Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

قيل قديماً أن حبل الكذب قصيرٌ لكنه لا يبدو كذلك في موطن الكذب، حيثُ تُغرس الكذبة ويتعهدها إعلام النفط بالرعاية والسقاية فتُصبح كرة ثلج تكبر وتتعاظم كلما تدحرجت أكثر، قبل أن تغدو وحشاً قميئاً قبيح الوجه، ككذبة 'باصات عرسال المكيفة'" التي شهدنا نموها وتضخّمها أمام ناظرينا حتى كاد بعضنا يصدّق بأن حزب الله هرّب المسلحين من عرسال بباصات مكيّفةٍ قبل أن يحررها الجيش!"

علي حمية

كذبة الباصات المكيفة في عرسال

"

قيل قديماً أن حبل الكذب قصيرٌ لكنه لا يبدو كذلك في موطن الكذب، حيثُ تُغرس الكذبة ويتعهدها إعلام النفط بالرعاية والسقاية فتُصبح كرة ثلج تكبر وتتعاظم كلما تدحرجت أكثر، قبل أن تغدو وحشاً قميئاً قبيح الوجه، ككذبة "باصات عرسال المكيفة" التي شهدنا نموها وتضخّمها أمام ناظرينا حتى كاد بعضنا يصدّق بأن حزب الله هرّب المسلحين من عرسال بباصات مكيّفةٍ قبل أن يحررها الجيش!. والكذب قبيحٌ مرذول حتى في عرف المافيات والعصابات فكيف إذا ما اقترن بالجحود، لذا بات لزاماً علينا، ونحن على أبواب الذكرى السنوية لـ"غزوة عرسال" أن نعيد سرد الأحداث كما جرت واقعاً لا كما يُحبذ حماةُ الإرهاب صياغتها ليتملصوا من خطيئتهم التاريخية.
تعود جذور عملية تحرير عرسال إلى عام 2014 حين غزا الانتحاريون بسياراتهم المفخخة الأحياء السكنية في الضاحية والبقاع، واستهدفوا قرى بعلبك الهرمل بالصواريخ انطلاقاً من جرود عرسال والسلسلة الشرقية ضمن عملياتٍ موثّقة تبنتها سرايا "مروان حديد" التابعة لكتائب عبدالله عزام (التابعة لجبهة النصرة). يومها علا صوت المفرقعات شمالي لبنان ابتهاجاً ووزعت الحلوى على المارة علناً. وفيما امتنعت الدول الخليجية الراعية للمسلحين عن أي إدانة للجريمة، لاذ معظم حلفائها في لبنان بالصمت أو أصدروا بيانات وتصريحات أقرب للتبرير ولا يخلو أي منها من كلمة "لَكِن"، حتى أن حلقة برنامج التوك شو السياسي الأول في لبنان (كلام الناس) وقتذاك تحولت إلى حلقة للتهريج والتبرير والضحك على أشلاء الضحايا كأنهم مواطنون من درجة عاشرة.
شكلت غزوة المسلحين لمواقع الجيش خلال تلك الفترة في الثاني من آب 2014 وقبلها استهداف دورية للجيش في عرسال وقتل قائدها المقدم بيار بشعلاني، والتمثيل بجثته أمام الكاميرات فرصةً لفريقٍ لبناني كي يتضامن مع القتلة لا مع الضحايا، فتذكر فجأةً منطقة بعلبك الهرمل بعد عقودٍ من النسيان وتزاحمت وفوده إليها للتضامن مع عرسال. استهل وفد قواتي زحلي ضم النواب انطون أبو خاطر، جوزف المعلوف، شانت جنجنيان، ومنسق القوات في زحلة شارل سعد حفلة التضامن في كانون 2012، تبعته زيارتان لوفد أمانة الرابع عشر من آذار برئاسة فارس سعيد في أيار 2012 وحزيران 2013، ضم نواباً من القوات والمستقبل ونائب الكتائب إيلي ماروني الذي رفض في مقابلة تلفزيونية في 25 آب التعزية بشهداء الجيش مؤكداً أنه سيزور عرسال مجدداً مطالباً الجيش بوقف "اعتداءاته"، ثم زيارة أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري البلدة وتلاوته خطاباً طائفياً رافضاً أي عمل عسكري في عرسال، ثم زيارة رئيس الجمهورية ميشال سليمان شخصياً الذي فاته أن يبدي قليلاً من التضامن مع ذوي الفتاة "لولو عوّاد" التي قضت بقصف صاروخي قبيل وصوله، وسارع إلى عرسال في 29 أيار