Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تعتبر رواية 'الطاعون'" لألبير كامو الأكثر التصاقاً بالمرض وبأجوائه، والأبلغ تصويراً لحالات الناس المعنويّة وتبدّلات أوضاعهم النفسية مع تقدّمه."

ساري موسى

روايات الأوبئة: الشخصيات لا تنقل العدوى!

"

تشكّل الأحداث الكبرى، التي تؤثّر في مصير البشر وتقلب حياتهم، موضوعاً أساسيّاً لاشتغال الأدب؛ من الحروب العالمية وأصدائها الجانبية، إلى الثورات الداخلية والاحتجاجات الاجتماعية بما تفرزه من هجرات واعتقالات ودماء، وصولاً إلى الأوبئة وغيرها.

بعد أيام من وصول الكورونا إلى منطقتنا، وما نتج عنه من خضوع الجميع صاغرين لعقوبة الإقامة الجبرية، وخلو شوارع العالم الأكثر اكتظاظاً إلا من الرياح التي تكنسها، كنت واحداً من العديدين الذين تساءلوا ما إذا كان هذا كلّه ليس إلّا حلماً، وكنت أبذل جهداً مضاعفاً لأصحو بعد أن أصحو، غير متخلٍّ عن الأمل الضعيف المتمثّل فيما يحدث أحياناً، إذ أكمل عيش إحدى الروايات الغرائبية التي أقرأها خلال النوم وأول الاستيقاظ. حقاً إن العالم رواية ضخمة قيد الكتابة!

وعلى عكس المرض نفسه الذي نهرب منه جميعاً، شهدت الأشهر الماضية إقبالاً على القراءة عموماً، وعلى الروايات التي تناولت الأمراض والأوبئة خصوصاً. إنها روايات لا تخفي نفسها، تنادي القراء، تُبرز في عنوانها الوباء الأليف الذي تحمله دون قابلية للعدوى، بل مع إمكانية للشفاء من أبرز القواسم المشتركة للأمراض عامة؛ وهو الخوف والضجر المرافقان، من خلال الاطلاع على تجارب مماثلة لأمراض كانت تعتبر في زمنها غير قابلة للعلاج وميؤوساً من الشفاء منها.

تتردد عناوين هذه الروايات فوراً في أذهان المطّلعين: الطاعون، الحب في زمن الكوليرا، العمى... ويمكننا أن نضيف إليها من الروايات العربية القليلة جداً التي اهتمّت بهذا الموضوع، رواية إيبولا 76.

 

رواية وليس لقاحاً

يحكي أمير تاج السر في ((إيبولا 76)) عن المرض الذي لم يُعرف عالمياً كأمراض أخرى، كونه بقي محدوداً في الكونغو وجنوب السودان وبلدان مجاورة في القارة الأفريقية، لكن روايته الصادرة عن دار الساقي سنة 2012 في موجة انتشار جديدة للوباء، والتي تحكي عنه، سنة 1976 عندما ظهر لأول مرة، عانت من بعض المشاكل الفنّية التي أضرّت بفكرتها. نشعر أننا نقرأ مسودة عانت الاستعجال في النشر، إذ كان يمكن الاشتغال عليها وتحسينها أكثر، كأن الأمر يتعلق بإنتاج لقاح للمرض لا رواية تؤرّخ له وتصوّر معاناة الكونغوليين في كينشاسا وسواها من مناطق البلاد المنكوبة، وكذلك في مدينة أنزارا جنوب السودان، موطن لويس نوا ناقل المرض.

ثم إننا نشعر على امتداد الرواية أن أمير تاج السر الطبيب لا الكاتب هو من كتبها، إذ إنه يصر على إخضاع كل شخصية من شخصياتها إلى فحص إيبولا فوري وإعطائنا النتائج، فيصير الشخص منذ البداية إما حاملاً للمرض أو لا، هذا بالإضافة إلى شخصنته للإيبولا الذي يخاف ألّا يتمكن من العبور داخل جسد نوا للانتقال عبره إلى بلد جديد، ويفرح بكل احتكاك يتيح له انتشاراً أوسع، بدل الإبقاء عليه في وضعية شبحيّة، ما يمنح الأحداث إثارة أكبر، ويعطي لتفشّيه واكتشافه فاعلية أقوى وأثراً أعمق.

 

العدوى بالنظر

"العمى" الذي يصيب شخصيات الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو (دار المدى ـ ترجمة محمد حبيب) من نوع خاص. هو عمى أبيض، معدٍ، ينتقل عن طريق النظر إلى الشخص المصاب به، وهو بالتالي هائل الانتشار على مستوى العالم، يخلّف قطعاناً من العميان المتخبّطين على غير هدى في الشوارع، الملتحفين فضلاتهم الدافئة، والذين كفّوا عن نكش التراب لدفن موتاهم المتزايدين.

 كما أن هذا الوباء الغريب يقسم الناس من جديد إلى الشريحتين الأزليتين: أقوياء يستبدّون بمن هم أضعف منهم ويستغلّونهم، عندما يجتمعون أول الأمر تحت أسقف المحاجر؛ فما كان يفرّق الناس في حياتهم سيستمر بذلك في مرضهم وصولاً إلى موتهم.

