Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

الخندق ليست صحيفة لبنانية فحسب. هي لبنانية بقدر عروبتها، ووطنية بقدر أمميتها. تؤمن بأن معركة الفساد غير منبتة الصلة عن معركة التحرير. وأن معركة التحرير ليست بمنأى عن معارك الحرية الفردية والاقتصادية لكل مواطن في منطقتنا وعلى امتداد واقعنا العربي

بشار اللقيس

لماذا الخندق؟

"

"حلت الكارثة. لبنان ينهار. نحن في الانهيار"، هي العبارات الأكثر رواجاً في الأشهر الست الماضية عندنا. قبيل شهر تقريباً، دخل الكورونا دائرة انشغال الاعلام ومنظمات الصحة الدولية. استبدلت عبارات انهيار الدولة سياسياً بمنظومة جديدة من أدبيات القطاع الصحي المرتبطة بالانهيار. وبغض النظر عن انهيار البلد أو القطاع الصحي من عدمه –وهو بالتأكيد مسألة لا يمكن الاستهانة بها-، فإن "خطاب الانهيار" نفسه مسألة أخرى. ليست المسألة ظاهرة لبنانية مخصوصة، ولا هي مرتبط بثورة تشرين المطلبية. إن خطاب البيئة، الجنوسة، الكوارث، وخطابات أخرى تعود لعقود مضت، كلها تتجاوز المسألة اللبنانية على أهميتها عالمياً. في العراق عام 2003، أوكرانيا 2005، سوريا 2011، مصر، ليبيا، الجزائر وغيرها، حدث في العقدين الأخيرين أن استيقظ الناس فجأة على خطاب الانهيار والأزمة. مرة جديدة ما نتوقف عنده هو الخطاب لا الأزمة نفسها.

كمثال، كان العراق قد دخل ولسنوات في حالة من التعثر السياسي والاقتصادي قبيل الاجتياح الأمريكي له. هذا صحيح، لكن خطاب الأزمة لم يتولد إلا قبيل عام ونيف من اجتياح الأمريكيين له. هذا لا يعني أن ما من مشكلة سياسية واجتماعية عند ظهور مثل هذا الخطاب. لكنه يعني وبالقدر نفسه، أن ثمة ظاهرة ينبغي الوقوف عندها.

في تحليلها لمنطق السياسة الأمريكية تقر نعومي كلاين بأن للولايات المتحدة سياسات أذكى من نظيراتها من دول الاستعمار. كان الاستعمار قبل عقود وعند دخوله منطقتنا، يضع جملة من العناوين بعيدة الأمد لتغطية ممارسة هيمنته. كانت فرنسا ومثلها بريطانيا، تقدم خطاباً يقول بأن علينا أن نؤهّل الشعوب للحكم؛ فالأخيرة ليست قادرة على ذلك وحدها، وكان يتطلب مثل ذاك الخطاب؛ نزيفاً من الاستثمار في البنيتين التعليمية والاقتصادية في الدول المستعمَرة من كل من رأسي نظام الهيمنة الدولي، فرنسا وبريطانيا. مع الولايات المتحدة صارت المسألة مختلفة بعض الشيء. يكفي أميركا أن تروج لخطاب الأزمة كي يصبح وجودها مقونناً لا على مستوى الأمم المتحدة فحسب (كإضفاء المشروعية على التدخل الإنساني في يوغسلافيا)، بل وشعبياً من خلال قناعة الناس بأن إشكاليتنا هي في ما يقدمه "خطاب الانهيار" نفسه.

في العراق 2003، قدمت الولايات المتحدة للعالم الأزمة العراقية بعنوان وحيد اسمه صدام حسين. كان خطاب الأزمة العراقية يقوم على دعامتين: الأولى: قدرة الشعب العراقي على الحكم الديمقراطي وبناء الدولة بشكل تلقائي فور سقوط الموانع. الثانية: الموانع لها اسم وحيد: صدام حسين.

دخلت الولايات المتحدة العراق عام 2003، والكل يعرف ما حدث بعدها. كان العراق المثال الصارخ على أن المسائل أعقد من "خطاب أزمة". وكان "خطاب الأزمة" العراقية عام 2003 أعمق من مسألة صدام. لقد غيبت أميركا دورها في صناعة الأزمة التي وصلت إليها بغداد، والتي كانت الولايات المتحدة شريكاً رئيساً فيها منذ عام 1990 في أقل تقدير.

الأمر نفسه تكرر في مصر عام 2011، وفي سوريا بعد ذلك، وليبيا، والجزائر والسودان. نعم، في كل هذه الأقطار ثمة حاجة للإصلاح بكل تأكيد. في الآن عينه، وفي كل هذه الأقطار ثمة شبكات جد معقدة من الهيمنة والنفوذ، وهي بحاجة لنمط آخر من الثورة والإصلاح. الأمر نفسه في لبنان، وإن بدت الحالة اللبنانية مختلفة. لبنان هو الأكثر هشاشة في طبيعة بنيته السياسية، وهو الأكثر تعقيداً في استحكام بنية القوى المهيمنة فيه.

