Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم يعد خافياً على أحد، بأنّ ملامح عالمٍ اقتصادي جديد قد بدأت تتبلور أكثر فأكثر، فاقتصادات الدول ستعتمد على قطاعات إنتاجية  لم تكن تعتمد عليها سابقًا،  بنيانها الأساسي سيرتكز على التقدم التكنولوجي من جهة والقطاع الزّراعي من جهة أخرى لتلبية حاجاتها. هذا بالإضافة الى التحول الذي سيطرأ على الإنفاق في الميزانيات لهذه الدول، حيث سيرتفع الإنفاق على المشاريع البحثية التكنولوجية.

عبد صفدي

كورونا الاقتصاد...التحوّل الذي طالَ انتظارُه

"

طرح التخبط العالمي الناجم عن انتشار فيروس كورونا الكثير من التكهنات والأسئلة حول مستقبل الجغرافيا السياسية والتقدم التكنولوجي والاقتصاد والثقافة. فقد حلَ هذا الكائن المجهري ضيفاً ثقيلاً على الاقتصاد العالمي لعام 2020، ففي أعقاب ظهور الفيروس التاجي في مدينة ووهان الواقعة في مقاطعة هوبي، وفي ظل الانتشار العالمي للجائحة، بدأت دول العالم تتحضر لركود اقتصادي لم تشهد له مثيل من قبل، حيث اعتبر وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير بان فرنسا ستشهد بلا شك في عام أسوأ ركود اقتصادي لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
                                                                                                   

التأثير السلبي للوباء على الاقتصاد العالمي من البوابة الصينية

أصبحت الصين مهد الوباء منذ عقود لاعباً اقتصادياً عالمياً رئيسياً. فهي تمثل ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، خلف الولايات المتحدة مباشرة، بحصة تبلغ 15.8%من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وذلك وفق بيانات البنك الدولي، كما تبلغ حصتها من الصادرات العالمية للسلع ما يقارب 13% أرقام من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنميةالأونكتاد، كما كانت الصين المصدر الرئيسي للنمو العالمي لعقود، بمساهمة تزيد عن 39% في عام 2019 وحده. وفي هذه المرحلة، تقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني سينخفض إلى أقل من 5% هذا العام. ومع ذلك، لا يزال من السابق لأوانه قياس النتائج السلبية للوباء على الاقتصاد العالمي بدقةحيث لا يزال هناك الكثير من عدم اليقين بشأن مدة الأزمة وحجمها، فضلاً عن تأثير التدابير المتخذة، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي (في 14 نيسان)انخفاضًا في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالميوفي الولايات المتحدةومنطقة اليوروفي العام 2020، وذلك وفق تقرير تم نشره على الموقع الكتروني للهيئة الإتحادية البلجيكية.   

وفي تصريح للبروفيسورة جوفانا ستان سليفيك أستاذة إدارة الأعمال الدولية في كلية الإدارة العريقة في غرونوبل ـ فرنسا، اعتبرت فيه أن العولمة قد دفعت الصين إلى أن تكون القلب النابض للنظام اللوجستي العالميحيث تعتمد الشركات في جميع أنحاء العالم على الإمدادات الصينية، ولهذا السبب أثر إغلاق المصانع في المقاطعات المتأثرة بالفيروس على العديد من الصناعات حول العالم، حيث كانت شركة "هيونداي" الكورية الجنوبية لتصنيع السيارات أول شركة غير صينية تعلن توقف الإنتاج في المصانع الواقعة على أراضيها بسبب نقص في القطع. ولم يختلف الحال مع شركات تصنيع السيارات في أوروبا والولايات المتحدة، حيث أعلنت أن مخزونها من القطع سينفذ قريباً. إضافة الى ذلك، تُعتبر الصين المصدر الرئيسي للمكونات الإلكترونية، مع ما يقارب من 30% من الإجمالي العالميحيث أدى انقطاع عمليات تسليم البضائع، الى توقف الإنتاج في البلدان التي تعتمد في إنتاجها إلى حد كبير على المكونات الإلكترونية المستوردة من الصينففي عام 2019، على سبيل المثال، استوردت اليابان مكونات كهربائية وإلكترونية صينية بقيمة تتجاوز مليار دولار..                                                 

