Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

كانت الثورة الإسلاميَّة في إيران، خصوصاً إبَّان لحظتها النماذجيَّة الأولى؛ مصدر خطر حقيقي لا على أنظمة الدول ما بعد الكولونيالية التي ترسف في أغلال التبعيَّة فحسب، وإنما خطر جسيم تهدَّد النظام العالمي الكُفري بأسره.

عبد الرحمن أبو ذكري

مستودَعُ بارودٍ اسمه الإسلام

"

كانت الثورة الإسلاميَّة في إيران، خصوصاً إبَّان لحظتها النماذجيَّة الأولى؛ مصدر خطر حقيقي لا على أنظمة الدول ما بعد الكولونيالية التي ترسف في أغلال التبعيَّة فحسب، وإنما خطر جسيم تهدَّد النظام العالمي الكُفري بأسره. خطر النموذج الذي يُمكن احتذاؤه للخروج من أسر هذا النظام، والاستقلال الحقيقي عنه. لذلك، لزم حصار النموذج وعزله، والتعتيم عليه وتشويهه.ويُمكن لمن اطلع على مقالات الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو"عن الثورة الإيرانية،لكنَّ فوكو نفسه لم يُرتِّب المتتالية ترتيباً مكتوباً، وربما لم تتبيَّن له على الوجه الذي وفِّقنا لترتيبها حسبه، من واقع معرفتنا بالثورة وخلفيَّاتها النظريَّة والعقديَّة، والقوى الفاعِلة فيها؛ بما يجعل مقالات فوكو أشبه شيء بمسوَّدة أوليَّة -غير مُرتَّبة- لمانيفستو الثورة العملي. وهو ما لا يُمكن قطعاً استعماله بغير إدراك الخلفيَّات التاريخيَّة للثورة، ولا الإفادة منه بدون الاطلاع على بعض محاولات التأطير النظري لها.وقد وجدنا أن المتتالية العمليَّة للثورة قد تكوَّنت من خمس مراحِل أساسيَّة، قد لا يُشترط فيها هذا الترتيب بالضرورة، وإنما يُشترط تمام تحقُّقها جميعاً بدرجةٍ ما، وفي لحظةٍ واحدة؛ لنجاح الحركة، وحتى تُصيب بعض الفعاليَّة المذهِلة التي أصابتها في إيران.

أما المرحلة الأولى، التي نرى أن تحقُّقها نظريّاً وعمليّاً كان هو مبدأ الحركة؛ فهي تبلور فكرة "القيمة الملاذ"،يُعبر فوكو عن ذلك إذ يتسائل؛ فأين، سوى في الإسلام (ص 43)؛ كان بوسع الإيرانيين "البحث عن الحماية والعثور على الهويَّة إن لم يكن في هذا الإسلام، الذي نظَّم، بعناية وعلى مدى قرون؛ الحياة اليوميَّة والروابط الأسريَّة والعلاقات الاجتماعيَّة؟". وقد أدرك الشاه ذلك هو اﻵخر (ص 42)؛ فحاول الاستيلاء على بعض هذا التيار، فشيَّد، بالقرب من مرقد شاه عبد العظيم الحسني (في الرِي، جنوب طهران)؛ ضريحاً لوالده... "لكنَّ سعيه ذهب أدراج الرياح... ففي صراع الموتى يتفوق ابن الإمام على أبي الشاه".

ومن ثم (ص 48)، فقد جسَّد التشيع للإيرانيين آنذاك "ما جسَّده عبر تاريخه كله"؛ أي كونه شكل "من أشكال التعبير، ونمط للعلاقات الاجتماعيَّة، وتنظيم أولي، مرن ومقبول على نطاق واسع؛ وطريقة للتآزُر، وأسلوب للتحدث والإصغاء، وصلة تسمح للجميع بأن يسمعوا بعضهم إلى بعض وتتوحَّد إرادتهم".

لقد صار الإسلام، في صيغته الشيعيَّة؛ لا مُجرَّد شعائِر كهنوتيَّة ميتة حبيسة المسجد، ومنفصلة عن الحياة؛ وإنما أمسى إطاراً للعلاقات الاجتماعيَّة، وزاداً لا ينفد للفعاليَّة الاجتماعيَّة.

