Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

ثمة علامة استفهام (إن أحسنا الظن) حول سياسات الشركة في مسائل استخراج الغاز والنفط شرقي المتوسط؛ هل تآمرت توتال على لبنان عندما نفت وجود الغاز فيه؟ هل خدعتنا الشركة الفرنسية "تقنياً" بفعل ضغط سياسي مورس عليها؟

بشار اللقيس

توتال وأهل السلطة: الخديعة الكبرى

لمجموعة توتال سجل حافل من الاتهامات بالرشوة والتلاعب السياسي. رشى الشركة لمسؤولين عراقيين في نظام البعث قبيل عام 2003 من أجل توقيع عقود بأكثر من 10 مليارات دولار (في احتيال صريح على برنامج النفط مقابل الغذاء) لم تكن أولها. ملفاتها السوداء في إيطاليا بعدما قُبض عام 2008 على "ليونيل ليفها"، المدير الإداري للقسم الإيطالي من توتال، بتهم فسادٍ مرتبطة بحقل "باسيليكاتا" النفطي قد تعتبر مسألة عابرة أمام تورط توتال في فضيحة "جورج فاروجيا" المالطية سنة 2020، بعدما تبين أن الشركة أخبرت وكلاءَ مالطيين أنها لن تكون مهتمةً بالأعمال التجارية معهم ما لم يشمل فريقهم "جورج فاروجيا" (رجل الأعمال الفاسد). لكن هذا السجل كله سيتلاشى عند العلاقة المشبوهة الآخذة في التطور في الأعوام القليلة الماضية، مع كل من "بن سلمان" و"بن زايد"، والتي ترجمت بجملة "خدمات" تورطت فيها الشركة الفرنسية، كان منها تشغيل منشأة بلحاف جنوبي اليمن كسجن سري للجيش الإماراتي.[1] ليس هذا فحسب، ثمة علامة استفهام (إن أحسنا الظن) حول سياسات الشركة في مسائل استخراج الغاز والنفط شرقي المتوسط؛ هل تآمرت توتال على لبنان عندما نفت وجود الغاز فيه؟ هل خدعتنا الشركة الفرنسية "تقنياً" بفعل ضغط سياسي مورس عليها؟ تمتلك الخندق شهادات لأشخاص كانوا على متن منصة التنقيب قبالة الشواطئ اللبنانية، وتضعها من خلال هذا التحقيق برسم الرأي العام.

***

عام 2018، وقع لبنان ممثلاً بوزير الطاقة آنذاك، سيزار أبي خليل، أول عقود التنقيب وإنتاج الطاقة في منطقتي امتياز (بلوك رقم 4، و9) مع جملة شركات تقودها توتال الفرنسية. آنذاك، أصدر تحالف الشركات، الذي تقوده توتال الفرنسية بياناً قال فيه: "ستتولى توتال تشغيل المشروع الذي تبلغ حصتها فيه 40% مقابل 40% لإيني الإيطالية، و20% لنوفاتك الروسية". وقالت توتال: "إن الاتفاق يشمل منطقي الامتياز 4 و9 الواقعتين قبالة سواحل لبنان في الجزء الشرقي من البحر المتوسط" مضيفة أن أولويتها تتمثل في" حفر أول بئر استكشافية في منطقة الامتياز رقم 4 عام 2019. مؤكدة أنها على دراية كاملة بالنزاع الحدودي بين "إسرائيل" ولبنان في الجزء الجنوبي الذي لا يغطي سوى منطقة محدودة للغاية من الامتياز رقم 9. وأن البئر الاستكشافية في المنطقة رقم 9 "لن تتداخل على الإطلاق مع أي حقول أو مكامن محتملة تقع جنوبي المنطقة الحدودية"، وفقا لما ذكرته توتال.

لم تكن توتال يومها لتخطو مثل هذه الخطوة لولا الدبلوماسية الفرنسية التي سبقت الشركة بخطوة لاحتواء الأزمة اللبنانية ومفاعيلها. كانت خطوات الخارجية الفرنسية آنذاك تغذ السير من أجل لعب دور فاعل في المتوسط. بالنسبة لباريس كان لبنان مفتاحاً رئيساً لعودة أكثر حضوراً في المنطقة يحتاجها ماكرون و"لوبي شركات الطاقة" من خلفه.[2] لكن تلك السياسات عانت في لبنان من متاهة "الزواريب" المعقدة في بيروت. سعد الحريري، الناجي من قبضة "بن سلمان" عام 2017 - بقدرة قادر - كان يغرق رويداً بالحسابات التركية. فضداً من حسابات الحريري عام 2013، كان استلافه العملة الصعبة من البنوك التركية قد أفضى به للعجز عن سداد الدين بحلول شهر آب من العام 2018 (استلف الحريري 4.75 مليار دولار عام 2013 لصالح أوجيه التركية) إثر انهيار الليرة في أنقرة ودخول الاقتصاد حالة من الركود. بنهاية ذلك العام، كانت شركة "ترك تيليكوم" التركية قد أعلنت عن نقل ملكية الحصة الأكبر منها إلى مجموعة من البنوك التركية الدائنة، وهو ما عدّ نهاية لإحدى أكبر استثمارات سعد الحريري في تركيا. معنى آخر، كان ارتهان سعد الحريري لتركيا مع الوقت يكبر شيئاً فشيئاً على حساب فرنسا والسعودية.

