Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لقد هجّرت أهل المنطقة، ومحت أي أثر للطبقة الوسطى أو الفقيرة فيها. بقي هذا 'الخندق'" عصياً على الشركة. يحافظ على أبنيته الأثرية التي تسكن في جدرانها أرواح الراحلين الأوائل. هذه البقعة العتيقة تحتفظ بماضٍ عالق عند حافة الحرب المشؤومة."

حنين رباح

هنا تتخندق الثورة

"

لا تحتاج في "الخندق الغميق"إلا إلى بضع ساعات لتتحول من كريستوفر كولومبوس إلى "خشبة"، والأخير أحد"قبضايات" الخندق وزواريبه، فأول "لكشة" من الدراجة النارية في شارع الزهراوي كفيلة بإدخالك في الخندق بكلّ تجلياته.

بقع تعجّ بالحياة، ربما لكثرة العاطلين المتجولين وراكبي الدرجات النارية.أهلها موشومون فيها. مشهد سريالي متناسق، إلى درجة تنسى فيها أن صورة الشهيد قاسم سليماني جديدة. تعتقد أن لها مكاناً مفروزاً مسبقاً. لا يجد رسام الغرافيتي متسعاً له على الجدران، فصور الشهداء مكدسة. هذا المشهد يتحول برنة هاتف إلى خزّان لـ"زيكو" ورفاقه أمام "زهيري كافيه" تحضيراً لغزوة "الخندق". الأمر لا يتطلّب سوى إطلاق شتيمة ضد المقاومة أو أحد رموزها، حتى يتجمّع عدد من الشبّان أمام الـ"زهيري" على الطريق المطل على تقاطع بشارة الخوري.

ورغم أن "الخندق" يحوي شارعاً مطلاً مباشرة على "جسر الرينغ"، إلا أنهم يتبعون تكتيك "وثبة الأسد" المتميزة بعنصر المفاجأة. يسلك الشبان الطريق الواصل من بشارة الخوري باتجاه الخندق الغميق، مشكلين حرف "لام"، ويواجهون "ثوار" الرينغ من المقدمة. وثبة لا تتحقق إلا بوجود عنصرها الأساس: الدراجة النارية متعددة الاستخدامات. جرس إنذار جذب شبّان الشياح والضاحية الجنوبية إلى مدينة بيروت، ليصبح خندقهم نقطة تجمّع.

يقول "زيكو"، علي غدار، إنه أول من شارك في "الثورة"، فهو عاطل عن العمل منذ أكثر من 10 أشهر. كان يعمل "فاليه باركينغ" لدى إحدى الشركات التي يملكها الرجل المعروف بـ"أبو ابراهيم".

أبو ابراهيم هذا يشغّل أعداداً كبيرة من "أهل منطقته". هم يركنون سيارات الأغنياء،ويتمتعون بها قليلاً، فشوارع الخندق لا تتسع لها. يفتخر غدار بإحراق مجسم "القبضة" لنائبٍ لم تعرف يوماً أحياء الفقراء.

يرى أن "ثورته" أبقته مستيقظاً حتى الصباح. لم ينم هذه المرة، ليس بسبب قلق هاجس العمل أو المال أو الجوع، بل لأنه انتظر انتصار ثورته. جاء الصباح، سُرقت ثورته. سلبها "الثوار" الشقر الذين لا يتكلّمون العربية. ربما لم يقدر على الحديث معهم. يسأل: "أهذه ثورة الشعب إذاً؟ نحن الشعب". يمر أحد المتسوّلين فيقول له: "يلي عم تسأل عنه عم نبكي عليه".

بالابتعاد خطوة عن مشهد تسلّح هؤلاء بالعصي، ترى أن عملية الكر والفرّ الحاصلة ليست إلا استكمالاً لعملية استعادة أهل الخندق لموقعهم من وسط المدينة. "ماسحو الأحذية" ابتدعوا إيديولوجيتهم وثبتوها، فأصبحت تنتمي إليهم، وليس العكس؛ إيديولوجيا قائمة على عنصر الطائفة بالأصل، ويصعب تفريغهم منها.

أشخاص حقيقيون أصر البعض على تجاهل وجودهم، ففرضوا صورتهم برد فعل خروجهم من منطقتهم. "شو بستنظر من واحد عم ينسب بنص بيته"، بهذه البساطة يرون عملية تسكير "جسر الرينغ" من قِبل شبّان "لا يجيدون تكلم اللغة العربية". "الدونية" التي يستشعرها بعضهم متعلقة بخيط أحزابهم التي انتشلتهم منها. "طول عمرنا المحرومين ليوم إجا السيد عباس"، يقول.

