الأمر لا يتعلق بتداعيات فيروس كورونا السياسية والاقتصادية فحسب، ولا بالخوف من استمرار هذا الحجر الذي قد يستمرّ طويلاً كما يقول الخبراء الصحيّون، بل بالتوتر الحاصل في سياسية الإمبراطورية ضابطة العالم، وخوفها المتصاعد من الصين التي بدأت برفع حدّة تحذيرها من انجرار أميركا إلى خطوات غير محسوبة، أو 'الاقتراب من حرب باردة جديدة'"، وفق تصريح لوزير الخارجية الصيني وانغ يي."
عالمٌ غير متّزن
ثمة ضباب كثيف يخيّم على صورة العالم الذي كنا نعرفه. الأمر لا يتعلق بتداعيات فيروس كورونا السياسية والاقتصادية فحسب، ولا بالخوف من استمرار هذا الحجر الذي قد يستمرّ طويلاً كما يقول الخبراء الصحيّون، بل بالتوتر الحاصل في سياسية الإمبراطورية ضابطة العالم، وخوفها المتصاعد من الصين التي بدأت برفع حدّة تحذيرها من انجرار أميركا إلى خطوات غير محسوبة، أو "الاقتراب من حرب باردة جديدة"، وفق تصريح لوزير الخارجية الصيني وانغ يي.
هذه المرة كذلك، جرت الإشارة إلى دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، بأنهما المحرضان ضد خطر "الحزب الشيوعي الصيني"، وفتيلا الشر الذي بدأ بالاشتعال في شرق آسيا، لكن تصريحات المرشح الديمقراطي جو بايدن الأخيرة، والمنتقدة لترامب بسبب "صمته" إزاء قضايا حقوق الإنسان في الصين، وتآلفه مع الديكتاتوريين (في الصين) وتقاربه منهم، توحي بأن السباق بين الحزبين في استعداء الصين قد بدأ فعلاً، وأن الأشهر المقبلة ستكون ساخنة في ما يتعلق بوضع هونغ كونغ التي خضعت أخيراً للإرادة الصينية بموجب القانون الإداري والأمني الموحّد، وبتايوان التي ستكون هدفاً للجيش الصيني إن أقدمت بفعل التحريض الأميركي على الانفصال.
ما يضفي المزيد من الغموض على المتوقع، بوادر الانحلال الذي بدأ يظهر في الهيئات والمنظمات الدولية، والتشكيك بانحيازها إلى أحد "المعسكرات"، أو الاعتراف بفشلها في أداء مهامها بكفاءة، واندفاع إدارة ترامب إلى ما يسمّيه رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس، لتبنّي "مبدأ الإنسحاب"، بدلاً عن سياسية خارجية واضحة. فمن الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، والشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ، واتفاق باريس للمناخ، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واليونيسكو، ومنظمة الصحة العالمية بوصفها خادمةً لمصالح الصين، ومعاهدة الأجواء المفتوحة، وليس انتهاءً بالتهديد بالانسحاب من المعاهدة التجارية مع الصين.. يظهر انتهاء دور "الراعي" الأميركي لمؤسسات الهيمنة ذات الغطاء الدولي وانكفائها للسيطرة المباشرة المتمثلة بالضغوطات القصوى، والابتزاز الواضح، وبناء جدران تجاريّة بين شركاء الأمس.
أمّا أوروبا التي تواجه أزمة دستورية على ضوء الصّراع بين محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي والمحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية، حول سياسات البنك المركزي الأوروبي، فلا تزال تظهر عجزاً عن الذهاب بعيداً عن الحدود التي ترسمها الإدارة الأميركية، في وقت ترتفع فيه الأصوات المشككة بفاعلية الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات وتبعات فيروس كورونا.
دول الخليج هي الأخرى قد تعاني من المزيد من الانقسام في الأشهر المقبلة، فالاستقرار الذي كان يؤمنه الانتعاش المالي بسبب ارتفاع أسعار النفط، تبخر. اليمن بات مختبراً للتباينات الخليجية بعد إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات الحكم الذاتي في جنوب اليمن، وسط عجز التحالف عن حسم المعركة، فيما تشكل ليبيا ساحة للتنازع بين مصر والإمارات من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى.
