Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

إنّ أزمة النظام اللبناني تحتاج إلى العقلانية لتفكيكها وحلّها دون شكّ، لكنّ المبالغة بالعقلانية سوف تعطينا الدواء بعد أن تنزع منّا الروح، وهي ما نحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

حسين عمار

لا تقتلوا الجنون!

"

اعتراف: ذات ليلةٍ كان فيها "الرينغ" مجرّد جسر عاديّ وكانت كورنيش المزرعة هي الحدث أغلب الوقت، ناولني أحدهم سكّين مطبخٍ صغير وتسلّلت مع شابّين آخرَيْن قرب مجموعةٍ من عناصر قوى الأمن الداخلي كانت تقف أمام مخفر البسطة، تسلّقنا عامود كهرباء ومزّقنا الصورة الضخمة المرفوعة عليه. اليوم وبعد أكثر من اثنتي عشر عاماً، فعلٌ كهذا لم يعد حدثاً يوميّاً، لا بل إنّه أصبح "عيباً اجتماعياً" لدى معظم اللبنانيّين بمن فيهم جماهير الأحزاب. غير أنّ ما دفعني لهذا الاعتراف الآن هي الإجابة على السؤال التالي: لم فعلت ذلك؟ فعلتها لأنّني أردت قصّةً أعود بها إلى الحيّ، لا أكثر.. لكن ما حصلت عليه كان أكثر من ذلك، إذ عُرض الفيديو ليلتها في نشرة الأخبار المسائية على قناة الـ  LBC. لقد كنت أبحث عن شيءٍ دون أن أعرف ماذا أسمّيه. ولا أريد في هذه اللحظة أن أتّفق مع أي أحدٍ على المصطلح، سمّوها الرومانسية، الجنون، الحسّ الثوريّ، سمّوها ما شئتم، لكن بالنسبة لي هي أن تمنح السحر ليوميّاتٍ عاديّة، هي أن تمتلك ما ترويه للآخرين ليعرفوا من أنت، هي أن تساهم أكثر في رواية ما سيُحكى عنك، هي ببساطة: أن تبقى.

أردت أن أبدأ بشيءٍ بحجمي، لكن لنضع القضيّة في حجمها الحقيقيّ: اثنان وسبعون بطلاً  ذُبحوا في كربلاء، آلاف الشهداء سقطوا بين بيروت وحيفا مروراً بخلدة وصافي، آلافٌ أخرى التهمتهم جبهات حلب والقصير والقلمون، لكن من بين قصص أولائك جميعاً فإنّنا نتداول أكثرها استفزازاً لحزننا وغضبنا وحبّنا، لا أكثرها تأثيراً في صناعة الأحداث. دعكم من القتل والبطولة، هل يقسم أحدكم أنّ عنتراً أو قيساً كانا أكثر الرجال عشقاً لنسائهم؟ لماذا نعرفهم دون سواهم إذن؟ أتذكرون صورة ذاك الشابّ الذي يحمل خطيبته تحت المطر في شارع الحمرا؟ لماذا لاقت كلّ هذا الرواج؟ ذاك العجوز الذي خطف عدسات النقل المباشر أولى أيام الانتفاضة ليس أفقر من في البلد، لكنّه قدّم لنا قصّةُ مؤثّرة، في لحظة وقوفه أمام الكاميرا نجح في استحضار كلّ مآسيه ومعاناته، إنها الدراما. وهي ليست كذباً أو خيالاً محضاً، لا بل إنّ الخيال لا يمكن أن يولد إلّا من واقعٍ أشدّ دهشة.

