Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

مع اندلاع موجة الربيع العربي، انقلب المشهد رأسا على عقب، حضرت الشعرية في الساحات، بين طلقات المطاط وسحب الغاز المسيل للدموع، في الهتافات وعلى الجدران.

علي الرفاعي

ثورية الشعر أو شعرية الثورة

"

مشهد تمهيدي:

لا أعرف كيف وجدت الشجاعة لأصرخ على الرجل ذي الوجه الذي يشبه المصورين: "لماذا لا تلتقط صورة لذلك الملصق" وأنا أشير إلى الرسم الهائل، الطقسي تقريبًا، لتشي غيفارا وإلى جانبه بعض أشعاري التي كتبتها عنه...

(من ذكريات بلقيس كوزا مالي عن ليلة اعتقالها وزوجها هيربيرتو باديلا)

تنويه لا بد منه:

لم يكن باديلا عدوا للثورة التي، لاحقًا، سجنته وحاكمته وكادت أن تكسر قلمه الرافض لوصايتها باسم التشذيب والتهذيب، بل كان واحدًا من سدنة فكرتها البكر، الجامحة التي لا يمكن ترويضها، غير أن ذلك لم يشفع له خروجه عن نصها (الرسمي)، ولولا العريضة التي قدمها ووقع عليها سارتر وسيمون دي بيفوار وسوزان سانتاغ وآخرون لسقط الشاعر في البئر ولأسقط معه -ربما، وفي عيون البعض على الأقل- أيقونية كاسترو.

هامش:

هذا شاعر!

أخرجوه من هنا

لا عمل له بيننا

إنه لا يلعب لعبتنا

وهو لا يتحمس لشيء أبدًا

ولا يتكلم بوضوح

(باديلا)

 

مشهد آخر (أنقله كما هو، بالمحكية):

-  قبل ما تقعد تنظر علينا بالعناوين البراقة، وتكون جزء من أدوات الحرب الناعمة يللي عم نتعرضلها، روح شيل صورة الشهيد يللي حاططها بروفايل ع الفيسبوك، وخليك بالشعر، شو بدك بالسياسة

 لا، أبدا، ما بشيلها

-  إي لكن جرب ما تكون عالة على مسيرتهن وما تساعد بتضييع دمهم

-  صديقي، دمهم شجرة بعين الله، ما بتضيع، تركها بعليائها، أما نحن هون، وتشخيص تكليفنا فهو مسؤوليتنا

هامش:

صورة الشهيد على صفحة المخاطَب أعلاه كانت لصديقه المقرب، والقذيفة التي وضعت أحدهما في ركب الشهداء، في ذلك اليوم الشتوي، وضعت  الآخر (وهذا ما لم يعرفه المخاطِب) في قافلة الجرحى.

***

 

من يؤمن بمملكة الشعر، لا يمكن له أن يعيش في ظل أي مملكة أخرى، حتى لو كانت -على سبيل المجاز- مملكة الثورة، فما بالك بمملكة الثورة التي تصير، بحسب ما تحدثنا به كتب التاريخ وسياقات الحاضر، سلطةً. والسلطة، لغةً، هي ابنة جذرٍ متخم بمعاني السيطرة والتحكم.

ثم لو كان للغة أن تتجسد يومًا سلطةً، لكان الشعر الخروج الدائم على أبويتها. هكذا، ببساطة الكون في عيون الأطفال، أرى الشعر أوسع وأرحب مدى من كل إطار بشري ممكن، لذا، ربما، أخرج أفلاطون جوقة الشعراء من مدينته الفاضلة، إذ أن المجنون هو وحده من يبني مدينته زارعًا فيها عوامل خلخلتها.

قد يقول قائل: إذا كان ما تقول، فأين هو الشعر؟! أين هم الشعراء؟! وأين هي القصيدة التي كانت يومًا تلهب الجماهير وتحرك الجيوش؟!

لقد تحرك الشعر دائما بين ثنائيتين تتجاذبانه، بين وهم إحضار الواقع المعيوش وإسقاطه في النص، وبين استحالة إخراج النص بمتخيله إلى حيز الوجود الواقعي، فتاه الشعر بين حركة الداخل إلى الخارج وبين حركة الخارج إلى الداخل، وتاه الشعراء معه، وفُتح السؤال الذي لم يغلق حتى اليوم، ولن، حول وظيفة الشعر.