حاول سعد الحريري تدارك تعثره المالي من خلال موقعه كرئيس للحكومة اللبنانية. هو أرجأ توقيع مرسوم 6433، الخاص بترسيم الحدود البحرية مع قبرص مكرمة لأردوغان. ثم أوصى مطلع شباط 2019، بعقد اجتماع وزاري موسع في اسطنبول بين وزارتي الاقتصاد والتجارة اللبنانيتين ووزارة التجارة التركية، تم بموجبه الاتفاق على إعادة تفعيل عمل اللجنة المشتركة اللبنانية - التركية (التي لم تجتمع منذ عام 2009)، كما وإقرار اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين. لم يرق الأمر لفرنسا من جديد ولا للسعودية التي حسمت أمرها بالتخلي عن الرجل إلى أجل مسمى.

في المشهد العام أيضاً. كانت جملة أمور تجري في غير مصلحة لبنان، منها:

1-ولادة منتدى غاز شرق المتوسط مطلع عام 2019، والخارطة الجديدة التي فرضها، والتي سارت في غير صالحنا (لبنان وسوريا لم يكونا جزءًا من المنتدى). فرأت باريس في المنتدى نافذة لاستعادة حضورها في منطقة "جدار المتوسط" بجعل جنوب القارة الأوروبية بوابة للطاقة في أوروبا عامة. أعطى هذا المنتدى هامشاً استثنائية للفرنسيين لاستعادة دورهم الأوروبي المتحذر من أي خلاف/اتفاق ألماني روسي. ونتيجة ضغوط أميركية، تراجعت الأولوية الفرنسية في العمل في الساحة اللبنانية سياسياً واقتصادياً.

2-رسوم ترامب الجمركية العقابية ضد صادرات الصلب والألمنيوم الأوروبية (في أيار 2019) مع ما تركته هذه الرسوم من أثقال على قطاع تصنيع السيارات الأوروبي، وإن كانت ألمانيا هي المتضررة أولاً من القرار وليس فرنسا، إلا أن الأمر صعّد من حدة التوتر بين ماكرون وترامب.[3]

3-الخلاف الفرنسي – الأميركي، حول تفويض ترامب لتركيا بدء عملية "نبع السلام" في الشمال السوري، أواخر عام 2019، دون مراجعة الفرنسيين.

4-الصدام الإيراني – الأميركي الذي وصل إلى حدوده القصوى أواخر 2019، ومطلع 2020 (باغتيال الجنرال سليماني). وهو ما ضيّق هامش المناورة على الفرنسيين في محاولة لعب دور "وسطي" ما بين الطرفين في لبنان.

5-حرب الحصص السوقية بين موسكو والرياض في النصف الأول من عام 2020، بعدما أشهرت السعودية سلاح إغراق أسواق المشترين التقليديين لخام الأورال في كافة أنحاء العالم بالخام السعودي، والتي جاءت عائداتها بالمجمل لصالح شركات غرب أوروبا؛ توتال، بريتيش بتروليوم، وإيني.

كل هذه الأمور جعلت من الرهان الفرنسي على محورية لبنان كمفتاح للمنطقة (رهان عام 2018) في غير محله عام 2021. وهكذا بدا مشهد لبنان مختلفاً بشكل كلي عما كان عليه عام 2018، عام توقيع توتال اتفاقية "استكشاف الطاقة في لبنان".

 

هل خدعتنا توتال؟

بحسب تقنيين عملوا على منصة الاستكشاف في بلوك رقم 4، كان عمال المنصة فرحين بنتائج التنقيب الإيجابية الظاهرة في قمرة القيادة حتى تاريخ صدور التقرير النهائي، صادم لفريق عمل المنصة. تؤكد تلك المصادر أن تلاعباً ما حصل في التقرير النهائي لشركة توتال للخروج بنتيجة مفادها أن كميات الغاز المُكتشفة في بلوك رقم 4 غير تجارية. ليس هذا فحسب. عندما انطلقت الشركة للبحث والتنقيب في بلوك رقم 4، كان الحديث في أروقة الفرق الفنية عن نية التنقيب من خلال بئرين استكشافيين. المفارقة أن بئراً واحداً قد حُفر في ما بعد، وجاء موقع حفره على عكس رأي الفريق الاستشاري الجيولوجي ورئيسه.