ورغم الانقسام الحاصل، يبدو أن إيران وحلفائها قادرون على الاستفادة من الخلافات والتشتّت الذي أصاب المحور الأميركي الأوروبي في السنوات الأخيرة. سواء أتمثل ذلك من خلال دعوة السيد حسن نصر الله للتوجه شرقاً وتشبيك العلاقات مع سوريا والعراق والصين، والتلميح إلى كون ذلك صار معداً في خطة اقتصادية لم يكشف عنها الحزب بعد، أو من خلال الموافقة على وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة وزراء العراق، بهدف تأمين خطوط التبادل الاقتصادية بين العراق وإيران، وبالمثل يندرج كسر الحصار الإيراني على فنزويلا من خلال ناقلات النفط الخمس، نوعاً من "الجموح" الذي يعزّز التضامن بين الدول المتضررة من العقوبات الأميركية، ويرسم أفقاً أكبر من الانفتاح الإيراني على الدول اللاتينية المناهضة لأميركا.
تطوران مهمان منتظران، قد يساهمان في تسخين المنطقة خلال الأشهر المقبلة، الأول متمثل بتنفيذ قانون "قيصر" على سوريا وحلفائها، والذي يهدف إلى مفاقمة الأزمة الاقتصادية الواقعة أصلاً في البلاد، وإرباك الحكومة السورية، وتعطيل حظوظ تعافيها قريباً من دمار الحرب الهائل. أما التطور الآخر، فهو في الإعلان الإسرائيلي عن البدء بمشروع ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى الأراضي المحتلة، وذلك قبل أن تفوت "الفرضة التاريخية" وفق تعبير نتنياهو، أي الأشهر التي لا تزال أمام ترامب في ولايته الأولى.
الحدثان لا يبدوان منفصلين، ولا حملة الإشهار بالتطبيع مع "إسرائيل" التي تشهدها الدول العربية. إنه الحصار الأقصى من أجل تحقيق المكسب الأقصى، وهذه المرة مكسبٌ على حساب فلسطين وسائر الدول والشعوب غير المسلّمة بحتمية الهزيمة.
المشهد اللبناني ليس استثناءً، فالانقسام داخل التركيبة السياسية، بل داخل الأحزاب نفسها، بدأ يظهر بالتتابع؛ نتذكر هنا "القصف" الكلامي لزعيم حزب المردة على زعيم التيار العوني، التوتر الحاصل في تيار المستقبل على خلفية محاولات تعويم بهاء الحريري، والخلاف الذي خلفه رفض حركة أمل التصويت لصالح استبدال حاكم مصرف لبنان (وإن كان الأمر لم يعد منوطاً باللبنانيين وحدهم بعد تدخل السفيرة الأميركية في هذا الشأن). صحيح أن الحكومة أثبتت نوعاً من المسؤولية لدى عامة الناس، وأعادت الثقة نسبياً بمهمة المؤسسات والمرافق الحكومية، خاصةً في ظل مواجهتها لوباء كورونا، وصحيح أنها استطاعت أن تكسر بعض الجمود من خلال الخطة الاقتصادية التي ستظل عالقة في حال لم تفض المشاورات مع صندوق النقد الدولي إلى نتيجة مثمرة، لكن مع ذلك فإن الأزمة أكبر من أن تعالج بإصلاحات لا تزال دون عمق الكارثة. صندوق النقد لن يعني سوى مشاكل مؤجلة، فيما لا تزال ثقوب الخزينة واسعة بفعل حارسيها كذلك، وسياسة المحاصصة ولو على "سجناء الطائفة" قائمة، والإجراءات العاجلة دونها الكثير من التعقيدات، والقضاء خاضع للمساومة.
أمام هذه الانقسامات الدولية والمحلية، ما من بديل حالي. أمامنا خيار واحد، أن نتعايش مع أسوأ نوع من الحياة خلفه لنا ديننا من المستقبل، ريثما تنجلي نتائج الانقسام في العالم، وأن نعدّ عدة القتال حرفياً، لأن العالم خرج من لعبة الاتزان.
"
Related Posts
صحيفة الخندق