Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

إن وجود الولايات المتحدة كشرطي للعالم يعني ضمناً تركيزاً معيناً للسلطة والقوة، لكن تاريخها أيضاً يشير إلى تفرق السلطة بين الأثرياء وذوي النفوذ. والنقطة الثانية على نفس القدر من أهمية النقطة الأولى. فقد نشأ تفرق السلطة من صعود سياسة الأطراف المتعددة.

بيتر غران

في البحث عن تاريخ جديد للولايات المتحدة

"

*يحاول بيتر غران من خلال نصه هذا (وهو نص ضمن مجموعة نصوص ستُنشر بالتتالي) إعادة رسم معالم جديدة للتاريخ الإمبراطوري الأميركي، والغاية من نشر هذه النصوص تعريف عموم الجمهور بأفكار هذا المؤرخ الجديرة بالانتباه. وإذ تشكر الخندق له حسن تعاونه، فإنها تعد جمهورها بإجراء حوار خاص مع الكاتب فور نشر كل نصوصه الخاصة بالتاريخ الأميركي.

***

إن وجود الولايات المتحدة كشرطي للعالم يعني ضمناً تركيزاً معيناً للسلطة والقوة، لكن تاريخها أيضاً يشير إلى تفرق السلطة بين الأثرياء وذوي النفوذ. والنقطة الثانية على نفس القدر من أهمية النقطة الأولى. فقد نشأ تفرق السلطة من صعود سياسة الأطراف المتعددة. وفي النهاية أدى ذلك كله إلى تغلغل الدول الإمبريالية الكبرى في بلدان كثيرة. هذا التغلغل بدوره أدى إلى تصاعد المعارضة لسياسة العلاقات متعددة الأطراف بحدة بالغة في الدول الإمبريالية الكبرى، الأمر الذي ساهم في تحول الحكومة نحو الاعتماد المتزايد على الحكم بقانون الطوارئ.

نشأ تفرق القوة من صعود العلاقات متعددة الأطراف. وهو في الواقع نتيجة منطقية لتاريخ السنوات المائة والخمسين الأخيرة. بداية من القرن التاسع عشر، عندما تزايد التعاون بين هياكل السلطة لدعم السوق، أصبحت السلطة متفرقة بشكل متزايد بين عناصرها السائدة. وبمرور الوقت، اكتسبت العناصر السائدة في دول الأطراف، فقط نتيجة عددها، وتنوعها الثقافي، وانتشارها الجغرافي، اكتسبت القدرة على التأثير حتى في بلدان المركز التي هي تقليدياً أكثر قوة. وكان هذا ثابتاً في النضال المضاد للاستعمار، ولكنه لم ينته عند ذلك. إن صعود عدد من البلدان في شرق آسيا وجنوب آسيا في سنوات تالية يمكن تقديمه كنموذج آخر لعواقب تفرق السلطة. لم يكن صعود تلك البلدان ممكناً تحت ظروف العلاقات الثنائية القديمة في أوائل القرن التاسع عشر. وتشهد حالة محمد علي في مصر على هذه الحقيقة. في تلك الفترة من التاريخ، لم يكن الاختيار ممكناً. وكان الأمر الذي تسبب في تغيير الأحوال راجع إلى متطلبات الجغرافيا السياسية لنظام الدولة القومية والتي جمعت مجموعة من الناس والمؤسسات يسعون جميعاً للسلطة بنفس الطريقة. وللوصول إلى النمو الاقتصادي الذي يرغبونه، اضطر هؤلاء الناس وتلك المؤسسات للدخول في علاقات وطيدة. وبعد قرن أو أكثر من هذا النوع من العلاقات، أصبح تفرق السلطة شيئاً مسلماً به بشكل متزايد. ووجدت الصناعات الغربية من مصالحها أن تنتقل بشكل متزايد إلى العالم الثالث، ووجدت الحكومات الغربية أنها، بشكل متزايد، من مصلحتها قبول مهاجرين من العالم الثالث. وبحلول سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته وما تلاهما، كان نتيجة ذلك أن البلدان الغربية تحولت إلى حالات لا تصنيعية مترافقة، بالإضافة إلى صعود رأسمالية مالية كوكبية، وتنامي تغلغل المصالح الأجنبية في العواصم الإمبريالية.

