على الأرجح ستكون هذه الأزمة الطويلة بمثابة عامل تسارع في تيارات التحول الموجودة بالفعل، سواء كنا نتحدث عن أزمة في الاتحاد الأوروبي أو تغير موازين القوى الدولية أو تغير البنية الرأسمالية، وليس بالضرورة نهايتها، كما يتمنى البعض قيامًا وقعودًا. أو أنها ستكون المسرح الذي تتجلى فيه هذه التغيرات.
هل سيؤدي الكورونا حقًا إلى تغيير العالم؟
يميل المراقبون في معظمهم إلى الإيجاب في محاولة الإجابة على هذا التساؤل الكبير. وربما كانت الإشارة إلى أن عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله هي أكثر مفاتيح الحديث شيوعًا في الآونة الأخيرة. ربما تعود هذه المبالغة في التقدير التـي تقارب اليقين إلى ميل الباحثين، خاصة المشتغلين بالعلوم السياسية، إلي التماهي مع كل الظواهر غير المفهومة والجديدة والمفاجئة، ووصف كل حدث كبر شأنه أو صغر بأنه تاريخي وأنه تحول مفصلي، سيغير شكل العالم. يشير هؤلاء إلى انهيار منظومة العولمة، وتعمق إشكالات الاتحاد الأوروبي، وتراجع الهيمنة الأمريكية، وتعاظم دور الصين، وعودة سلطة الدولة على أنها أهم تجليات عالم ما بعد كورونا. تذهب بعض الآراء إلى أبعد من هذا، فتقارن اندلاع الوباء في الصين بمقتل الأرشيدوق النمساوي، الذي أشعل شرارة الحرب العالمية الأولى التـى قلبت العالم رأسًا على عقب.
لا جدال في تداعيات وباء الكوفيد أو كورونا على كثير من جوانب السياسة والاجتماع والاقتصاد، وعلى تفاعلات الصراع والتعاون في النظام الدولي. إلا أن القول بأنه سيشكل تحولاً فاصلًا يفصل حقبة عن أخرى ينطوي على مبالغة، وربما يستدعي بحثًا أكبر في تأثير الأوبئة على حركة العالم، وربما الانتظار لسنوات حتى نرى حدود التغيير الذي سيحدثه الوباء الذي لم يتفشى سوى من عدة أشهر، في الوقت الذي تستغرق التحولات عقودًا أو ربما قرونًا، حتى لو كنا نشهد تغييرًا متسارعًا بفعل تشابك العالم وتضاعف حجم المعرفة البشرية وتعقد التقنيات.
درج الباحثون في تاريخ العالم القديم والعصور الوسطى على التأكيد على أن طاعون جستنيان في القرن السادس الميلادي كان فاتحة العصور الوسطى في أوروبا؛ لتسببه في مقتل الملايين من سكان أوروبا، وبالتالي تراجع القوى العاملة في الزراعة، التي شهدت تدهورًا صاحبه تدهور سياسـي واقتصادي. كما اعتاد الكثير من المؤرخين على تأكيد دور طاعون الموت الأسود في القرن الرابع عشر الميلادي، والذي اجتاح الشرق الأوسط وأوروبا، في إنهاء النظم السائدة في العصور الوسطى؛ أي سطوة الكنيسة الكاثوليكية، والإقطاع الزراعي ونظم الفرسان، وهو ما أشَّر على بداية عصور النهضة وعصر التحولات الكبرى ١٣٠٠/ ١٦٠٠، التـي انتهت بظهور الإصلاح الدينـي ثم الحروب الطائفية في أوروبا، التـي انتهت بتأكيد سلطة الدولة القومية، ومن ثم العلمانية انتهاءً بعصر التنوير، وما تلاه من فتوحات علمية وعسكرية غيرت وجه العالم.
