Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يمكننا هنا الاستعانة بمفهوم شكل الحياة (Lebensform) للودفيغ فيتغنشتاين في محاولة فهم الطائفية. إننا نجد أنفسنا في سياقات مختلفة للحياة الاجتماعية، أعضاء في عائلات، وعاملون في مهننا، وجيران لآخرين وهلم. سياقات اجتماعية مختلفة ينتظم كل منها بقواعد خاصة به.

موريس عايق

في فهم الطائفية

"

ينطلق الفهم (العامي) الأكثر شيوعاً للمسألة الطائفية من بداهة وجود جماعات واضحة ومحددة هي الطوائف، الجماعات التي نحيا فيها وننتمي إليها. بدوره، يحدد هذا الانتماء موقعنا سواء بالنسبة إلى الدولة أو إلى الجماعات (الطوائف) الأخرى. قد تتعايش الطوائف مع بعضها أو قد تتصارع فيما بينها، كما قد تتغير تحالفاتها مع الوقت، غير أن الأساسي والراسخ هو الجماعة والانتماء إليها، فالطائفة هي الانتماء الأولي الذي ننطلق منه. وفي المشرق ينتظم البشر في طوائف، وكل ما عداها ليس إلا هويات فوقية ليست راسخة أو أصيلة، سواء كانت هوية وطنية أو قومية أو طبقية.

تعرض هذا الفهم العامي لنقد واسع ومتعدد المصادر، فقد أُخذت عليه جوهرانيته ولاتاريخيته ومجافاته للوقائع التاريخية. فسعى النقد الماركسي إلى تقديم تفسيرات مغايرة للوعي الطائفي وللطوائف كوقائع اجتماعية. فكانت، مثلاً، محاولة ربط الطائفة بطريقة ما بالطبقة، وبالتالي اكتشاف بعد طبقي مخفي داخل الصراع الطائفي. وقد سمح وجود طوائف مهمشة من قبل النظام الاجتماعي - السياسي بالادعاء أن هذه الطوائف لها وضعية شبيهة بالطبقة داخل هذا النظام (طائفة - طبقة). من جانب آخر نُظر إلى الوعي الطائفي بوصفه شكلاً تاريخياً محدداً لحركة الصراع الطبقي في شروط البنية البرجوازية الكولونيالية (مهدي عامل)، وبهذا تكون الطائفية وعي مزيف يخفي سيطرة البرجوازية. كانت الغاية من النقد الماركسي الوصول للمستوى الحقيقي للواقع والمتمثل بالطبقة والصراع الطبقي خلف الطائفة كجماعة، وكشف الطائفية كوعي مزيف يؤمن هيمنة البرجوازية.

في مقابل النقد الماركسي للطائفية تبلور، وانطلاقاً من زاوية مغايرة، نقد جديد يعتبر الطائفية استراتيجية سياسية، تشكيل خطابي بهدف الهيمنة يتم عبره اختراع (أو تخيّل) الطائفة. عندها تصبح الطائفية نقطة البداية في تخيّل الطائفة كجماعة سياسية. يمكن النظر إلى عمل أسامة مقدسي "ثقافة الطائفية" كنموذج لهذا التحليل. لا تختلف نتائج النقد الآخر كثيراً عن الماركسية برغم تغيير المنظور، فلا يعود هناك مستوى نهائي للتحليل يتجلى الواقع الحقيقي من خلاله، بل عملية تشكيل خطابي توجد السلطة (وبالتالي السياسي) في مركزها تقوم بتخيل وصناعة جماعات هوية مثل الطائفة.

في التحليلين لا تعود الطائفة واضحة وبديهية في ذاتها، سواء أكانت تخفي الصراع الطبقي القابع ورائها بحسب النقد الماركسي، أو تخيّل يقوم به السياسي بحسب النقد الخطابي.