ليرحّب من هناك بالهبة السعودية "السريعة" التي لم تصل إلى اليوم بعد مرور سبع سنوات. تزامن كل ذلك مع تصريحات إعلامية مكثفة لمنع أي عملية عسكرية تسترد العسكريين وتحرر البلدة من الإرهاب لإبقائها شوكة في خاصرة المقاومة، حيث رفض رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب وليد جنبلاط في 15 تشرين أول 2014 تصنيف جبهة النصرة منظمة ارهابية واعتبر مقاتليها "سوريين يدافعون عن بلدهم" مطالباً بخارطة طريق للمعارضة السورية تضم 1500 فصيل معارض من بينها جماعة، البغدادي. فيما كان معاونه النائب الاشتراكي وائل أبو فاعور يُشرف على تسليم المسلحين مبلغاً بقيمة 280 ألف دولار في 28 تشرين أول 2014 بحجة الحفاظ على حياة العسكريين، ضمن وساطة لم تهدف سوى للمماطلة وكسب الوقت لصالح المسلحين، شاركت فيها هيئة علماء المسلمين المدعومة من قطر برئاسة الشيخ سالم الرافعي والمحامي نبيل الحلبي المدعوم من تركيا والمحسوب على بهاء الحريري إلى جانب الوسيط القطري أحمد الخطيب الذي دخل الى عرسال برفقة 6 شاحنات من المواد الغذائية والمواد الطبية بحجة النازحين بعد يومين من محاولة توقيفه على يد دورية تابعة لاستخبارات الجيش في محلة طريق الجديدة للاشتباه به، قبل تدخل دورية من جهاز امني آخر لحمايته. أما نائب المستقبل المولج بملف عرسال جمال الجراح فقد صرّح لقناة LBC في 16 حزيران 2013 بأنه لا وجود لجبهة النصرة في عرسال، ملاقياً مطالب اللواء أشرف ريفي بالتفاوض مع الارهابيين واعتبر منع الجيش من المواجهة "انقاذاً للبنان من الفتنة".
تبين لاحقاً أن المذكورين كانوا مشاركين في نقل المساعدات والتموين للمسلحين بحجة المخيمات، وظهر الشيخ الرافعي لاحقاً في تسجيل فيديو إلى جانب أبو مالك التلي وأبو طاقية يتشاورون في القتال ضد الجيش. وصار رئيس بلدية عرسال علي الحجيري -أبو عجينة- نجم القنوات التلفزيونية يهدد بسيطرة المسلحين على سهل البقاع خلال ساعات و"ربط القلمون السوري بمدينة طرابلس اللبنانية الساحلية" وضيفاً عزيزاً لدى الرئيس الحريري، والدكتور جعجع الذي قال آنذاك: "داعش كذبة كبيرة ولا تمثل خطراً على المنطقة"، (ضمن حملة ممنهجة خاضتها قوى ١٤ آذار لتكذيب معلومات وزير الدفاع اللبناني آنذاك فايز غصن الذي حذر من وجود القاعدة في عرسال) فيما كان فريق قناة الـMTV يجول مع الشيخ مصطفي الحجيري ومسلحي "الكتيبة الخضراء" داخل معقله في عرسال ويبث رسائله التهديدية على الهواء مباشرة من أمام مشفى المسلحين الميداني في عرسال بكل أريحية! (هل كانت قناة المنار لتجرؤ حينها أن تزور عرسال وتبقى رؤوسُ مراسليها على أكتافهم؟)
نجحت جهود فريق 14 آذار في تكبيل الجيش اللبناني بقرارٍ من رئيس الحكومة تمام سلام وبموافقة ضمنية من قائد الجيش جان قهوجي الطامح للرئاسة والحريص على رضا السفير السعودي (استضافه في منزله محتفلاً فيما كان عسكريوه تحت سكين الذبح)، حتى بلغت إهانة الجيش اللبناني وتقييده حداً لم يُسمح فيه لضباطه وعناصره أن يطلقوا رصاصةً على آليات يرونها بأم أعينهم يقودها عناصر جبهة النصرة مقابل مواقع الجيش في عرسال، وقد رد الجيش بعد سنوات على ذلك بعدم توجيه دعوات لحضور مراسم تشييع الشهداء إلى رئيس الحكومة ومن كان في موقع المسؤولية خلال تلك الفترة.