من المدهش رصد دور الجراثيم، والفيروسات، وغيرها من كائنات دقيقة في الدفع بهذه التحولات الكبرى. وللجراثيم والأمراض والأوبئة دور كبير في التأسيس للنقلات الحضارية الكبرى التـي شهدتها البشرية، كما رصدها جاريد دايموند في كتابه "البنادق والجراثيم والصلب". ومع ذلك، تأبى الحقائق إلا التعقيد. فربما كان لطاعون جستنيان دور في تأسيس العصور الوسطى الأوروبية، إلا أن هذه العصور كان قد بدأ تأسيسها فعليًّا مع انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب تحت وطأة انتشار المسيحية، وهجمات البرابرة، الذين ساعدوا على تجزئة السلطة السياسية في مختلف أنحاء القارة، وتأسيس الانقطاع مع التقاليد الكلاسيكية. كما أن التغير المناخي الذي بدأ من منتصف القرن السادس الميلادي، والذي تمثَّل في موجات برد قارسة كان لها دور في التأسيس لاقتصاد العصور الوسطى. التعقيد نفسه نجده مع نهاية هذه العصور وذلك التحول الكبير؛ فتغير المناخ نحو الدفء ساعد على تحسين الإنتاجية الزراعية الأوروبية، وساهم في زيادة عدد السكان، والاتجاه نحو "التمدين" بزيادة رقعة المدن والحواضر ونصيبها قي مقابل سلطة الإقطاعيات، ولم يكن لوباء الموت الأسود من دور سوى تعجيل هذه التغيرات.
أما الوباء الأكبر والأكثر فتكًا في تاريخ البشرية، وهو الإنفلونزا الإسبانية، التـي بدأ انتشارها مع نهاية الحرب العالمية الأولى (١٩١٨)، واستمرت تأثيراته لعامين، فلم يغير شكل العالم على الرغم من وفاة ما يقارب الخمسين مليون شخص (الحد الأقصـى للإحصائيات). فصُنِع النظام والسياسة الدولية تحت وطأة الحديد والنار في ميادين وخنادق القتال في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا في أثناء الحرب العظمى. ربما كان للوباء تأثيرات سياسية محلية، خاصة في الولايات المتحدة، إلا أن التغيير الأبرز الذي جلبه كان في مجال الصحة الوقائية، التـي منع التقدم فيها تفشي الجوائح العالمية لمائة عام حتـى حلول الكورونا.
هكذا، لا تغير الأوبئة وحدها العالم، ودورها معقود بعوامل وتحولات أخرى تستغرق فترات زمانية، طالت ماضيًا، وربما تقصر في عصرنا الحالي. وتشهد السياسة الدولية تصدعات وأزمات في النموذج الليبرالي الرأسمالي والديمقراطي، الذي جرى التبشير به لمدة قصيرة في أعقاب الحرب الباردة، إلى جانب تطورات تكنولوجية عميقة، وأزمات مناخية لا تقل خطورةً عن احتمالية نشوب حرب تجارية أو صراع مسلح بين القوى الدولية المتصارعة على قيادة العالم الذي لم يتشكل بعد. على الأرجح ستكون هذه الأزمة الطويلة بمثابة عامل تسارع في تيارات التحول الموجودة بالفعل، سواء كنا نتحدث عن أزمة في الاتحاد الأوروبي أو تغير موازين القوى الدولية أو تغير البنية الرأسمالية، وليس بالضرورة نهايتها، كما يتمنى البعض قيامًا وقعودًا. أو أنها ستكون المسرح الذي تتجلى فيه هذه التغيرات، كما يتجلى فيها حاليًا اختلاف كل دولة عن الأخرى في إدارة الأزمة، وإرث كل دولة في علاقتها بمواطنيها وبنيتها الاجتماعية والاقتصادية.
لذا، سيطلب الأمر منا أن نتريث في إطلاق الأحكام، وأن نراقب عن كثب تداعيات الوباء في صورة أوسع من مجرد الأرقام والمناوشات الكلامية بين ترامب والصين، واليقين فارغ المعنـى بأن "العالم بعد كورونا ليس كما قبله"، فهو مثل القول بأن اليوم ليس كالبارحة. إن أهم ما تعلمنا جائحة كورونا حتـى الآن أن اليقين العلمي أو الأيديولوجي هو عدو الرؤية السليمة. فأي شـىء، خاصة تلك الأمور غير المتوقعة أو التـي كانت تُعد منذ شهور خيالًا علميًّا ودراما هوليوودية، محتمل الوقوع. وبالتالي، فالتواضع أمام مكر الطبيعة هو الفضيلة الأهم التـي ينبغي لأي باحث أو متابع أن يتحلى بها، فالعالم أعقد من الهاشتاج.
*كاتب وباحث مصري
"Related Posts
كاتب وباحث مصري