وفي بلادنا التي ترزح، مذ خُطّت الحدود وأعلنت الخرائط، تحت سلطة الموت المنتشر على امتداد التاريخ والجغرافيا العربية، حيث يموت الأطفال بصمت، كما تنطفئ في السماء كل يوم ملايين النجوم، وحيث تمكن الحاكم العربي، فردًا كان أو منظومة، من تطويع كل شيء، حتى الدين واللغة والإعلام وصولًا إلى الذاكرة الجمعية في لعبته السلطوية (بالمناسبة، هل تذكرون كيف سقط اقتراح قانون حظر صور الزعماء في الأماكن العامة؟! ذلك ليس تفصيلًا في لعبة بناء الوعي). في هذه البلاد-السجن، شهدت القصيدة العربية فسحتها الجماهيرية خلال المد الاشتراكي- القومي مع صعود اليسار وحركات التحرر التي عصفت بغير بلد عربي. استيقظ الشعر يومها، بدّل ملابس رومنسيته، ونزل إلى الساحات والميادين، إلى جبهات القتال والمتاريس، وكانت تلك لحظات النشوة الثورية في القصيدة العربية، تلك اللحظات التي قدمت لنا، او ساعدت، تجارب قباني والنواب ودنقل ودرويش وغيرهم ممن تضيق على ذكرهم صفحات مقالة بسيطة كهذه، وقد ساعد في ذلك التماهي التام الذين كان قائمًا بين موقف الشاعر من القضايا العامة وبين الوعي الجمعي للجماهير (هل ستحاولون المقارنة، ضمن هذا السياق، بين ذلك الزمن وهذا؟! خذوا إذن هذا المفتاح البسيط، واسألوا أنفسكم: هل ما تزال فكرة إسرائيل العدو المركزي فكرة عربية جامعة؟!)

عمومًا، وككل حلم جميل، كان لا بد من نهاية ما لهذا المشهد، وكما خنقت الغصة جرير يومًا وهو يقول لرجل ملتحٍ على باب عمر بن عبد العزيز:

يا أيها الرجل المرخي عمامته

هذا زمانك إني قد مضى زمني

تلبدت الغصة في حلقنا ككرة من نار ونحن نرى ونعاين، من قلب الاتون، تفاصيل الحكاية.

تحولت الثورات وحركات التحرر إلى أقفاص حديدية وأنظمة أكثر رجعية من تلك التي ثارت عليها، مُنينا بالنكسة وكُبّلنا بمشاريع السلام، زار السادات القدس فيما كان أمل دنقل يصرخ، وحيدًا أو يكاد، في صحراء هذا الانحدار: "لا تصالح..."، سقطت بيروت، انتحر حاوي، وأغلقت الستارة على مشهد كنا نظنه القعر. سقط المشهد السياسي على رؤوسنا ليسقط معه المشهد الشعري، تراجعت القصيدة إلى قوقعتها، عاد الشاعر إلى ذاته محاولًا إعادة بناء عالمه الخاص على أنقاض المشهد العام، وعادت الرومنسية مقنعة بعناوين السريالية والحداثة والرمزية.

هل هذا موقف من ذاتية الشعر أو جماهيريته؟ من مباشريته أو رمزيته؟ لا، هو مجرد محاولة للتوصيف، فالسؤال حول (وظيفة الشعر) كما أسلفت، سيبقى سؤالًا مفتوحًا على اللاجواب...

هنا، وخلال رحلة الانحدار هذه، يمكن أن يسجّل للشعر العاملي أنه حافظ على شيء من الأمل بضوء سيأتي في نهاية النفق، ففي الوقت الذي كان خليل حاوي يضع حدّا لحياته قبل أن يرى الدبابات الإسرائيلية تعبر فوق صدر بيروت، وفي الوقت الذي كان فيه نزار قباني ينعى في بلقيس الشعر والبلاد التي (يقتلون بها الخيول)، كان محمد علي شمس الدين يكتب لمهدي ما مستترٍ في "غيم لأحلام الملك المخلوع"

يا أيها الوثن المعلق في السماء وفي حناجرنا

يا أيها الصنم الرصاصي الثقيل

من ذا يزلزل عرشك الدموي بين الجسر والجسد القتيل؟

من يبعث الأجساد من كفن الخليقة بادئا

في أخضر العربي زلزلة الفصول

مرّت السنوات ثقيلة بعد ذلك، دخل العالم العربي، إلا ما ندر، في الزمن الإسرائيلي، ومن لم يفعل ذلك انكفأ إلى التل، وبقي الجنوب اللبناني وحده يقاتل عن أمة بأكملها، ثم ما لبث زرع المقاومة أن أثمر تحريرا، وخرج الاحتلال مرغمًا من أرضنا.