على الجهة المقابلة كان موقف حزب الله مغايراً كلياً إذ أعلن قرارَه بتحرير سلسلة لبنان الشرقية ببيان صادر عن غرفة عمليات المقاومة في حزيران يونيو 2014، تبعه إطلاله الأمين العام لحزب الله متوعداً الإرهابيين "أيدينا ستطالكم" ولم تمضِ أيام حتى دوى انفجار ضخم في عمق مناطق المسلحين بالقلمون الغربي نسف المقر المسؤول عن إرسال الانتحاريين الى بيروت والبقاع وسواه بالأرض مؤذناً ببدء عملية عسكرية معقدة استمرت لثلاث سنوات ترافقت مع جهد أمني حثيث لجهاز أمن المقاومة الذي نجح بالتعاون مع القوى الأمنية في كشف العديد من السيارات المعدة للتفجير أو السيارات القادمة عبر الحدود وتم تسليمها للجيش اللبناني، كما أُلقي القبض على عدد من ناقلي الانتحاريين والمفخخات كجمانة حميد، والشيخ عمر الأطرش، وابراهيم رايد وحسن أمون، عند مداخل عرسال ومناطق أخرى متفرقة.
***
كانت مناطق انتشار الإرهابيين، قبيل انطلاق المرحلة الأولى من العمليات في صيف 2014، تمتد من عرسال عبر السلسلة الشرقية إلى الزبداني ووادي بردى فالغوطة الشرقية المفتوحة على البادية والحدود السورية – الأردنية. بدأت  من "إصبع الطفيل" للسيطرة على "خط الرؤوس" أي خط الحدود الدولية الممتد على طول السلسة الشرقية الذي يعطي المسلحين إمكانية الإشراف على البقاع اللبناني والقلمون السوري وقد نجحت المقاومة خلال أربعة أيام من عمليات التسلل الليلي والتقدم الصامت في قطع الصلة بين عرسال والغوطة الشرقية عبر وادي بردى، ونتيجة لهجمات المقاومة من الجهة اللبنانية على 32 موقعاً مشرفاً على منطقة بعلبك (الخشعات، عقبة البيضا، عقبة الزيتونة وأرض الكشك وراس وادي الهوا..) سقطت 28 نقطة رغم صعوبة التنفس لدى بعض المقاتلين غير المعتادين على التحرك في مناطق يزيد ارتفاعها عن 2500 متر.
ازدادت الصعوبات في المرحلة الثانية والأقسى من العمليات مطلع شتاء 2015 في أعالي السلسلة الشرقية حيث تدنت الحرارة لتلامس الـ20 درجة تحت الصفر، وتتسبب  للقوات المتمركزة بحالات حروق الصقيع، وبتر الأصابع، وتمزق الرئة، وفقدان البصر، وعزل المواقع المتقدمة وقطع الامدادات اللوجستية عنها، وتجمد مياه المقاتلين فيما كان اللبنانيون بكافة أطيافهم ينعمون بشتاءٍ هادئٍ، وقد تمكنت المقاومة في الشق الأول من العملية من تطهير جرد بعلبك كاملاً في جبهة عرضها 28 كيلومتراً يتحصن في مغاورها وكهوفها  ثلاثة آلاف من إرهابيي جبهة النصرة، وسرايا أهل الشام، ممن يحظون بدعم مادي وبشري من مخيمات اللجوء في عرسال. حررت العملية 500 كيلومتراً مربعاً وأبعدت التهديد الأمني عن قرى بعلبك بعد السيطرة على مواقع الارهابيين وورش التفخيخ والسيارات المفخخة. في الشق الثاني: تم تأمين جرد يونين - نحلة بعد حصر الإرهابيين في جرد عرسال، كما والاشراف على سهل الرهوة وقطع مثلث وادي الخيل وإغلاق معابر الموت بشكل شبه كلي. تأخرت المرحلة الثالثة من العمليات بسبب عمليات الزبداني عام 2016 لكن عام 2017 كان عام الحسم. فالهاجس الرئيس لدى قيادة المقاومة كان منع اندفاع المسلحين باتجاه اللبوة وقرى الجوار في حال مهاجمتهم، فتم تعزيز مواقع المقاومة خلف مواقع الجيش تحسباً لعدم قدرة الأخيرة على الصمود ولدعمها عند اللزوم واتخذ القرار ببدء العملية باتجاه مواقع جبهة النصرة أولاً وإنهاء وجودها كلياً والكشف عن مصير العسكريين اللبنانيين المختطفين وأسرى المقاومة في عرسال لكن المخيمات كانت