في لبنان نظام طائفي، وخلل تنموي، واستباحة للدولة ومؤسساتها، هذا صحيح. وفي لبنان أيضاً غياب للمجال العام، سوء فهم مبدئي للدولة والمجتمع في آن، وضعف عن انتاج بدائل فكرية وثقافية وسياسية ضارب الجذور، لا عند أركان السلطة فحسب، وبل وعند المعارضين والمنادين بالبديل. ما يجعل الثورة مسألة أكثر تعقيداً من حراك في الشارع من أجل "إسقاط النظام".

مغامرة من ورق:

دأب خطاب الكارثة عند أهل الرأي العام في لبنان تكرار مقولة "انتهاء زمن الورقي". في السنوات العشر الأخيرة أقفلت صحف ومكاتب إعلامية عدة في بيروت بذريعة "موت الصحافة"، وانتهاء زمن القراءة، وغيرها من المفردات. في الحقيقة كانت الأزمة ولم تزل أكثر عمقاً وخطراً مما قُدّم إلى اليوم. وخطورتها لا تكمن في مدى ما وصلت إلى أزمة الثقافة، وضعف إمكانية الصحافة –الورقية منها تحديداً- بل في نفس من قدموا أنفسهم أهلاً لقيادة الرأي العام. إن أزمة الصحافة الورقية في لبنان تكمن في نفس من قادوا، وأداروا مشاريع الصحافة في لبنان. لم يكن المال في يوم عائقاً. العائق الحقيقي كان شخصنة المؤسسات الإعلامية، وفي تحول المنابر الإعلامية لفضاءات "استثمار رأسمالي". وقد صدقت الأدبيات الأولى للماركسية في تحذرها من مؤسسات الثقافة وفي خوفها من سقوط الصحافة بيد البرجوازيين. لقد ولد فضاء الصحافة والإعلام في لبنان كفضاء برجوازي، تمارس من خلاله نخب المركز هيمنتها الثقافية على الأطراف. ثم ما لبثت هذه النخب أن أحالت هذه المؤسسات لمؤسسات عائلية، شخصية، تستثمر الوعي والثقافة في تقليب الرأي العام يمنة ويسرة طمعاً في الكسب السياسي والمالي.

وأكثر، للصحافة -والإعلام عموماً- في لبنان، ميراث استشراقي غير خفي، ورثته نخب المركز في لبنان عن الاستعمار في تعاطيه مع الأطراف. الأطراف في الإعلام اللبناني لا تحضر إلا على سبيل "النكتة"، أو الصور المنمطة. ويكاد يختصر ابن مناطق الأطراف بصورة العفوي الساذج، أو المارق المتمرد على الدولة، الإنسان البرّي الذي لم يختبر مدنية الدولة وعقلانية الانتماء لها. والأمر نفسه يكاد يكون حاضراً في التعاطي مع الضواحي والهوامش المدينية في قلب بيروت.

لم يحظ المهمشون من أبناء المركز في بيروت وجبل لبنان –وأبناء الأطراف بطبيعة الحال- في إعلامنا بفرصة القول. نحن لا نسمعهم. وغاية ما يمكن أن "نخدمهم" به، نوع من التضامن؛ كأن يزوهم (أو تزورهم) إعلامي كي يقنعنا "بأنهم مثلنا"؛ بشر من لحم ودم، يفكرون ويحلمون، ويعملون و"يتعلمون ربما".

كل هذه المسائل وغيرها كانت الدافع لنا في إطلاق "مغامرة الخندق". هي مغامرة ورقية وأكثر، هي صوتنا نحن المهمشين ممن لم نحظ يوماً بفرصة للقول، هي قولنا نحن الذين لم نحظ بفرصة الإصلاح. هي صوت خليل عكاوي / "أبو عرب" الشعبي في طرابلس، ومعروف سعد يشد أزر شباب طولكرم يعدّهم لمواجهة العدو. هي صوت أحمد درويش / "العربي"، الذي لم نعرف عنه غير الغنائيات اليتيمة في حصار بيروت، ويقين عباس الموسوي في وعده بسقوط اسرائيل. هي أمل موسى الصدر بغد أفضل، وصوته إذ يستنهض المحرومين ممن ألفوا القهر، وائتمنوا الصبر، وعزموا على المواجهة.

والخندق ليست صحيفة لبنانية فحسب. هي لبنانية بقدر عروبتها، ووطنية بقدر أمميتها. تؤمن بأن معركة الفساد غير منبتة الصلة عن معركة التحرير. وأن معركة التحرير ليست بمنأى عن معارك الحرية الفردية والاقتصادية لكل مواطن في منطقتنا وعلى امتداد واقعنا العربي، بل وفي كل منطقة تواجه فيها الشعوب الهيمنة الإمبريالية على مقدراتها.

"

رئيس تحرير صحيفة الخندق