كيف حدث هذا التغلغل في الاقتصاد السياسي الأميركي؟.على من يستطيع الأجنب الاعتماد؟ رغم أنه لا شك أن كل حالة لها ملامحها الخاصة، فقد كان ثمة أهمية لصعود مؤسسة جديدة داخل هيكل السلطة الأميركي، وهي أعضاء جماعات الضغط الأجنبية. وعضو جماعة الضغط الأجنبية أو اللوبي الأجنبي وهو الرجل الجديد الذي استطاع الوصول، والذي يعتبر الآن قانونياً؛ ففي وقتنا هذا، أصبح الفساد والتراكم الأولي أكثر تستراً. ويبدو أن هناك أشياء كثيرة تتبع هذا التطور. وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، أصبح عضو اللوبي وسيلة بالغة الأهمية، ليس فقط للمعاملات داخل الطبقة الحاكمة، ولكن أيضاً لخلق منفذ إلى المجلس والدولة والحكومات المحلية للمصالح الأجنبية في الأماكن التي لم يكن لها وجود فيها من قبل. وقد لاحظ البعض أن اللوبي الأجنبي يختلف عن الشخصيات الأخرى التي تعمل أيضاً بوظيفة التوسط بين الأطراف، مثل السفير، ورجل البنك الدولي، والمحامي. فهو يعمل داخل الهيئة الرسمية في كل من السياسة والاقتصاد، ولكن بدرجة كبيرة بعيداً عن أنظار كل من الحكومة أو وسائل الإعلام. ومن المعقول أن نفترض أن صعود عضو اللوبي الأجنبي ساعد على حدوث بعض التغييرات الرئيسية في السنوات الأخيرة في بلدان مثل الولايات المتحدة، كما أسهم في خلق مناطق الحزام الصدئ Rust Belt Cities (تعبير غير رسمي لمنطقة في الشمال الشرقي وشرق أميركا، كانت تكثر فيها الصناعات حتى سُمّيت بالحزام الصلب، أو حزام المصانع، وأطلق عليها تسمية الحزام الصدئ بعد تفكيك الصناعة في المنطقة وتدهورها، وهجرة السكان منها نتيجة انتقال معظم الصناعة إلى شرق وجنوب شرق آسيا)، وانتقال الصناعة إلى مواقع جديدة.

وفي أعقاب هذه التغيرات، ونتيجة لها، تغيرت مواقع العمل في سوق العمل الأميركي إلى الجنوب والجنوب الغربي. وكان لذلك تأثير شديد على الطبقة الوسطى، والشريحة العليا من الطبقة العاملة. لقد جاءت القوة الدافعة لهذا التغير، في عدد من الصناعات المهمة مثل صناعة السيارات، حيث كان هذا التأثير ملحوظاً بشدة، من شرق آسيا. في تلك الفترة كانت اليابان وكوريا من بين أهم الأفراد التابعين لجماعات الضغط تلك.

إذا كان للتغلغل الأجنبي وقعه على سوق العمل القائم، فقد أثر أيضاً على سوق التوظيف المستقبلي نتيجة للمعاملات بما يسمح بنقل التكنولوجيا. كان نقل التكنولوجيا متركزاً بقوة منذ أواخر السبعينات وحتى أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وتسبب في محو قطاعات كاملة من الاقتصاد كان يعمل بها كثيرون وكان من المتنبأ لها أن تستم­ر في فعل ذلك.

