إن أردت أن تخبرني الحقيقة أرجوك لا تُدهشني ولا تُفزعني، فأنا ضعيف، لا أقوى على الاستيقاظ، وأريد أن أنام لساعات متواصلة. ما بين الحقيقة، وقدرتي على تحمّلها، أقف حائراً: هل عليّ الكذب؟ هل يمكنني أن أكون صادقاً؟
جاذبية التضليل
إن أردت أن تخبرني الحقيقة أرجوك لا تُدهشني ولا تُفزعني، فأنا ضعيف، لا أقوى على الاستيقاظ، وأريد أن أنام لساعات متواصلة. ما بين الحقيقة، وقدرتي على تحمّلها، أقف حائراً: هل عليّ الكذب؟ هل يمكنني أن أكون صادقاً؟
يهون الكذب علينا كثيراً أمام الصدق، عندما نرى حجم المسؤولية المترتّبة علينا بعد قول الأخير، أو عندما نخاف من هول الحقيقة وأثرها على الناس. فنرى أن نقصر عليهم الطريق وندلّهم على الطريق المختصر، ونمتنع عن الحقيقة بكذبة بيضاء. فأن نحيا في الإنكار أمر أيسر بكثير من أن نكون في يقظة دائمة. أن نتناسى الأزمة المالية التي ما فتئ الخبراء يحدثوننا طيلة سنين أهون بكثير من أن نضع نصب أعيننا الأزمة والسعي لحلّها. فهناك، سنسصطدم بمنظومة الفساد وسيكون التعب بانتظارنا؛ من الأحمق الذي يفتّش عن التعب؟! هكذا يتم إنتاج المغفّلون.
مسألتا الصدق والكذب أساسيتان في إجابتنا عن الكيفية التي نريد أن نقدم بها الأشياء. فعندما يأتي أحدهم ليخبرك بأمر ما، عليك أن تبقى يقظاً لتحاول تقييم مصداقية ما يقول. عليك أن تعرف الحقيقة، أليس هذا مسعى البشر فيما يعني فضولهم لاكتساب المعارف والعلوم؟ بصرف النظر عن مستواها ومحتواها.
لا أفضل شخصياً بوح الحقيقة كاملةً. الحقيقة ثقيلة في كثير من الأحيان، وهي تؤتى ولا تأتي، وعلى البشر أن يبحثوا عنها. والحقيقة راسخة لا يمكنها النهوض والبحث عن الراقدين. لكن ماذا بالنسبة إلى ما يصلنا؟. ما حكمي على ما تريد أن تخبرني إياه؟ ومن أي منظور أتطلع إليه؟
"الأقل يعني أكثر"، هذه قاعدة نتبّعها في تحريرنا للأفلام، وفي الإعلانات التجارية غالباً، وتطبيقها هو: "لا تدعهم يرون الصورة كاملة، واترك المجال لمخيّلتهم أن تبني ما حرمتهم من رؤيته"، هناك ما أريد إيصاله لك، وأنا على علم بأنه لا يتلاءم مع آدميّتك وبشريّتك، إذاً لا بد من إتقان طريقة حديثي معك وإغفال عقلك عن التحليل، فما العمل؟ ببساطة أقوم بتجزيء الحقائق. أدمج الأجزاء مع بعضها، وأَضع بين يديك مسخاً عن الحقيقة يصعب تمييزه. مثلاً، عندما أشعر بأن مسألة النزول على سطح القمر صارت رهن السؤال، (بغض النظر عن واقعيتها أو موقفنا منها) سريعاً ما سأنتج لك فيلماً هوليوودياً اسمه "الرجل الأول - First Man" يحكي قصة رائد الفضاء الممتاز الذي تغلّب على مرارات حياته، والذي دَفن في أحد الأودية سوار ابنته المتوفّاة عندما صعد إلى القمر. ستغرورق عيناك بالدموع. بتحريك العواطف سآخذك نحو "رفض أي محاولة التشكيك". جرعة يتلوها حقنة، إلى أن تتلف شرايين الوعي البشري.
هذه هي الطريق الأسرع لأعمي عقلك وأعطّله عن العمل، وأعرض لك ملصق إعلاني للمثلجات وهي في فم ملكة جمال العالم، كي تصبح سعادتك في الحياة مرتبطة بهذا النوع من المثلجات ويصبح الرضا على النفس يتمحور حول لعقة واحدة. نعم، أقوم بتجزيء الحقائق، وأبني لك صنماً تدافع عنه بشراسة، فتعبدني، وتذبح القرابين عند صرحي، وتبذل عمرك في جني الأموال، لتدفعها لي... نِعم العبد أنت! لقد صدّقتني لأنكَ أردت ذلك، أنا لم أدفعك غصباً، أنت من تجاوبت وأذعنت، أنا بريء منك.
عندما يفقه الواحد منّا بأن أحدهم كذب عليه، صديق، شريك، زوج، فإنه يستشيط غضباً، ويطلق العنان للمشاجرات وقد تنتهي بفسخ العلاقة والقطيعة، لأننا نشعر بالإهانة من الغفلة وكيف تعدّى أحدهم وداس على شيء من عقولنا ومشى دون اكتراث، فنرفض الكذب رفضاً قاطعاً، وندينه، ونحاربه، ونبذل سنيناً قضت بالودّ لقاء كذبة واحدة. لماذا رفضت هذه الكذبة بالذات؟ ألأنّها مباشرة ولصيقة؟ ماذا إن كانت مترامية ومبهمة؟ ألا تريد البحث عن الأكاذيب الباقية حولك لتكتشفها وتغضب؟
"
Related Posts
مخرج لبناني