ما أَوْلَد 17 تشرين هي الدراما، والرومنسية الثوريّة في تفاصيلها، بدءً من ائتلاف القلوب خلال الحرائق مروراً بمشهد المُرافق الذي يضرب المواطنين العزّل وليس انتهاءاً بشعور الشعب أنّه "قادرٌ" هذه المرّة. ثم عاد الشعب ليظلم نفسه متغافلاً عن حقيقة الروح الثورية، ناسياً أنّ الثورة لا تُحتَكَر. ذاك الشابّ الملثّم الذي يضرب باب المصرف بالعامود لديه مشكلةٌ مع كلّ شيءٍ تقريباً، تلك الفتاة التي تحمل شنطةً على ظهرها وترمي المفرقعات على مكافحة الشغب أيضاً، ذاك الذي يظلّ يعترض ويعترض حتى يملّ من نفسه، الحطة الفلسطينيّة عند باب المصرف المركزيّ وهذا وذاك.. هؤلاء جميعاً وجدوا سبيلاً للتعبير عن غضبهم الثوري، لكن هناك أضعافٌ مضاعفة تعبّر بأسلوبها وتتدرّج به، ومن لا يفعل فإنّه يحترق في داخله. أسبابٌ كثرةٌ تضبط مشاعر الرفض لدى هؤلاء، غير أنّه من السخافة، لا بل من الحماقة ربط هذه الأسباب بعلاقةٍ نفعيةٍ تربطهم بالنظام القائم، وأنا أؤمن أن دوافع البعض في هكذا "اتّهام" ليست سوى التكبّر والاستعلاء. ما يسمّيه المنظّرون انتفاعاً ويتذرّعون به لتصنيف البشر ومنحهم تأشيرات دخولٍ إلى الثورة ليس إلّا فتات ما تبقّى من الفتات التي تركها المستعمر الأكبر وحاشيته. شاهدتم the platform أليس كذلك؟ إلى أن ننتزع المنصّة من جذورها، سيبقى كلّ سكّان الطوابق من الأول إلى الأخير منتفعين بشكلٍ أو بآخر، ونحن سكّان الطبقات الدنيا من حقّنا أن ننتفع باليسير الذي تبقّى لنبقى على قيد الحياة. الفضيحة ليست هنا، إنّما في أن يكون هذا القدر من حقّك هو أقصى ما ترضى به، ثم تسكت. في الوقت الذي نجد فيه بين رموز الانتفاضة موظّفو NGO تفوق رواتبهم الألفي دولار، وبين شباب الأزقّة الفقيرة موظّفون في القطاع العامّ براتب مليون أو اثنين، لا يحقّ لأحدٍ أن يحتكر حلم الثورة، المستضعفون الذين أجبروا على التكيّف في أسفل المنصّة يجب أن يتوقّفوا عن المزايدات. أغرقونا في العقلانية حتى كدنا ننسى أن الهويّة في لبنان بل وفي كل الأوطان أعزّ من المال. وعلى كلّ حال، فقد دفنت المصارف أموالنا جميعاً، مسلمين ومسيحيّين، مؤمنين وكافرين، وطنيّين و"أجنداتيّين"، جذريّين وحداثويّين، ماركسيّين وليبراليّين.. إنّها المصارف، على اختلاف مشاربنا الثقافية وأنماط حياتنا، تصرخ بكلّ عزمها لتخبرنا بأنّ القرط في أذن ابن الرينغ ووشم السيف على كتف ابن الخندق إنّما هي إكسسواراتٌ على جسدٍ واحدٍ، جسدٍ ينهشه الاستعمار وأدواته، وسيبقى ينهشه حتى يبلغ روحه.

الحديث عن الانتفاع لا يأتي بشيء، أبوابٌ تُفتح هنا وتُغلق هناك والعكس صحيح، هذا هو لبنان، بوّاباتٌ بألف شرطٍ وشرط، ومن يسعى لتغييره عليه أن يخوض بما هو أعظم، عليه الخوض بالعدالة الاجتماعية، لا الفئويّة. وعلى ما يقول الشهيد باسل الأعرج، "ليس هناك تيّاراتٌ أو أحزاب أو أديانٌ ثورية، فكلّ تلك الأشياء تحمل الضدّ في داخلها". أمّا المشترك الوحيد بينها هو الإنسان، بكلّ مشاعره وتناقضاته وصراعاته في رحلة البحث عن الحقيقة، وإن لم يدرِ. ليس مقدّراً لهذا الشعب أن يحيا مفكّكاً بينما تهنؤ زعاماته باقتسام مقدّراته. إن كانت هذه أياّم صحوتنا كما هو مفترض، فمن الأجدر أن نجتهد في استثمارها، قبل أن نعود كما كنّا طوال ثلاثين سنة: شعبٌ يعشق الوقوف على الأطلال. إنّ أزمة النظام اللبناني تحتاج إلى العقلانية لتفكيكها وحلّها دون شكّ، لكنّ المبالغة بالعقلانية سوف تعطينا الدواء بعد أن تنزع منّا الروح، وهي ما نحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لا بأس ببعض الجنون، بل بالكثير منه، لا تَدَعوا "المتنوّرين" و"المطبّلين" يخلقون لكم معارك وهمية وأعداءً أنتم بالغنى عنهم. فالغضب هو آخر ما تبقّى لنا، وإذا ما صرفناه على بعضنا فقدنا كلّ شيء! كلّ من يضع الشعب في مقابل الشعب مجرمٌ سيلفظه أيّ مستقبلٍ مشرقٍ ما زلنا نحتفظ بحقّ الإيمان به.

مجدّداً، هذه الأحاسيس التي لها ألف اسمٍ لن تموت، لأنّها من الله، أودعنا إيّاها لأنّنا نحتاجها، وسواء أعجبتنا أم لم تعجبنا لا بدّ من إنصافها، ومن يسخر منها يسخر من صنع الله، مهما كانت رايته. إنّها ما يجذبنا لفعل أشياء جنونية، كالبطولة والثورة والسعي لتغيير واقعٍ أسودٍ كما هو الحال في لبنان.

إذا أردت شعباً يصنع المعجزات، ولا أعجز ممّا نصبو إليه، لا تراهن على عقلانيّته.

"

كاتب لبناني