Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

عندما وقفت على خشبة مسرح بيروت كحكواتيةٍ للمرة الأولى، كان ذلك منذ عقدٍ ونيّف. انتهى العرض، خرج الجمهور من المسرح مصفقين مبتهجين، خرجوا جميعاً، وبقيت وحدي على الخشبة. سكونٌ عاد صداه إلى مسامعي مرتطماً بالمقاعد الخالية والجدران الفارغة، لأكون آخر من يخرج من خيالات الحكاية إلى واقع الحياة، ولعلني لم أخرج حتى اللحظة.

سارة قصير

قصة الحكواتي: عرض أخير

"

عندما وقفت على خشبة مسرح بيروت كحكواتيةٍ للمرة الأولى، كان ذلك منذ عقدٍ ونيّف. انتهى العرض، خرج الجمهور من المسرح مصفقين مبتهجين، خرجوا جميعاً، وبقيت وحدي على الخشبة. سكونٌ عاد صداه إلى مسامعي مرتطماً بالمقاعد الخالية والجدران الفارغة، لأكون آخر من يخرج من خيالات الحكاية إلى واقع الحياة، ولعلني لم أخرج حتى اللحظة.

كان الحكواتي هو السامري (من السمَر) الذي يؤنس ليل الناس، تراه في الساحة والشارع واقفاً. وإذا ما انتهى من سرده لا يشعر بسكون المكان ووحدته، فوجود المارة وحركتهم كفيل باستمرار الحياة بالنسبة له. في القديم، لم يكن الحكواتي ليحتاج مجهوداً كبيراً لجمع الناس، كما لم يكن يحتاج لموعدٍ مسبقٍ لينتظره الجمهور كي يستمع لعرضٍ قصير ويرحل. كان ابن الناس، يلتقيهم بعد الانتهاء من حكايتة. يجتمعون حوله الحكواتي كل ليلة، وفي بعض الأحيان يلتقيهم نهاراً. يحكي لساعات تمتد للفجر أو للغروب، ولم تكن لتجد من يترك الساحة قبله، بل كان هو أول المعلنين انتهاء السمر فيتتبعه بعضهم إلى باب البيت ليكمل لهم ما حل ببطلهم.

لكن المسألة باتت معكوسة اليوم، فالتوقيت المحدود، والمكان المحدود، والعدد المحدود أيضاً، وأما الناس فهم أول تاركي المكان ليبقى الحكواتي، وحده. فما الذي حصل حتى اختفى الحكواتي من الساحة، ولما اضطرنا أن نقيم له مواعيد محجوزة مسبقاً؛ نشاهده في عروض داخل علب مغلقة، حيث لا سبيل إلا بالبحث عن باب المخرج للعودة إلى الحياة؟ هل كرهه الناس فهجروه أم وجدوا أحداً غيره يقاسمهم السمر والكذب؟

قد تكون كلمة الكذب هنا فجّة غير مستأنَسة، إلا أنّ لهذه التهمة حكاية طويلة وفلسفة خاصة.

تخبر إحدى الحكايات عن شخصين عاشا معاً في نفس القرية، كان للأول أصدقاء كثيرون، أما الثاني فلم يكن لديه أي صديق، بل وأكثر من ذلك كان الناس عندما يرونه يهربون منه ويتجنبون لقاءه. الأول كان الحكاية والثاني كان الحقيقة. ينفر الناس من الحقيقة، تؤلمهم، يهربون منها، يلجأون إلى من يخفف عنهم حدة الحقيقة وبشاعتها. قليلون هم المتقبلون للحقيقة عارية كما هي.

في نهاية القصة تضطر الحقيقة العارية أن تلبس من لباس الحكاية، فتختار من خزانة الأخيرة ما يليق ومقاسها. أحبها الناس بعد ذلك؛ إذا أردت أن تقول حقيقةً ما فألبسها من لباس الحكاية، لتخفف من وطأة الحقيقة، مفاد القصة.

لعل هذه الحكاية تلطف واقع ما اتهمّ به الحكواتي عبر العصور، وهو الكذب. الفترة الوحيدة التي كان يمكن بُرأّ الحكواتي فيها من تهمة الكذب كانت في المرحلة الأولى للإسلام. لقد حمل الدين الجديد رؤية مغايرة للقصة، وجعلها نموذجاً أخلاقياً رفيعاً وحث على روايتها. وبتسييل الوعظ القرآني، كان يمكن أن يصبح الحكواتي من علائم الوعظ الديني وللسرد التاريخي، بعيداً عن فخ الكذب السياسي والإعلامي، لكن المتوخى سرعان ما أفل مع طغيان السياسي على ما سواه.