أما المرحلة الثانية، فكانت صعود القيادة الاجتماعيَّة للعلماء.لقد تكوَّنت القيادة العلمائيَّة للثورة عبر قرنين تقريباً، وذلك كما تراكمت الخبرة الثوريَّة اجتماعيّاً خلال ما يقرُب من القرن. وكانت الصورة النهائيَّة، التي بلغتها نظريَّة ولاية الفقيه؛ نتيجة لتطورات معرفيَّة واجتماعيَّة استغرقت قرون. وهي التطورات التي بدأت في الحواضر الشيعيَّة العربيَّة بالأساس.

هذه القيادة الاجتماعيَّة كانت شديدة التجذُّر في وعي الجماهير قبل واقعهم، وهذا مكمن قوتها الأكبر. يؤكد فوكو (ص 47) إن "الشعب لا يتبع إلا من يرغب في الإصغاء لدعوته، وآيات الله، الذين استطاعوا اليوم إخراج شعب بأكمله إلى الشارِع، في مواجهة الشاه وشرطته وجيشه؛ لم يُنصبهم أحد، بل أصغى إليهم الناس طواعية". وقد اختُبِرَ ترسُّخ هذه القيادة الثوريَّة خلال مناسبتين متأخرتين (ص 60)؛ أولاهما عودة الدراسة إلى الجامعة، والثانية إطلاق سراح عدد من السجناء السياسيين. إذ لم يُفضِ الحادثان إلى تراجُع نفوذ "ملالي الأرياف"، وتصدُّر المثقفين المتغربين والماركسيين للمشهد. بل إن أشرطة الكاسيت، التي تحوي خُطب العلماء الناريَّة، والمتاحة للبيعأمام أبواب معظم المساجد (ص 78)؛ صار بالوسع الاستماع إليها في كل مكان، إذ أتخمت الشوارع المزدحمة بأطفال يحملون أجهزة تسجيل تتفجَّر منها الأصوات القادمة من قُم ومشهد وإصفهان. وقد كانت تسجيلات الإمام الخميني -القادمة من خارج إيران- على رأس هذه التسجيلات، وذروة تلك الظاهرة.وقد أفعم الأثير بهذا الحضور القيادي للعلماء، لا عبر التسجيلات فحسب، وإنما بالخطابة اليوميَّة في المساجد (ص45)؛ إذ "خلال ساعات النهار، كان الملالي يخطبون في المساجد، يحدوهم الغضب على الشاه والأمريكيين، وعلى الغرب وماديته؛ ويدعون -باسم القرآن والإسلام- إلى محاربة هذا النظام عن بكرة أبيه. وأينما كانت المساجد أصغر من أن تتسع للحشود المجتمعة؛ وضعت مكبرات الصوت في الشوارِع، فإذا القرية بأكملها، أو الحي بأسره؛ يضج بأصوات مهيبة تُشبه صوت الراهب الإيطالي جيرولامو سافونارولا في فلورنسا، أو المعمدانيين في مونستر، أو أتباع المشيخيَّة في عهد أوليفر كرومويل. وقد سُجلت العديد من هذه الخطب على أشرطة كاسيت؛ ذاعت في أنحاء إيران".

هذا الحضور الملحمي للعلماء، في كل ذرات الأثير، كما في كل تفاصيل الحياة اليوميَّة؛ لم يُقلِّص فحسب الحضور "الثقافوي" للماركسيين، بل جعل الكلام الساذج على الدين، بوصفه أفيوناً للشعوب؛ أمراً مُثيراً للسُخرية. فقد كان العلماء يخطبون في المساجد بألسنتهم، وإلى جوار كل منهم بندقية (ص 46).