غير أن هناك شيء من القصور يلف هذين النقدين بما يبرر لشيء من إعادة الاعتبار لجوانب من الفهم العامي للطائفية. فهم لم يخبرونا في النهاية ما طبيعة الطائفة، ولم يفسروا صلابة الانتماء الطائفي ورجاحته بين خيارات عديدة ممكنة لتخيّل هويات اجتماعية. غير أن هناك مسألتان تستحقان التوقف عندهما خصوصاً. الأولى، كون الطائفية متخيل سياسي، أو وعي مزيف، فإن النضال السياسي خليق بالكشف عن المحتوى الحقيقي للصراع، كما أن امتلاك سلطة سياسية (الدولة مثلاً) يفترض أن يمكننا من تحطيم الطائفية وهزيمتها. غير أن الذي حصل هو العكس، فترسخت الطائفية بشكل كبير في ظل أنظمة تصرح بعلمانيتها مثل نظامي البعث في سوريا والعراق. الثانية، فقر الممارسة السياسية المترتبة على هذا النقد، حيث يبدو عاجزاً عن تقديم فهم وتوقع مفيد ودقيق عن تطور الأمور والأحوال، في حين أن الانطلاق من الفهم العامي للطائفية يسمح وبشكل أفضل بتوقع سلوك الفاعلين وخياراتهم وكيفية تطور النزاعات.

يمكننا هنا الاستعانة بمفهوم شكل الحياة (Lebensform) للودفيغ فيتغنشتاين في محاولة فهم الطائفية. إننا نجد أنفسنا في سياقات مختلفة للحياة الاجتماعية، أعضاء في عائلات، وعاملون في مهننا، وجيران لآخرين وهلم. سياقات اجتماعية مختلفة ينتظم كل منها بقواعد خاصة به. ففي عملي التزم بقواعد تحدد سلوكي المتوقع مني تجاه الآخرين، والحال نفسه بالنسبة للآخرين الذين يلتزمون بهذه القواعد في علاقتهم معي. هذه القواعد تحدد السلوك الاجتماعي وتعرفه في الوقت نفسه. كما أنها قواعد اجتماعية وليست فردية، تشترط تحققها في ممارسات الآخرين. تنظم هذه القواعد السلوك مؤمنةً أفقاً للتوقعات حول سلوك الآخرين، توقعات تقوم على مجموعة من الصور النمطية المستندة إلى الخبرة. بدون هذ القواعد تغدو الحياة مستحيلة.

هناك العديد من الألعاب (أو السياقات الاجتماعية) المُنظمة بقواعد متنوعة، لكنها جميعها تستند في النهاية على شكل معين للحياة هو مجموع هذه السياقات والقواعد الناظمة للسلوك، كشكل من أشكال مختلفة. فالقواعد التي تنظم علاقات الرجال بالنساء أو الجيران تختلف بين لبنان وألمانيا كونها تحيل إلى أشكال مختلفة من الحياة.

الطائفية هي شكل للحياة، شكل تقوم عليه سياقات اجتماعية مختلفة تنظمها قواعد تعود جميعها في النهاية إلى "الطائفة" كشكل للحياة. تتجلى محورية الطائفة بوصفها شكل حياة في المجال الشخصي والحميمي لإعادة إنتاج الحياة. حيث ترسم الطائفة حدود المجال الشخصي لأبنائها عبر: الزواج من داخل الطائفة، والأحياء المتجانسة وعلاقات الصداقة والجيرة، والورثة وقربى الدم. هذا المجال للخبرة اليومية والمباشرة مؤطر بحدود الطائفة بوصفها جماعة انتماء. فالطائفة هي الخبرة الأولى والمباشرة واليومية التي ننشأ عليها ونتربى في إطارها. هي ثقافة الأم، لكنها بالمقابل ثقافة الأم الممأسة (فهذه الخبرة لا تقوم فقط على الخبرة الاجتماعية بل تترافق مع وضعية قانونية ومؤسسية) والتي تم إعادة تنظيم المجال العام، والدولة ضمناً، على أساسها.