ثمة حاجة لدراسة البلدان الصناعية وتغتغلها في الاقتصاد السياسي للولايات المتحدة، وصولاً إلى تغلغل دول العالم الثالث فيها. وهنا نجد نموذج المكسيك. استطاعت الطبقة الحاكمة في المكسيك، من خلال تحالفاتها، تطوير السلطة لإغراق الولايات المتحدة بالعمالة الزائدة لديها، وكذلك إقناع ملايين المكسيكيين بقبول فكرة الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة. ويبدو أن الولايات المتحدة وقفت عاجزة عن التصرف أمام هذا التكتيك. ورغم الرغبة في إمداد من العمالة الرخيصة، فمن الواضح أنها لا تشجع هجرة غير شرعية بلا حدود يزج بها عليها، ولكن حتى الآن لم تستطع أن تفعل الكثير لوقفها. لا تمتلك الولايات المتحدة القدرة على تنظيم تدفق الهجرة اليوم كما كانت تفعل في التاريخ، عندما كانت سياسة الأطراف المتعددة أقل تطوراً. وليس من المدهش أن الموضوع خلق مستوى غير مسبوق من المجادلات والنقاشات في المجتمع الأميركي.

 

عضو جماعة الضغط في واشنطن

هناك فصيلان من أعضاء جماعات الضغط الموجودة في واشنطن في السنوات الأخيرة. أولهما، أولئك المنغمسون في الأعمال المستترة، الذين يخدمون مصالح بريطانيا العظمى، والعربية السعودية، وإسرائيل، وبلدان أخرى لديها ما يطلق عليه علاقات خاصة. أما الثاني، فهم من يخدمون الباقين. وهؤلاء يعملون كممثلين لعناصر مهمة من جميع أنحاء العالم، ومن الخارج، لديهم مكانة جيدة وكثيراً ما ينجحون نجاحاً باهراً. وقد طورت حكومات أجنبية كثيرة، بالاعتماد على أعضاء جماعات الضغط الأجنبية، مقاربات مزدوجة للتعامل مع حكومة الولايات المتحدة، مقاربة تحدث على مستوى السفارة في واشنطن وأخرى تحدث على مستوى جماعات الضغط. تخدم السفارات الأجنبية المصالح القومية؛ وبالتالي فإن معاملاتها بشكل عام معروفة ومعلنة. أما المصالح الطبقية، فهي تتطلب درجة كبيرة من السرية، ونتيجة لذلك فنادراً ما تكون معلنة. وهناك مثال يحدث يومياً قد يجعلنا نفهم الفارق بوضوح. يوافق أحد السفراء على أن يجعل بلاده تنتج سلعاً لأحد البلدان الغربية. وأعلنت السفارة عن الصفقة لوسائل الإعلام. وبعيداً عن الإعلان والتسجيل، كان يجري أيضاً التخطيط لعمل اتفاق وهو أنه وافق على تخفيض أجور العمال. وفي المقابل، سيكون هناك بعض الفوائد الجانبية لحكومته. كيف تم التوصل إلى مثل هذا الترتيب؟. أنا أفترض أنه ربما تم ترتيبه في مكتب عضو اللوبي. هذا المكتب سوف يكون مكاناً آمناً سرياً، على عكس السفارة. ويمثل عضو اللوبي باباً خلفياً آمناً كشكل من أشكال الاتصال، شكل مفيد خاصة لتقوية مصالح الطبقة باعتبارها مناقضة للمصالح القومية.

ويعجب المرء بالطبع، ويتساءل عن مغزى ذلك؟ هل وجود التضامن بين الطبقات المتماثلة، وصفقات الباب الخلفي، يمكن أن يصنع فارقاً كافياً يضمن تغيراً في المنهج السائد في كتابة تاريخ العالم؟ الإجابة التي تقدم هنا هي: نعم. إن المصالح الطبقية تربح على حساب المصالح القومية في معظم الأوقات.    

"

مفكر ومستشرق أميركي