 فعقب العصر الأموي، طرد العباسيون الحكواتي من المسجد لاتهامه بالكذب وأصبحت الصفة اللصيقة به" القاص الكذاب"، فقد حمّل الحكامُ آنذاك الحكواتي - الذي كان اسمه القصاص في وقتها - مهمة الدعاية السياسية الترويجية لأفعالهم وغزواتهم وأمجادهم. فأصبح الحكواتي سواء في البلاط أو في المسجد بوقاً إعلامياً للحكام، قبل أن يكتشف الناس كذبه ويطردوه من يومياتهم.

لم تكن حادثة طرده هذه إلا سبيلاً لخروجه من الأماكن المغلقة. وبالرغم من أنهم استنكروا كذبه إلا أنهم احتضنوه بشكلٍ جديدٍ من الكذب، يوم عاد إلى الشارع. ثم ازدهر حضوره بينهم وبات له شعبيةٌ واسعة، حتى قالت الكتب أنّ شوراع بغداد وأزقتها كادت تضج بالحكواتيين لكثرتهم ولجمهرة الناس حولهم، وقد قيل أيضاً في العصر العباسي أنه كان لا ينافس علماء الدين إلا الحكواتيين. فالحكواتي لم يعد يومها إلى الشارع ليقول الحقيقة بل ليستمر بالكذب بحسب أهواء الناس ومتعهم. فكُتبت له ألف ليلة وليلة والمقامات والسير الهلالية، وأكمل بحكايات من نسج الخيال ببطولاتٍ عنترية وأحلامٍ شهريارية وثوراتٍ زيبقية.

في هذه الفترة ومع الوقت، استطاع الحكواتي الوصول إلى صيغة وسطية بين الكذب والخيال، فلا حكاية دون خيال والخيال حدٌ رفيع بين الفن والكذب، فبات الناس يعرفون أن ما يحكى أمامهم ليس بحقيقة ولكنه يمتعهم، يشحن هممهم، ويعيد إليهم أمجادهم.

ومنذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، يستمر الحكواتي بخياله. في مهرجانات الحكاية، يقيم الحكواتيون سهرة ختامية تحت عنوان سهرة الكذابين، ترتكز على الارتجال وتركيب الأحداث والشخصيات بشكل آني مباشر. يضحكون، يصفقون، وهم يعلمون أن ما يقولونه محض خيال وخرافات، وهذا بيت القصيد. كذب الحكواتي على الناس يوماً وهم جاهلون بكذبه فطردوه، كذب الحكواتي على الناس يوماً وهم عارفون بكذبه فأحبوه. يحب الناس من يكذب عليهم، ولكن ضمن عقدٍ ضمنٍي غير علني، يتواطأ فيه الطرفان لغاياتهما، ككل أعمال المحاكاة والتمثيل والتقليد، لذلك ترى حكواتي اليوم والتاريخ الحديث يقول في بداية حكايته الجملة الشهيرة "كان يا ما كان". جملةٌ كافيةٌ ليرمي بذلك عن عاتقه مسؤولية كذبه، فهو غير متيقن من حدوث القصة أو عدمها، وهذا ما كان على عكس سلفه في التاريخ القديم حيث كان يفتتح العرض بإلقاء التحية ومن ثمّ على اسم الله ونبيه يبدأ دون اكتراث من تبرئة نفسه.

عاد الحكواتي اليوم، غريباً، لا الشارع بيته ولا القهوة استراحته. يتعرف عليه الجمهور من جديد، يستمعون له لساعةٍ وقليل، ومن ثم يرحلون، ليشاهدوا حكواتياً آخر بطراز مختلف. عاد الحكواتي اليوم وهو متخلٍ عن كل الكذب السيء الذي التصق به، مستعيناً بالخراريف المفضوحة، مبتسماً للجمهور حين تحلو الخرافة وتحلق، والجمهور يرد له الابتسامة دون تردد. عاد ليعيد لنا ذاكرة الأجداد وينقل لنا حكايات الناس وواقعها، بصدق مشاعرهم وأوجاعهم، ويرسم لنا مخيالاً سحرياً كنا قد فقدناه. ورغم كل ما اتهم به من كذب إلا أنه كان الأصدق، الأصدق في انعكاس هموم الناس ومخاوفهم وأحلامهم في مرآة الحكاية، الأصدق في تسلية ليل الناس دون أذيتهم، والأصدق في الإبقاء على وقود ذاكرتهم المتطايرة في الهواء. ومع ذلك عاد الحكواتي، ولكننا إلى اليوم لم نعيده إلى شارعنا، وربما لن نعيده. لما؟

لأننا استقبلنا بدلاً منه حكواتيين جدد، يكذبون علينا كل يوم في التلفاز والراديو والشاشات الذكية، فتغيرت المعادلة. نحن لا نريد أن نعرف إن كانوا يكذبون أو لا، نحن فقط نريد أن نبقيهم في بيوتنا كي لا يعود الحكواتي الصادق الى الشارع.

"

فنانة، وحكواتية لبنانية