داخل أروقة توتال، تتحدث معلومات عن أن الغاية الرئيسة من الحفر هناك كانت أبعد ما تكون عن "استكشاف الغاز". ثمة معلومات جيولوجية مهمة كانت توتال بأمس الحاجة لها نظراً لتشابه الترسبات عند نقطة الحفر مع ترسبات جيولوجية في باطن أرض حمص وقبالة الساحل السوري. والحديث هذا يعود لعاملِين في دوائر الجيويولوجيا في الشركة. تحاول توتال استباق كبريات شركات الطاقة في وضع تصور تفصيلي عن الجيولوجيا السورية. وهذه معلومات استشفتها "الخندق" من مصادر داخل أروقة الشركة نفسها. أواخر عام 2021، طلب مسؤول منصة الاستكشاف في بلوك رقم 4 (ح. ع.) نقله من الملف اللبناني، وهو ما تمت الموافقة عليه بنقله إلى ليبيا تزامناً مع صدور التقرير النهائي للشركة عن لبنان.

أما إرجاء الاستكشاف والتنقيب في بلوك رقم 9 فهو مما لا شك فيه شأن سياسي بالدرجة الأولى. لفهم المسألة وتجنباً للتفكير الرغبوي يكفي أن نقارن ما قامت به الشركة نفسها في مصر، أو قبرص، قبل الإعلان عن "يأسها وخيبتها"، وهو ما عاجلت إليه في لبنان بعيد حفرها أول بئر. (في مصر حفرت 4 إلى 5 آبار استكشافية في حقل ظُهر قبل البت بحجم المكتشفات من الغاز، بينما لم تحفر غير بئر واحد في لبنان حتى الآن، علماً أن الاتفاق مع الجانب اللبناني كان قد أكد على حفر 5 آبار، منها بئر واحد في البلوك رقم 4، في السنوات الثلاث الأولى من تاريخ العقد وبئر آخر في السنتين الأخيرتين منه).

بالمختصر، نعم، لقد خدعتنا توتال. ونحن غارقون في مؤامرة كبرى. خدعتنا توتال، لكن الخديعة الكبرى تكمن في أن أهل القرار في لبنان عارفون تمام المعرفة قصة توتال الكاملة. نحن نعيش المؤامرة. صحيح، لكنها ليست صنيعة خارجية تحاك للبنان فحسب. بل هي أولاً وقبل كل شيء نتاج عمل داخلي لتجهيل رأي الناس المُفقَرة وتجنب انفجارها مرة أخرى. المؤامرة هي أن يجتمع "مسؤول وطني لبناني" (لنفترض أن اسمه الياس أبو صعب مثلاً) بهوكشتاين بالقرب من باريس، ويتفقا على حدود التفاوض، وسقفه، ونتائجه، فيما الإعلام والناس ملتهين باسم الخط البحري، وعدد الأميال "من المياه" التي يمكن أن نستحصل عليها. المؤامرة هي ألا يعرف أحد من الناس (ومن المختصين كذلك) السبب وراء تقسيم "البلوكات" اللبنانية بهذا النحو وألا يسأل أحدٌ أحداً عن الأمر. المؤامرة أن تتلاعب توتال بقوانين العقد مع الطرف اللبناني، ولا نجد مسؤولاً وطنياً واحداً يتجرأ ليسأل توتال أو يسائلها رغم كثرة الشبهات. ورغم شبهة الضغوط التي تمارسها الشركة على هيئة إدارة البترول ومجلس الوزراء للاستمرار بقانون 2020/160 المعدل، لتمديد فترة الاستكشاف حتى 2028. المؤامرة، هي ألا نجد مسؤولاً واحداً قادراً على الإجابة، وألا نجد مسؤولاً واحداً يبدّي مصالح ناخبيه (ولو من جانب انتهازي) على مصالحه المالية والسلطوية المرتبطة بالخارج. المؤامرة حقاً، أن تكون مدفأة بيت باريسية بالنسبة لمسؤول عندنا أهم من آلام شعب ينتظر الموت جوعاً وجهلاً.


[2]لمراجعة دور لوبي شركات الطاقة وتأثيرها في السياسات الفرنسية، لا بد من العودة إلى تقرير "تحت التأثير: الأولويات المدمرة لرئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي" بجزأيه: https://corporateeurope.org/en/under-influence-distorted-priorities

 

رئيس تحرير صحيفة الخندق