامية في الجيش الأميركي بإضرام النار ببزاتهم العسكرية وإحراقها احتجاجاً على الدعم الأميركي للإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين وتضامناً مع بوشنيل، في حركة احتجاجية من داخل المؤسسة العسكرية الأميركية لم تشهدها الولايات المتحدة منذ حرب فييتنام.
حركة الاحتجاج هذه سبقتها ولحقتها حركات شبه أسبوعية تخرج في الولايات المتحدة الأميركية وفي عدد كبير من العواصم الأوروبية. حتى في أكثر الدول التي تنتشر فيها "الإسلاموفوبيا"، مثل فرنسا، شهدت ولا تزال عاصمتها تظاهرات احتجاجية على الرغم من القمع والتهديد بالسجن وتغريم من يخرج فيها مناصرةً لفلسطين أو يرفع العلم الفلسطيني فيها.
بعض الحكومات الأوروبية أخذت المبادرة، وأعلنت تضامنها مع المحتجين في الشارع، واستنكرت الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ودعت إلى الوقف الفوري لإطلاق النار (كإسبانيا مثلاً). وإذا كان من المفهوم أو المعقول خروج التظاهرات من بعض دول أميركا اللاتينية، ووقوف قادتها إلى جانب الشعب الفلسطيني، لأسباب عديدة كُتب حولها الكثير، إلا أن المستغرب أن تكون الساحات الغربية مسرحاً لتلك الاحتجاجات وأن ترفع أمام البرلمان الإنكليزي عبارة "من البحر إلى النهر".
تبدأ الإجابة من رد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ على كل من بلجيكا وإسبانيا، بأن من له تاريخ من الاستعمار لا يحق له إعطاء الدروس لـ"إسرائيل". أصاب هرتزوك نصف الحقيقة. نعم، قامت بلجيكا باستعمار الكونغو، ونفذت فيها جرائم فظيعة، واستعبدت أهلها، واغتالت قائدها باتريك لومومبا وأذابته بالأسيد حتى لم يبقى منه غير سنه الذهبي الذي ظلت محتفظة به حتى أعادته قبل ما يقارب السنتين. وبالفعل، نفذت إسبانيا إبادات جماعية بحق المسلمين واليهود في الأندلس، وأقامت محاكم التفتيش وأحرقت العديد بتهمة السحر والشعوذة، وكان مجرد اقتناء كتاب بالعربية هو سبب للاعتقال والموت حرقاً. وتكبدت معركة الحرية في الجزائر مليون شهيد، وظلّت فرنسا تحتفظ بجماجم قادة المقاومة في متحف خاص حتى أعادتها مؤخراً، هذا إن تجاهلنا مجازرها في جبل عامل وفي سوريا. كما أن ألمانيا النازية أحرقت آلافاً، ليس من اليهود فقط، بل من كل من يمكن أن يشكل عبئاً عليها (فالمواطن يجب أن يعمل ويحارب، وغير القادر على إحدى هاتين المهمتين يصير عبءاً على الدولة يجب التخلص منه). بريطانيا كذلك نفّذت مجموعة كبيرة من المذابح في الهند، وأهدت أرضاً لا تملكها (فلسطين) لليهود ليقيموا عليها دولتهم المزعومة. وقامت الولايات المتحدة على نهر من دماء السكان الأصليين، وغيرها الكثير من الأمثلة والشواهد التي لا يمكن أن تعد ولا تُحصى. وهكذا، كان سكان "العالم الثالث" يدفعون ثمن الرفاهية التي يعيشها الإنسان الغربي على الدوام،فكل تقدم وكل تطور قائم على قمع واضطهاد شعوب أخرى، وكل بطن امتلأت في أوروبا يوماً قابلها موت طفل في مكان ما من العالم جوعاً دائماً وأبداً.
يدرك الرأي العام الغربي اليوم كل هذا، وربما كان يدركه في سالف الزمن أيضاً، لكنه كان لا يراه، وما لا تراه العين لا ينررع في الفؤاد، أما اليوم ومع سهولة الوصول للمعلومة، بات هذا الجيل أكثر وعيا لتاريخ "حضاراته" الدموية. ربما لا يكون المجتمع الغربي مجتمعا مسيساً كمجتمعاتنا العربية، لكنه - وخاصة جيل شباب اليوم - نشأ بعد انقضاء تلك الحقبة، وأصبحت من الماضي الذي يستحيل تغيير شيء فيه، وأقصى ما يمكن فعله هو الاستنكار وربما بعض الخزي إذا كان مرهف الإحساس.
أما لماذا يخرج اليوم ليملأ الساحات؟
فلكي يقول لهمح لحكامهم وإداراتهم: لقد ورثنا منكم العار.. ولكننا غير مستعدين لإعادة إنتاجه بأيدينا ومن أموالنا.
تمارس الشعوب الغربية اليوم سلوكاً تعويضياً عن تاريخهم الدموي. هذا ما برز جلياً في السابق في احتجاجات "حياة السود مهمة" عندما استهدف المحتجون تماثيل لشخصيات دموية كان لها "الفضل" في السيطرة على الأرض الأميركية وقيام الدولة. إنهم بالضبط يمتثلون لما قاله يوماً ما المؤرخ اليهودي شلومو ساند: "حتى الطفل الذي يولد جراء عملية اغتصاب له الحق في العيش، لكن من الواجب منعه بكل الطرق من تتبّع خطى والده".
Related Posts
كاتب وإعلامي لبناني