العائق الأكبر بسبب إصرار السيد نصرالله على عدم استعمال القوة النارية في محيط المخيمات حتى لو أطلقت النار من داخلها. وفي 20 تموز 2017 بدأت مواقع جبهة النصرة تتهاوى أمام المقاومة حتى تاريخ وقف إطلاق النار في 25 تموز بعد طلب التفاوض، لكن المسلحين عادوا فتصلبوا في مواقفهم بعد أسر 3 مقاومين خلال فترة وقف إطلاق النار فأُعيد حشد القوات وتجهيز قواعد النار وانضمت القوات القادمة من القلمون بعد سقوط النقاط الحاكمة إلى القوات المتمركزة في محيط عرسال ما أشعرَ أبا مالك التلي بالهزيمة واضطره للرضوخ لشروط لجنة الوساطة بتسليم أسرى الجيش اللبناني والمقاومة.
قاتلت المقاومة لثلاث سنوات لتحرير الجرود ودفعت عشرات الشهداء فيما الوطن كله يتفرج بصمت، ودون أي تدخل من الجيش اللبناني الذي اقتصر دوره على استلام المعابر والمواقع بعد تحريرها وتأمين محيطها. بل وحافظ الجيش على حياده خلال المرحلة الأولى من عملية تحرير جرود عرسال رغم تماس مواقعه مع الإرهابيين بسبب القرار الرسمي بعدم المواجهة.
لكن بمجرد الانتصار على جبهة النصرة وإعلان المقاومة بدء عملية "وإن عدتم عدنا" لدحر داعش أبدت قيادة الجيش رغبتها بالمشاركة بعد تبلور توجه سياسي لقطف ثمار النصر في اللحظة الأخيرة، فتم تنسيق مشاركة الجيش لكن دون اشتباك فعلي مع داعش بسبب انسحاب مجموعات داعش إلى أعالي "تلال حليمة قارة" شديدة الوعورة داخل الأراضي السورية حيث حاصرتهم المقاومة مع عوائلهم، وباتت المقاومة أمام خيارين:
الأول: المضي قدماً في العملية بالهجوم على موقع مغلق لا مجال للعدو فيه للفرار وهو خلاف أي منطق عسكري لأنه يعني استبسال العدو في الدفاع عن النفس وعن العائلات، وبالتالي دفع المقاومة لفاتورة دم عالية من عناصرها وتقديم مادة إعلامية دسمة لرعاة الإرهاب لاتهام المقاومة بقصف أماكن تواجد المدنيين.
الثاني: التفاوض لتحصيل ثلاثة مكاسب هامة هي:
إستعادة جثامين جنود الجيش اللبناني الذين أُعدموا بعد اختطافهم خلال غزوة عرسال.
 استعادة أسرى وجثامين مقاومين استشهدوا خلال العمليات.
إجبار المسلحين، والقوى السياسية الداعمة لهم، على إخلاء مخيمات عرسال التي باتت عبئاً أمنياً على الوطن (عبر حافلات أرسلتها الحكومة السورية على نفقتها مُكذبةً السردية القائلة بأن سوريا تمانع عودة النازحين).
هنا استقر الرأي على الخيار الثاني مع إبقاء خيار القوة مطروحاً، وهنا عمد الانتهازيون لتخوين المقاومة واتهامها بتهريب مقاتلي وعوائل تنظيمي داعش والنصرة في باصات مكيفة إلى البوكمال وإدلب دون أي احترام لدماء عشرات الشهداء الذين ارتقوا في المواجهات، ثم عادوا بعد أشهر فقط لانتقاد المقاومة بسبب ملاحقتها فلول الارهابيين في البوكمال وإدلب وتباكوا على "مدنيي" إدلب رافعين لافتات "إدلب تحترق".!
لقد نجح حزب الله في نهاية المطاف بفرض شروطه على تنظيمي داعش والنصرة وتدمير قاعدتهما اللوجستية عند الحدود اللبنانية السورية، ونجح بالدرجة الأولى في ما عجزت عنه الدولة حين تخلت عن مسؤولياتها في كشف مصير عناصر الجيش اللبناني واستعادة جثامينهم واغلاق معابر الموت الحدودية وتحرير الجرود وتأمين قرى البقاع، لكن جميع من شاركوا في تلك الجريمة الوطنية ما زالوا خارج القضبان دون محاسبة، بل ويمتنهنون المزاودة "من تحت المكيّف" ويُنظّرون من بعيد على من دفع الدم.

"

كاتب لبناني