لقد أصاب الملة العثمانية تحول أساسي بظهور المجال السياسي الحديث والسياسات الجماهيرية، فتحولت معها إلى جماعة سياسية – وهذا كان مجرد خيار ضمن خيارات أخرى ممكنة نظرياً - تؤمن مدخلاً للمجال العام وأساساً في تحديد شكل الصراع. لكن نجاح الهوية الطائفية في مقابل الهويات الأخرى يجد جذوره في احتكار الطائفة لإعادة إنتاج الحياة اليومية وخبرتها، أي بوصفها شكل الحياة الذي نتعرف من خلاله على أنفسنا منذ البداية ونستقي منه القواعد والتوقعات والخبرة التي نحملها تجاه الآخرين، وخاصة أن هذا المجال اليومي لثقافة الأم تم تحصينه – وأيضاً منذ بدء الإصلاحات - والاعتراف به قانونياً، وربما لم يكن هناك خيار آخر ممكن، فتحطيم هذا المجال كان يفترض إصلاحات أكثر راديكالية بكثير مما كان متاحاً ومتخيلاً.

اعتبار الطائفة هي شكل حياة، والطائفية هي ثقافة الأم التي يُستند إليها يفسر لماذا فشلت المحاولات التي سعت إلى تجاوز الطائفية باعتبارها تزييف، أو توسلاً بالسياسي. فالمجال الأساسي للطائفية والمتمثل بالحياة اليومية وإنتاجها بقي بعيداً عن تدخل السياسي الذي كانت أقصى محاولته "الفصل" الحقوقي بين العام والخاص دون المساس بهيمنة الطائفة على الأخير. وقد فشل حتى في تأمين هذا الفصل لإهماله القواعد المتوقعة من الجميع والمستندة إلى خبرة الحياة الطائفية.

إن الخيار الذي يُطرح لتجاوز الطائفية عبر كشف حقيقة طبقية أو توسل ثقافة مواطنة يبقى محكوماً بالفشل في الأمد القريب والمتوسط لتجاهله انغراس الثقافة الطائفية واحتكارها لخبرة الحياة اليومية. الأمر الذي شهدناه في سوريا والعراق، وسبق وشهدناه في الحروب الأهلية اللبنانية. واقع يمكن التعرف عليه مباشرة عبر السؤال البسيط والواضح، هل قانون انتخابي مدني وغير طائفي سيُبعد الناخبين عن "الانتخاب الطائفي"؟ كلنا يعرف أن الإجابة هي بالنفي، وبما أن الجميع يتوقع هذه الإجابة وسيتصرف على أساسها فإنه سينتخب طائفياً (ويصبح السؤال وإجابته نبوءة ذاتية التحقق) أو سيتم رفض القانون من البداية.

بالمقابل، هل علينا أن نقبل أن الطوائف قدر، وهي الشكل الحقيقي للصراع؟ أيضاً لا يبدو أن هذا خيار جدي، وقد سبق ودفعنا جميعنا ثمنه حروب أهلية دموية. وهنا يمكن للنقد التاريخي الذي يظهر الطبيعة التاريخية لتشكل الطوائف وصراعها أن يفيدنا في تكفيك زيف هذا التصور.

الخيار المتاح هو عدم إنكار أن الطائفية بعدٌ من أبعاد الصراع، بعدٌ لا يمكن إهماله أو ردّه لبعد أكثر حقيقية منه. بالمقابل فإن الطائفية ليست البعد الوحيد للصراع وهي، مثل غيرها، شكل تاريخي للحياة يمكن تجاوزه. لكن تجاوزها لن يتم باغفالها والقفز فوقها، خاصة أنها شكل الحياة المركزي الذي نستمد منه توقعاتنا ومتخيلاتنا وصورنا النمطية التي نتصرف على أساسها ونؤول تصرفات الآخرين.

"

باحث سوري