يشكل "جسر الرينغ" العتبة الفاصلة بين ما أنتجته "الحريرية" على مر السنوات من وجه جديد للمدينة، ويعتبر "الخندق الغميق" الحي الناجي من مصيدة شركة "سوليدير"؛ الشركة التي بدأت عمليات التهجير والهدم منذ العام 1994 برعاية أرباب السلطة، ونهبت المال العام والخاص، وتحالفت مع الطبقة الحاكمة.

لقد هجّرت أهل المنطقة، ومحت أي أثر للطبقة الوسطى أو الفقيرة فيها. بقي هذا "الخندق" عصياً على الشركة. يحافظ على أبنيته الأثرية التي تسكن في جدرانها أرواح الراحلين الأوائل. هذه البقعة العتيقة تحتفظ بماضٍ عالق عند حافة الحرب المشؤومة. لم يُعَد تأهيلها كما حصل بوسط العاصمة. لم تُهدّ أبنيتها، ولم يقبض أهلها لإخلائها.

تحولات "الخندق" الديموغرافية جاءت نتيجة الأحداث السياسية الكبرى، منذ الانتداب الفرنسي الذي بدأت معه عملية العمران، مروراً بـ"ثورة 1958"،وصولاً إلى الحرب الأهلية.كلها أحداث غيّرت وجوه ساكنيه. باتت المنطقة اليوم محطة عبرها الأرمن والأكراد والموارنة والروم والسنة والشيعة، وكلهم تركوا أبنية تعجّ بالذاكرة الحاضرة.

مع الانتداب الفرنسي في الثلاثينيات، سكن أهل المنطقة بيوتاً تشبههم وتشبه روح هذه المدينة، من القنطرة البيروتية إلى الأبواب الخشبية. "القبو" المليء بزجاجات النبيذ تشهد على وجود "القدماء" هنا. تركوا خلفهم مستشفى تحول إلى ملعب لكرة القدم وموقف للسيارات شتاءً.

يرى الشاب حسن خليفة في هذا الملعب اكتمالاً للعالم في الخندق. هو لا يحتاج إلى تواصل خارجي. يشهد تمثال الرئيس الراحل بشارة الخوري على مقربة من مدخل الخندق أنه مر منه، وأن هذه القطعة جزء من فسيفساء المدينة، كما كان الفرنسيون يرونها. القبضايات الذين واجهوا الفرنسيين هم أجدادها، أو ربما أجداد الراحلين عنها.

يذكر وسام حريصا أن والده اشترى أحد الأبنية في السيتينيات، في ذروة التحوّل السكاني. يكرر أنه يترك أمام دكانه موقفاً لسيارة جارته السنية. يتعمّد إظهار احترامه لها. تظهر بقالب مفتعل و"كليشيه".

يخبر عن علاقته بالجارة روز وأختها الخياطة؛ المارونيتين. "فلوا"، لا يدري إلى أين. ربما إلى جوار ربهم، لكنهم تركوا خلفهم بيوتاً فارغة. لا يعلم لماذا ترك هؤلاء بيوتهم ولم يعودوا. يمر على ذكر "الأرمني" صاحب محل "الحقائق". هو الآخر ذهب ولم يعد. بهذه البساطة يرى الرحيل. كأنهم كانوا صامتين، لا يأخذون حيزاً من الحياة هنا. الجنوبيون يهربون من ذكر "ثورة 1958"، ربما لما نتج منها من هجرة مسيحيي الخندق إلى الشارع المقابل. انسحبوا بهدوء، فكان التبدل الأكبر في هوية المنطقة. يعتبر هؤلاء أن لا صلة أو علاقة لهم بما حصل.

هم اليوم امتداد لتبعات الحرب الأهلية، فالحاضرون شاركوا على خطوط التماس في حرب الـ75. يظهر "مسيح الخندق"، محمود قانصو. يحمل بعضاً من ملامح "المسيح الأوروبي". يقدّم بطولاته على خط التماس "النورماندي – الشويفات" الذي "سيطرت عليه حركة أمل".

"انقرضوا"، هذا ما حل بـ"هنود هذه المنطقة" بعد الحرب الأهلية. يذكر مكاتب الأحزاب التي "هجّت". يستذكر بعض القذائف التي أطلقها عليها، لكن سرعان ما يخفض صوته. السكان الراحلون أخذوا مكاتبهم معهم. يتسابق "رجالات الخندق" عند الحديث عن رحيل مكاتب التنظيمات. لا يمكن أن يتذكروها من دون سيطرة لاوعيهم وذكر القذائف التي أطلقوها. فرغت أماكنهم أو ربما تحولت إلى دكان لبيع الخضار، بدءاً من "منظمة العمل الشيوعي"مقابل كنيسة القديس جرجس للسريان الكاثوليك، و"حزب البعث العراقي" في شارع السنديانة، و"الاتحاد الاشتراكي العربي"، وصولاً إلى "فتح الطلابية" التي خرجت مع خروج "منظمة التحرير".