شكلت الصين 80% من نمو الطلب العالمي على النفط في عام 2019، وبطبيعة الحال، أدى الانكماش الحاد في النشاط الصناعي الصيني، مصحوبًا بانخفاضات كبيرة في النقل الدولي والوطني حول العالم، إلى انخفاض الطلب العالمي على النفط للمرة الأولى منذ العام 2009 وفق وكالة الطاقة الدولية. ضف الى ذلك، الأزمات الجيوسياسية المتتالية لاسيما في منطقة غرب آسيا والتي أدت  إلى زيادة كبيرة في الإنتاج، فتكدست ملايين براميل النفط، من دون وجود مخارج لتصريفها، وامتلأت الخزانات لدى كل المنتجين إلى حدّ ناقلات نفط عائمة لتخزينه،إلى أن اقترب موعد نيسان، حيث موعد انتهاء العقود الآجلة للنفط لشهر أيار، وهذا ما دفع المضاربين الصغار في سوق النفط ومستهلكي التجزئة إلى عرض عقودهم التي لن يتمكنوا من تسلّمها ولا تصريفها، فعرضوا العقود بأسعار منخفضة، وأصبح هؤلاء مضطرين للبيع حتى لو دفعوا من جيوبهم للتخلص من هذه العقود،فكان التأثير الكبير في السوق الأميركية، لأنها تضم وحدها من السندات العالمية النفطية..                        

بالإضافة الى ذلك، من المتوقع أن تنخفض التجارة العالمية بنسبة تتراوح بين 13% و32% في عام 2020، وذلك وفق تقديرات منظمة التجارة العالمية، كما تشير أرقام منظمة العمل الدولية الى أربع قطاعات عانت من تأثيرات حادة نتيجة انتشار الفيروس وانخفاض الإنتاج هي: الغذاء والسكن(144 مليون عامل، وتجارة التجزئة والجملة442 مليون(، خدمات الأعمال والإدارة ، والتصنيع463 مليون)لرئيس منظمة العمل الدولية، فإن هذه القطاعات مجتمعة تشكل ما يصل مجموعه إلى من العمالة العالمية، حيث من المتوقع أن يخسر ما يقارب 195 مليون عامل وظائفهم، نتيجة انتشار كوفيد-19.         

 

التأثير الايجابي لانتشار فيروس  كوفيد-19 على الاقتصاد العالمي

في خضم هذه المشهدية القاتمة للتدحرج الدراماتيكي للاقتصاد العالمي التقليدي، أجرى مركزجيوتك"، التابع لمجلس المحيط الأطلسي استبيانًا، شمل أكثر من خبير في التكنولوجيا لتسجيل توقعاتهم بشأن تأثير كوفيد-19على الابتكار، حيث توقع الخبراء أن أكثر الابتكارات تأثيرًا في الأعوام الخمسة القادمة، ستنبع بشكل أساسي من التطورات المتعلقة بالبيانات والذكاء الاصطناعي وأنظمة الرعاية الصحية..                                                                                                                 

وفي دراسة أجرتها مؤسسة "سيم راتش" العريقة، لمعرفة الأثار الإيجابية والسلبية لفيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، خلُصت الى أنّ الصناعات التكنولوجية لا سيما السحابية منها قد شهدت إقبالاً ونموّاً غير مسبوق في تاريخها، لا سيما منصّات العمل عن بعد، فقد ارتفعت أسهم منصة "زووم" وهي مساحة مصمّمة لمؤتمرات الفيديو والندوات عبر الإنترنت، من 108 دولارات في 16 أذار إلى 162 دولارًا في 23 أذار، مما يشكل  زيادة مذهلة، نظرًا لأن أسواق الأسهم سجلت تراجعاً يزيد عن30% ، وهو ما يعتبر قصة نجاح وسط أزمة عالمية، حيث ازدادت عدد الزيارات الى الموقع بنسبة 67 مليون زيارة خلال شهر أذار وضمن  السياق نفسه، فقد أعلن جيف تشانغ، رئيس مكتب التكنولوجيا في شركة "علي بابا" الصينية الرائدة في توفير الخدمات السحابية في سوق آسيا والمحيط الهادئ، أنّ الشركة ستستثمر 28 مليار دولار في بنيتها التحتية السحابية على مدى السنوات الثلاث المقبلة، مع تزايد الطلب على خدمات مثل البثّ المباشر ومؤتمرات الفيديو، بالإضافة إلى رغبتها في تقديم حلول ذكية قائمة على السحابيّة لدعم التحوّل الرقمي في مرحلة ما بعد الوباء في  العالم. يُعدّ هذا الاستثمار ضخمًا وغير مسبوق، حيث جنت الشركة أكثر من مليار دولار كعائدات، مما جعل عملاق التّجارة الإلكترونيّة الصيني يحقق نموًّا سنويًا في الإيرادات السحابية بنسبة في الربع الأخير، وذلك نتيجة تطبيق سياسات العمل والتعلّم عن بعد، مما زاد الطلب على المنتجات السحابية في الشهرين الماضيين، وذلك وفقًا لبيانات من الناشر الإلكتروني المالي "ليرن بوندس".