الرواية رمزيّة، وذات إحالات روحية لا مجال للدخول فيها الآن، دعّم الكاتب رمزيتها بنقل أدق التفاصيل الواقعية التي خدمت فكرتها المنكشفة في نهايتها.

 

الداء المُحيي

من يقرأ باحثاً عن الكوليرا في رواية غابرييل غارسيا ماركيز (دار التنوير ـ ترجمة صالح علماني) سينساه ويتيه بين قصص الحب المنوّعة: العذرية منها والماجنة، تلك التي مع عاهرات محترفات وأرامل شبقات وأخرى طرفها الآخر الفتاة ذات الأربعة عشر عاماً، السوقية المبتذلة العابرة، والأسطورية التي تدوم لأكثر من نصف قرن من البُعد.

الإشارات إلى الكوليرا، الذي انتشر خلال فترة زمنية طويلة في ساحل الكاريبي، قليلة على امتداد الرواية. أولاً هناك الدكتور أوربينو الأب، الذي عالج الناس خلال إحدى موجاته، إلى أن قضى به آخر الأمر، ثم هناك الموجة التي انتشرت مع عودة الدكتور خوفينال أوربينو الابن -وأحد ثلاثيّ الحبّ في الرواية- من فرنسا بعد إنهاء اختصاصه، وقد تمكّن من معالجتها في مدينته وعبر البلاد من خلال حملات الوقاية والتوعية، إلى أن بقيت حالات قليلة متفرقة عبر الأدغال الكاريبية المتآكلة لا ترقى إلى مستوى الوباء، وبسببها كانت تُرى جثث بين خطوط الحراثة أو طافية عبر نهر مجدلينا العظيم، والبعض منها كان عنقه مثقوباً برصاصة لتخفيف آلام الموت عنه. ثم هناك القول المُعبّر للعجوز المُخرّفة ترانسيتو أريثا، أم فلورينتينو، التي قالت عنه "المرض الوحيد الذي أصاب ابني هو الكوليرا"، خالطة الحب بالكوليرا. وصولاً إلى الحضور المُخلّص وليس المُهلك لها في خاتمة الرواية، التي تتيح لقصة حب فلورينتينو أريثا وفيرمينا داثا أن تُعاش وتُعاد مدى الحياة محمولة على متن السفينة التي تجوب النهر المحتضر، رافعة راية الوباء التي تضمن لها أن تبقى في منجى من مضايقات الجميع.

 

لن يعود العالم كما كان

تعتبر رواية "الطاعون" لألبير كامو (دار الآداب ـ ترجمة سهيل إدريس) الأكثر التصاقاً بالمرض وبأجوائه، والأبلغ تصويراً لحالات الناس المعنويّة وتبدّلات أوضاعهم النفسية مع تقدّمه، والتي نلتمس كثيراً منها في أجواء حجرنا اليومي، في ظل الأخبار التي تتدفق إلى بيوتنا مضاعفةً القلق والخشية.

 تنمحي الحياة العامة. تتوقف الأشغال كلّها تقريباً. تُغلق وهران تماماً ليتم عزلها عن جوارها، فتنفصل العائلات عن بعضها لأشهر. بعد العثور على الجرذان ميتة في الشوارع بأعداد متزايدة يوميّاً، تظهر حالات الطاعون المرعبة التي لا تدع مجالاً للشكّ. يحاول بعض الأطباء بالإضافة إلى المسؤولين الحكوميين المحليين المكابرة ويستخفون بمزاعم عودة المرض المختفي منذ زمن، لكن سرعان ما يرضخون للأمر الواقع مستنفرين ومعلنين حالة الطوارئ، لنصير منذ البداية أمام رواية مدينة موبوءة، بطلها هو الطاعون نفسه، وكل الشخصيات الباقية تلهث في إثره محاولة الحد من انتشاره، ثم التعامل مع آثاره بعد الفشل في ذلك.

 لا روح في المدينة والرواية سوى روح الموت والعطالة، التي نجح كامو في تصويرها لنا وجعلنا نشعر بها. ذوي المشاكل النفسيّة تتفاقم حالاتهم خلال مدّة قصيرة: هناك من يحاول الانتحار، هناك من يسعى للهرب من الحصار بأية وسيلة ومهما كلّفه ذلك، وفي المقابل المجروحون عاطفياً والمُبعدون عن أحبتهم تنفجر غيريّتهم، فينظمون فرق الإسعاف ويعملون في المحاجر التي صارت تحتل "الاستادات" والمباني العامة، ويحفرون القبور الجماعية التي تبتلع الجثث حتى التخمة، ثم يُضرمون المحارق أمام ضيق الأرض عن الاستيعاب.

الدكتور ريو، الذي يؤرّخ تلك الأشهر بذاكرة المؤرخ وعينه لا بسمّاعة الطبيب وتحاليله، ينقل لنا ردود أفعال الناس المحتفلة في الطرقات مع الإعلان عن القضاء على الوباء، دون أن يشاركهم فيها، لأنه يعرف أن الحياة بعده لن تعود كما كانت قبله، فالفيروس يمكن أن يهجع لسنوات عديدة قبل أن ينبعث على نحو أشدّ.

"

كاتب سوري