Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

'في الإعلام الجديد تقدّم المنصة فرصة مجانية لكل فرد بأن يصبح صوتاً اعلامياً ويأتي الذكاء الصناعي ليتكفل أهم جانبين في هذه العملية: إيصال الإعلان التجاري المناسب حسب ذوق واهتمامات كل صاحب حساب على حدىً، وتعويم أصحاب المادة الاعلامية حسب مستوى الإعجاب وأيضا حسب توجهات وذوق المستخدم.'""

أحمد شمس الدين

نتفليكس والذكاء الاصطناعي واللاوعي البشري

"


منذ عامين، ظهر إلون ماسك مؤسس تيسلا Tesla وسبايس اكس Space X  في مقابلة مع جو روغان على يوتيوب، وهو واحد من اشهر البودكاس Podcast وأكثرها تأثيراً في نخب الشباب حول العالم. يومها اشتهرت هذه المقابلة بسبب هبوط أسهم تيسلا بسبب تدخين إلون الحشيشة خلالها. ما يهمني أكثر من هذا السلوك الإستعراضي هو الكلام الملفت حول مستقبل التكنولوجيا واعتقاده أنّ اندماج العقل البشري مع الآلة قد بدأ فعلاً و أنّ الحاسوب والانترنت صارا فعلاً أحد امتدادات الوعي البشري. إلّا أنّ سرعة الوصلة (bandwidth) ما زالت محدودة حيث التطور التقني بغالبيته  يهدف  لتحسينها. الموضوع شائك و يتفرع منه عدة نقاط. في هذا المقال سنوجزعرضاً يسلط الضوء على تشتّت الوعي وسيلانه عبر الانترنت.  
عام 2014، ترشّح أوّل فيلم لجائزة أوسكار من إنتاج شركة نتفليكس Netflix التي تعتبر النسخة الرقمية للبلوكباستر BlockBuster  الاميركية. في نفس العام أيضاً، حصلت انعطافة ثورية في مجال الذكاء الصناعي الذي يعتمد نموذج الشبكة العصبية لتحليل المعلومات تمثلت بتصميم ذكي قادر على التعرف على  الأشياء في الصور بدقة تلامس القدرة البشرية. بعدها بثلاثة أعوام، تصدّر جيف بيزوس Jeff Bezos  صاحب شركة أمازون Amazon قائمة أغنى رجال العالم لتكتسح شركته عمالقة المتاجر الغذائية والإلكترونية والكثير من شبكات التجارة العامة. في نفس العام أيضاً، أي عام 2017، لامست قيمة العملة الرقمية بيتكوين Bitcoin  العشرين ألف دولار. كان أهم ما في هذه العملة أنها تخضع لنظام حوالة غير مركزي ولا يمكن السيطرة عليه.
قد تبدو هذه الأخبار متفرقة ومبعثرة للوهلة الأولى ولكن يُجمع الخبراء أنّها جميعاً تنطوي تحت نسق واحد سيُخضع له البنية العالمية ونمط الحياة اليومية في نصف القرن الأول. تشهد قطاعات مثل المصارف، الإعلام والإعلان، الأسواق التجارية، شركات النقل العمومي وتأجير السيارات، التعليم  وغيرها الكثير نزوحاً نحو العمل أونلاين بلا مركزية. حيث تختصر المنصات الإلكترونية عبر الإنترنت وتكنولوجيا الذكاء الصناعي الحاجة لوسائط تحوّلت مع الوقت لسلطات لها طابع صلب. في الحالة التقليدية، إن كنت كاتباً سيكون عليّ إقناع دار نشر بأهميّة ما أكتب ليقوم هو من خلال سلطته المعنوية بالترويج لكتابي. اليوم أصبحت محطات اليوتيوب التي يديرها أفراد مغمورين من بيوتهم قوة إعلامية ضاغطة تشهد لها الانتخابات الرئاسية في أميركا وصار الحديث عن الـmainstream media كنموذج فاشل عفى عنه الزمن، فيما صار تويتر وفيسبوك ويوتيوب بديلاً ذات تأثير أقوى. 
في الإعلام الجديد تقدّم المنصة فرصة مجانية لكل فرد بأن يصبح صوتاً اعلامياً ويأتي الذكاء الصناعي ليتكفل أهم جانبين في هذه العملية: إيصال الإعلان التجاري المناسب حسب ذوق واهتمامات كل صاحب حساب على حدىً، وتعويم أصحاب المادة الاعلامية حسب مستوى الإعجاب وأيضا حسب توجهات وذوق المستخدم. مع هذا النموذج صار من الصعب فهم ديناميكيّات صناعة التراند Trend وحصر التأثير بمركز واحد. إنّنا اليوم أمام لامركزية مفرطة مع نقطة ثقل متحركة يصعب توقع حركتها. الأمر ينسحب أيضاً على أمازون، نتفليكس، بيتكوين أو تكنولوجيا البلوكشاين Blockchain عموماً، أوبر Uber أو تيروTuro  لتأجير السيارات. 