فإذا ما وصلنا للمرحلة الثالثة، أي رفض العملية السياسية أو الإضراب عن الحياة السياسية؛يَصِف فوكو (ص 61) الحركة في الخامس من نوفمبر 1978م بأنها "إضراب موجَّه للواقع السياسي، وهو ما يتجلى في اتجاهين اثنين: رفض إطالة عُمر النظام بأي حال، ورفض استمرار أجهزته وإدارته واقتصاده في العمل بصورة طبيعية"،ورفض "إفساح المجال لمعركة سياسية يكون مدارها على الدستور المستقبلي، والخيارات الاجتماعية، والسياسة الخارجيَّة، والبديل المرتَقَب. وليس ذلك لأن الإيرانيين لا يناقشون هذه المسائل، بل رغبة منهم في التأكد من أنها لن تخضع لمنطق السياسة من أي طرف كان. لقد أشهر الشعب الإيراني كل أسلحته المعنوية، والتف حول نفسه كدرعٍ واق؛ بحيث غدت إرادته السياسية هي الإفلات من قبضة السياسة".

يؤكد فوكو أن "ثمة قانون تاريخي يكمُن ها هنا: إذ كلما كانت إرادة شعب ما بسيطة؛ صارت مهمة السياسيين أشد تعقيداً. ولا ريب أن سبب ذلك هو أن السياسة ليست كما تدعي، أي التعبير عن الإرادة الجماعيَّة؛ فحقيقة الأمر أن السياسة لا تتنفَّس تنفُّساً طبيعيّاً مُريحاً إلا حيث تكون هذه الإرادة الجماعيَّة مُشتتة ومُترددة، ومشوشة وغامضة".

هذا الاحتشاد الفذ للإسلام في المجال العام، يقوده العلماء العاملون ويوجهون حركته، جنباً إلى جنب مع مقاطعة "العمليَّة السياسيَّة"بالكامِل؛ أفضى إلى المرحلة الرابعة، وهي: تبلور إرادة جماعيَّة حقيقيَّة،وقد كانت هذه الإرادة الجماعيَّة من القوَّة والانسجام، بحيث وصفتها الصحافيَّة الفرنسيَّة كلير بريار، في حوارها مع ميشيل فوكو (ص 97من نفس الكتاب)؛ بأنها "قد اتخذت إيقاعاً يُمكن مقارنته بإنسان يتنفس، ويُنهك، ثم يستعيد أنفاسه، قبل أن ينطلِق كرَّة أخرى، لكن كأنه يتنفَّس في جماعة؛ إذ كان الجميع يسيرون كأنهم رجل واحد"، ثم تُضيف (ص 98)؛ "وحين يواجه الفرد الأجنبي هذا التوحُّد، وهذه الإرادة المشتركة؛ فإنه يصاب بصدمة مهيبة. وهي صدمة أخلاقيَّة وماديَّة. فكأن هذا التوحُّد يُطالبه بالانسجام معه، وويل له إن لم يفعل".

وقد كان الإمام الخميني هو نقطة ارتكاز هذه الإرادة الجماعيَّة الكاسِحة، كما يؤكد فوكو. لكنَّ الحركة، التي صار الإمام نقطة ارتكازها (ص 82-83)؛ لم تكن"انتفاضة عفوية تفتقر إلى التنظيم السياسي، بل هي حركة هدفها التخلُّص من الهيمنة الخارجية ومن السياسة الداخلية في آن واحد". إنها "حركة لا تسمح للخيارات السياسية بأن تُشتتها"، حركة "تتخللها نفثات مذهب ديني لا يتحدث عن اﻵخرة، بقدر ما يروم تغيير وجه هذا العالم".

كان فوكو قد حمل إلى إيران سؤالاً واحداً:"ما الذي تريدونه؟"، وهو السؤال الذي حرص على عدم طرحه على السياسيين، بل فضل طرحه على المتدينين والطلاب، والمثقفين المهتمين بمشكلات الإسلام. يقول (ص 52-57)؛ سألت: "ماذا تريدون؟ فلم أسمع بالمرة لفظ الثورة، ردّاً على هذا السؤال... لكني أجبت لأربع مرات، من أصل خمسة؛ بعبارة: الحكومة الإسلامية. لم تكن تلك مفاجأة؛ إذ أن آية الله الخميني كان قد سبق بهذه الإجابة البليغة للصحافيين، ولم يَزِد على ذلك".