ولأن التحرير يبقى فعلًا ناقصًا دون التحرر الكامل، ولأن الشعر هو التوأم الحقيقي للثورة الكاملة على كل السجون دفعة واحدة، ولأنه من الاجحاف والظلم أن نختزل الحرية في الشعر ونقصرها على ملمح واحد من ملامحها الكثيرة، لم تتمكن حسّاسات الشعر العربي من التقاط مظاهر التغيير الحقيقي فاستمر الشعر، من مكانه القصي، يعبر قرب مظاهر الحرية دون أن يكونها، واستمرت الـ "لا الشاعرة" قشرية ظاهرية تنحو نحو المعارضة السياسية متقمصة دور المانيفستو الثوري مرة، ونحو المعارضة الدينية لابسة ثوبًا من التجديف تارة، ونحو الشبق الجنسي مقتربة من البورنوغرافيا طورا، غير أنها لم تتمكن، رغم كل هذه المحاولات اليائسة، أن تنصهر وتذوب في الـ" لا الكلية" لتقدم لنا الحرية كما يليق بالشعر أن يفعل...

لاحقًا، ومع اندلاع موجة الربيع العربي، انقلب المشهد رأسا على عقب، حضرت الشعرية في الساحات، بين طلقات المطاط وسحب الغاز المسيل للدموع، في الهتافات وعلى الجدران. هل منكم من يذكر فيديو الشاب المصري في "التحرير" واقفا أمام رجال الأمن بكامل عتادهم صارخًا بهم:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

قلت، حضرت الشعرية، أزيد... وغاب الشعر (قد يقال، والشعراء)

لم يلتفت أنسي الحاج لجاذبية المشهد، رفض أدونيس المهزلة، غاب المقالح وحجازي وسعدي يوسف، واعتكف أحمد فؤاد نجم.

هل عبر سعد الياسري في "جذور الوهم" عن موقف كل هؤلاء حين قال: "أنا أدعو وأصلي أن تبقى هذه الديكتاتوريات، فأن تلاحَق باسم "الطاغية" أهون ألف مرة من أن تلاحق باسم الله"؟! لا جواب، غير أن هذا الغياب الذي كان مستغربًا يومها وجد تفسيره في غير موقف ومشهد ربما يكون أكثرها عمقا ورمزية وحفرا في مكامن الوجع والخوف قيام مجموعة من مسلحي (الثورة السورية) بقطع رأس تمثال المعري في معرة النعمان أوائل عام ٢٠١٣.

يقول صديقي الذي تبحّر في روحانية الفنون، أن حسّاسات الشعر قادرة على التقاط الإشارات بأسرع وأكثر دقة مما قد تفعل العلوم الإنسانية، فهل كانت حسّاسات هؤلاء تنبؤهم يومها بالعاصفة القادمة غيمًا أسودا وأرضًا حمراء.

مرّت السنوات الأخيرة ثقيلة أيضًا، وأرخى الربيع العربي ستارته أو يكاد، دون أن يقدم لنا قصيدة عظيمة واحدة.

هل في هذه الخلاصة شيء من التجني على الشعر الحقيقي الذي كتبه شعراء حقيقيون عن الثورات وخلالها؟!

سأستعير الجواب من أدونيس لأقول:

"الشعر الثوري ليس أداة توعية أو تسييس، ذلك أنه هو نفسه وعي وممارسة سياسية، إنه فعل وليس دعوة للفعل"

لماذا فشل الربيع العربي أن يقدم مشهدًا سياسيًّا جديدًا؟ ولماذا انهارت الحدود والخرائط -حين انهارت- مزيدًا من الانقسام والحروب والنزاعات بدلًا من أن تنهار انفتاحًا وتلاق؟!

يحدثني الفتى نفسه، ذاك الذي تبحّر في روحانية الفنون، أن الثورات الحقيقية لا بد أن يسبقها أو أن يواكبها مشهد ثقافي عال، هكذا حصل في كل الثورات العظيمة التي شهدها العالم، ثم يسألني أن أصف المشهد الثقافي العام الذي سبق الربيع العربي، أصمت ويضج في رأسي السؤال ذاته حول المشهد الثقافي اللبناني الذي سبق ١٧ تشرين.

لا بأس، أقول: هي حكمة الدائرة، جدلية لا تنتهي، هل يساهم الشعر في إشعال فتيل الثورات، أم أن الفعل الثوري هو من يساهم في تفجير ينابيع الشعر؟!

إن جواب بعض الأسئلة أن لا يكون لها جواب.

هل أتاكم حديث (شعرية المدى المفتوح)؟!

"

كاتب وشاعر لبناني