خندق الصحف

لا يخفي الخندق الكثير في باطن الأرض سوى بعض المستودعات لتوضيب الصحف. تُكشف فجراً للمدينة. شركات التوزيع تنتشر في الخندق. رائحة الصحف تطغى على الفتة والذبح صباحاً. رائحة ألفها أهلها مذ كان حسن نزّال يوزع الصحف على دراجته الهوائية في الشوارع البيروتية.

مشهد سينمائي يصحبه صوت جرس، تبدل اليوم إلى زمور الدراجة النارية للغاية نفسها. جميع الصحف اللبنانية "تتخندق". تصعد من منطقة واحدة إلى قلب المدينة لتقدم قوتها اليومي. الناس هنا يقدّسون الورق. ترى المكتبات المتجمدة يتقدّمها النبات الأخضر المزهر، لتقول لك إنها لا تزال حية. لا يرى محمود عواضة (صهر حسن نزال) أن الأمر يثير الاستغراب، ويمتعض إذا تعجبت، ولو إيجابياً، فأهل الخندق يتماهون مع القراءة، وأصبحت خبزهم اليومي. يصدّرونها للأغنياء، فهذا جلّ ما يملكون.

"بي دي دي": سوليدير الخندق

ما لم تقدر عليه "سوليدير" جاء به حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بهندسته "العظيمة": تحويل الخندق الغميق إلى "بيروت الرقمية". مبنيان قيد الإنشاء أو ربما سينتهي الإنشاء أثناء كتابتي هذا التحقيق.

يضم المشروع ترميم كنيسة القديس جرجس للسريان الكاثوليك (1878). يجيد مهندسو هذه المشاريع استغلال المد التاريخي جيداً، لكنهم لا يعلمون أن أبنيتهم لا تزال زجاجية، مهما جهدوا، وهم يرمون أهل الدار بالحجارة.

لا تألفهم العين بسهولة. لا يعترض عليهم أبناء الخندق، لكنهم يعلمون أن الشقة في هذا المنبى على أطراف الخندق تساوي أكثر من 5 أضعاف الشقة داخله، وما يفصلهم فقط طريق ضيق.

لقد بدأ الشبح يتسلل من قناطر الشرفات. تتسع الهوة إذاً. إنه مشروع "بي دي دي" أو "بيروت ديجيتال دستريكت". يغريك في البداية، فاللغة الإنكليزية تنمّقه. إلى هنا سيعتقد البعض أن السكان لا يتصالحون مع أي جديد. جزء من الأمر صحيح. كانوا يرون يومياً مد "سوليدير" يتجه نحوهم، لكن الأمور ليست بهذه البساطة.

"بي دي دي" نتاج التعميم رقم 331 الصادر عن مصرف لبنان. قصة هذا التعميم أنه موجه إلى الشباب اللبناني، و"الغاية منه الحد من هجرتهم". صدر في العام 2013 بدور بارز من وزارة الاتصالات في عهد الوزير نقولا صحناوي. مرتكز التعميم أن لبنان "أصبح مهيأ لاحتضان الاقتصاد الرقمي".

الغريب في الأمر أن المشاريع الموثوق من نجاحها في أنظمة اقتصادية شبيهة بلبنان، تفشل لدينا، فكيف بمشروع يعتمد على الرقمنة في بلد يفتقد أدنى مقومات الخدمات والتجهيزات؟ الطامة الكبرى تأتي في تفاصيل التعميم، إذ يضخّ المصرف المركزي 400 مليون دولار للاستثمار في الشركات الناشئة المعفاة من الفائدة لفترة 7 سنوات.

ويقول سلامة خلال الكشف عن هذا التعميم:"ستكفل هندسات مالية لمصرف لبنان 75% من الاستثمارات التي تقوم بها المصارف في صناديق الاستثمار أو مع شركات لها علاقة باقتصاد المعرفة"، أي في حال إفلاس الشركات (المؤكد)، سيضمن مصرف لبنان 75% من مبلغ المستثمر.

لتسبيط الصورة للذين يعتقدون أن هذه الأبنية يجب أن تُمجّد لأنها تُدخل الحياة إلى أهل هذا الحي، فإن مصرف لبنان يضخ أموالاً بصفر فائدة في مشاريع لا تستجيب لمعطيات السوق، وتعطي المصارف الحق في شراء سندات خزينة تدر عليها فائدة أعلى. وفي حال فشلت هذه المشاريع، يتولى المصرف تحمّل خسارتها "من أموالنا".

"

كاتبة لبنانية