منذ عام 2000، والشركات تدفع مليارات الدولارات لتوجيه وعي الجمهور نحو العالم الرقمي من أجل إدارة التغيير والتحوّل الرقمي وبناء إقتصاديّات التكنولوجياجعلت ذلك ممكنًا في ثلاثة أشهر فقط.

                                                                            

خاتمة 

ختاماً، لم يعد خافياً على أحد، بأنّ ملامح عالمٍ اقتصادي جديد قد بدأت تتبلور أكثر فأكثر، فاقتصادات الدول ستعتمد على قطاعات إنتاجية  لم تكن تعتمد عليها سابقًا،  بنيانها الأساسي سيرتكز على التقدم التكنولوجي من جهة والقطاع الزّراعي من جهة أخرى لتلبية حاجاتها (لم يسع المقام للحديث عن الذهب الأخضر). هذا بالإضافة الى التحول الذي سيطرأ على الإنفاق في الميزانيات لهذه الدول، حيث سيرتفع الإنفاق على المشاريع البحثية التكنولوجية لا سيما الطبّية منها،  حيث سرّع فيروس كورونا الخُطا بشكل غير اعتيادي نحو التحول إلى اقتصاد عالمي رقمي، قطبه الأوحد دون منازع ستكون الصين على المدى الطويل، فقد ظهر بأن الثلاثية القائمة على النفط والدولار والترسانة العسكرية لحكم العالم، قد خفَتَ وهجُها أمام التكنولوجيا وسُبُل استخدامها، حيث تكمن الأهمية في القدرة على تسخير التقدّم التكنولوجي واستثماره لتحسين سُبل العيش والدفاع عن الحياة البشرية - لا سيما في مواجهة الأزمات - فالاقتصاد الرقمي مبني على نظام تحرّكه وتنظّمه المعرفة وانتشار المعلومة والسيطرة عليها.

لا بدّ من الإشارة هنا أيضاً إلى التوقّعات التي تفيد بأن الاقتصادات النامية لن تشهد طفرة في الابتكار التكنولوجي نتيجة لانتشار كوفيد 19، وذلك بسبب غياب استراتيجية وطنية واضحة للاقتصادات النامية تضع أهدافًا متوسطة وبعيدة الأمد مع برامج تنفيذ محددة ومعايير أداء ومتابعة وتقييم مستمر.  وخاصة أنّ الاقتصادات الرقمية تتميّز بالترابط والتداخل بين مختلف مكوناتها وبين مختلف أوجه النشاط الاقتصادي في العالم،  بينما الاقتصادات الأكثر تقدّمًا ستستمرّ على الأرجح في تعزيز الابتكار جنبًا إلى جنب مع جهود الإنعاش التي تبذلهاوبناءً على ذلك، فإن الابتكار من الاقتصادات الأكثر تقدمًا سيتركز كما هو متوقع على التقنيات الجديدة التي فرض وجودها الوباء. من ناحية أخرى، قد تكون الاقتصادات الأقل نموًّا أكثر عرضة للابتكار من خلال تكييف التقنيات والأنظمة القديمة لتناسب احتياجاتهم الحالية بشكل أفضل، وأخيراً ستشهد مرحلة ما بعد كورونا تحوّلاً جذريّاً في العلاقات السياسية ولاسيما التجارية بين الدول.. فهذا الكائن المجهري كشف بشكل لا لبس فيه اللثام عن وجوه الصديق والعدوّ بالنسبة لكلّ دولة من دول العالم.

"

كاتب لبناني