وهو يُحاول، من ثم؛ قراءة حمولة الاصطلاح في ضوء ما خبره من احتشاد لإرادة جماعيَّة نماذجيَّة، وغير مسبوقة؛ فيقول: "إن الحكومة الإسلامية تجسد شيئاً موغلاً في القِدَم، لكنه في الوقت نفسه يكمُن في المستقبل. إذ هي العودة إلى عهد الإسلام المبكر زمن النبي، وفي الوقت نفسه حركة باتجاه نقطة مضيئة وبعيدة. إنها حركة تميل إلى إيكال دور دائم للبنى التقليدية، للمجتمع الإسلامي؛ في الحياة السياسيَّة". ثم يُضيف: "وأنا لا أستسيغ وصف الحكومة الإسلامية بأنها فكرة، أو حتى مثل أعلى؛ لكنها أبهرتني بوصفها إرادة سياسيَّة. فقد خلبت لبي في سعيها لتسييس أبنية، يمتزج فيها الاجتماعي والديني؛ استجابة لإشكالات راهنة، كما فتنتني محاولتها إضفاء بُعد روحي على السياسة".

لقد أدرك فيلسوف التفكيك أن تبلور الإرادة الجماعيَّة على هذه الصورة الاستثنائيَّة لم يكن مُجرَّد ثمرة من ثمار مسار ثوري "تقليدي"، على الطريقة الغربيَّة؛ ومن ثم يُمكن تجريده نظريّاً، وإنما كانت هذه الإرادة  تجلٍّ لطاقة الإمام الروحيَّة الهائلة، كسبب ونتيجة لصرامة التزامه بتعاليم الإسلام. لقد كانت هذه الإرادة تعبيراً عن "روحانيَّة سياسيَّة"نبويَّة لا تنشغِل بوضع أهداف استراتيجيَّة طويلة المدى، بقدر ما ترتكِزُ إلى أفعال عباديَّة يوميَّة، واضحة مطردة ومنتظمة؛ تحفظ على الفرد قوَّة علاقته بالله. وهذا هو سر الإجماع الملتحم الذي نضحت به. بل وهذا هو ما جعل الإمام - بطاقته النفاذة - محور ارتكاز للحركة.

هذه الروحانيَّة السياسيَّة،***

في مقاله المعنون: "مستودع بارود اسمه الإسلام"، والمؤرخ 13 فبراير 1979 (ص 101 - 104)؛ يؤكد فوكو إن الأهميَّة التاريخيَّة لهذه الحركة، التي حققت نتيجة لا نظير لها خلال القرن العشرين؛  ليست في مدى تطابُقها مع النموذج الثوري الغربي، المعترف به نظريّاً؛ بل "بقُدرتها على خلخلة المعطيات السياسيَّة في الشرق الأوسط، ومن ثم تغيير التوازن الاستراتيجي العالمي". ومن المرجَّح أن فرادتها، ومصدر قوتها؛ هو"صفتها كحركة إسلاميَّة"، وهي الصفة التي "ستمكنها من إشعال فتيل المنطقة بأسرها، والإطاحة بالأنظمة غير المستقِرَّة، وإثارة قلق الأنظمة الأكثر صلابة". إذ بهذه الحركة "من المرجَّح أن يُشكِّل الإسلام - وهو ليس مجرَّد دين، بل نمط حياة وانتماء لتاريخ وحضارة - مستودع بارود بحجم مئات الملايين من الرجال". بعد أن "بات ممكناً لأي دولة إسلاميَّة أن تقع فيها ثورة من الداخل، انطلاقاً من تقاليدها العلمانيَّة". أي أن روح الإسلام وتقاليده الجوانيَّة نفسها هي مكمن القوة، ومستودع البارود القابِل للانفجار، إن تهيأت الظروف؛ مهما أحاطت بها التقاليد العلمانيَّة البرانيَّة. وهذه التقاليد هي موضوع مقالنا التالي، والسلام.