يدور الحديث في أوساط المبرمجين عن بدء الانتقال من الجيل الثاني للويب نحو الجيل الثالث. في الجيل الأول يوجد مجموعة ضيقة من مطوّري الخدمات وأصحاب المعلومات أما باقي المستخدمين فهم مستهلكون لا أكثر. في الجيل الثاني يدخل المستهلك والفرد ليصبحا صاحبي منصة قابلة لانتاج المحتوى بل ويشكّلان الجزء الأكبر من المحتوى الرقمي (صفحات ويب خاصة، محطات يوتيوب، حسابات شخصية للتوصل الاجتماعي، حسابات خاصة على مواقع البورن). بالرغم من النقلة النوعية في الجيل الثاني إلّا أن الناشطين في التطوير البرمجي يشكون من فقدان عنصر أساسي يحول دون الـ"دمقرطة" الكاملة للمعلومات. المعلومات ما زالت تحفظ ويستفاد منها من جهات مركزية ضخمة من قبيل فيسبوك، غوغل، أمازون، ويتم بيعها وهندسة منتجاتها على أساس محتواها. تمثّل تكنولوجيا البلوك شين والتي تعتبر الـcrypto currency تطبيقاً لها في مجال الحوالات المالية التعبير الأكثر حضوراً عن اللامركزية المطلقة، حيث تتوزع المعلومات بطريقة مشفرة ويشغل الشبكة أجهزة المستخدمين.
لنعد الى الذكاء الصناعي، يمثّل التعلم العميق deep learning النسق العام paradigm الذي يقف خلف ثورة الذكاء الصناعي الحالي، إذ يعتمد النموذج في التحليل على شبكة مستوحاة من الشبكة العصبية - شديدة التعقيد والتداخل -، تقوم بتوزيع المعطى ( صورة، صوت، نص مكتوب ...) على كل خلية في الشبكة لتخلص الى نتيجة نهائية. بالرغم من النتائج المذهلة إلا أنه مع هذا النموذج اللامركزي لا يمكن تحديد مسؤولية كل خلية ودورها. مع هذا الـparadigm انتقل الذكاء الصناعي من التصميمات المسبقة التي تسعى لنمذجة حركة التفكير المنطقي إلى تفويض التحليل لحشد من الخلاية شبيه بجيش النمل القادر على تشكيل أي نموذج حسب الداتا.
هذا النجاح الباهر لم يقف ههنا. منذ عدة أشهر نشر يوشوا بنجيو (الرائد عالمياً في مجال الـdeep learning) مقالاً علمياً بالاشتراك مع الاقتصادي ترافيس لاكروا محاولاً تطبيق النموذج اللامركزي السيّال القائم في الـdeep learning في مجال الاقتصاد والنظام الاجتماعي حيث تستبدل القوانين والأصول الصلبة والظاهرة (explicit) بحركة سيالة ضمنية (implicit). أي باختصار، التحول من التعاطي مع الأهداف من خلال مجموعة من القواعد التي تحاول تجسيد المشكلة نحو خلق صندوق أسود مركب بشكل شبكي غير مركزي مرن سيال قابل لتعلم قوانين مرنة حسب الهدف النهائي. وتعد عبارة "قوانين" غير دقيقة فهي ضمنية وتتطوّر فقط من خلال الداتا و الهدف التي هي مصممة لتحقيقه. بالتوازي يمكن تطبيق هذا التوجه بحسب بنجيو في المجتمع من خلال حلّ المؤسسات والقوانين الصلبة التي تتدعي تجسيد القيم بناء على تصورات وهندسات مسبقة وتسييلها ضمن أفراد المجتمع لتأخذ شكلاً غير ثابت، متغيّر وغير مشخّص الحدود، مثل حركة التعليم في مجتمعات الأزمنة الأولى.
 تجسّد نيتفلكس عيّنة بارزة لهذا النموذج، سينما متجولة يمكن مشاهدتها عبر الهاتف بلا مسرح تحتاج أن تقصده، مع موزعين servers حول العالم حيث يقدم كل server باقة من المضامين المتناسبة مع جغرافيا الserver (مسلسلات لبنانية في لبنان) والإنتاج غير محصور بأي جهة. ويقوم الذكاء الصناعي بترويج أفلام باحتساب ذوقك في المشاهدة حسب سلوكك على التطبيق. أيضاً يمكن تفكيك الحساب الواحد لعدة حسابات ليكون لكلّ فرد في العائلة عالمه الخاص المصمم حسب هواه. لا ننسى أيضا أن أرشيف خياراتك في الأفلام سيباع أيضاً لشركات تسخّر الذكاء الصناعي لتصميم دعايات تناسب ذوقك. 
يمكن للمراقب ملاحظة اختراق هذه  التطبيقات لمنطقة اللاوعي الخاصة بكل فرد بطريقة مؤتمتة  ومرنة بحيث تساهم المضامين في الشبكة بتشكيل وعي يساهم هو أيضاً كلاعب بتشكيل المضمون نفسه لإبقاء العقل متصلاً مدة أطول بالمصفوفة.

"

طبيب لبناني مقيم في كندا