Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

'الإنسان السَّعيد ليس مستهلكاً جيِّداً'" كما كتبت وولف. فهو مستقرٌّ ولا يحتاج إلى الشِّراء. بينما يخدع الإنسان التَّعيس نفسه بالاستهلاك كحاجة. يحاول أن يتحكَّم بنفسه انطلاقا من خارج نفسه، انطلاقاً من رأي المجتمع والأهل فيه، ومن مظهره وأملاكه التي لا يستطيع أن يتحكم بها إن لم يمتلك المال. وفي هذه الحال، يتولَّد عنده شعورٌ بالعجز. ويتقاطعُ هذا العجز مع تعرُّضه للقلق والكآبة. إذاً، يبدأ بالتَّسلية وينتهي بالكآبة."

زينب الحركة

بين السعادة والتعاسة... طفلٌ يلعب

"

كرجُلٍ مُسِنّ، يستلقي إبنُ العامَين من العمر على الكنبة. الهاتفُ أمامه. لا يتحرَّك أبداً لساعةٍ وربَّما أكثر وهو يشاهد برامج "اليوتيوب". مشهدٌ أصبح مألوفاً في العائلاتِ اللُّبنانيَّة. ربَّما، لا ينتبه الأهل لما قد يفقده أولادهم عند اتِّباع هذا الأسلوب في التَّربية. يخسرون جزءاً من صحَّتهم النَّفسيَّة وهويَّتهم نتيجة استبدال اللَّعب بالوسائط الإلكترونيَّة.

يحتاج الطفل إلى اللَّعب. وتحديداً اللَّعب الحرّ والاجتماعيّ، أي مع أطفالٍ آخرين ودون تدخُّل من الكبار. فيه، الطِّفل هو من يبتكر اللُّعبة، شخصيّاتها، وكلماتها. وهو من يتحكَّم بقوانينها. إضافةً إلى حصوله على فرصة للمُجازفة. فيتعلَّمُ عبرها كيفيَّة التَّعامل مع التَّحديَّات العاطفيَّة والجسديَّة في حياته. لذا، فاللَّعب ليس مجرَّد وسيلة للمتعة، بل للتعلُّم أيضاً. يتعلَّم الطِّفل عبره كيفيَّة:
-اتِّخاذ القرارات
- حلِّ المشاكل
- اتِّباع القوانين
- السَّيطرة على النَّفس
- تنظيم العواطف
وغيرها من الآثار الّتي تعزِّز لديه الصِّحَّة النَّفسيَّة.

إلّا أنَّ هذا اللَّعب بدأ يختفي عاماً بعد عامٍ نتيجة وجود "بدائل". فالوسائط الإلكترونيَّة(كالتّلفزيون، والتّاب، والهاتف الذكيّ..) تلعب دوراً في تقليص وقت اللَّعب ونوعيَّته. عندما يجلس الطِّفل أمام الشَّاشة لساعات، يُعتبر الوقت الَّذي يقضيه سلبيًّا. لأنّه يتلقّى المعلومات وأساليب اللّعب في قوالب جاهزة، وينسخ أفعال الشَّخصيَّات. لا دور له إلا بالتَّقليد، المشاهدة أو اتِّباع التَّعليمات. يُصمِّمُ النَّاضجون لهُ كلَّ شيء، وهو يستخدم ما صمَّموا. فماذا لو كان هدف هؤلاء النَّاضجين هو للرِّبح؟

الإنسان التَّعيس غذاءٌ للرَّأسماليَّة

استبدال الطفل للَّعب الحرّ بالوسائط الإلكترونيّة سيجعله أكثر عرضة للتَّعاسة. تستخدم الرَّأسماليَّة الوسائل التكنولوجيَّة لصنع إنسان غير سعيد يحقِّق لها هدفها: زيادة الرِّبح. فتسعى عبر المحتوى التسويقيّ، إلى خداع رغباته. ولنفترض أن الرَّغبة عند الإنسان تنقسم إلى رغبتين. الأولى هي الرَّغبة الطبيعيَّة. تنطلق من حاجة الإنسان إلى التَّطورُّ أو إلى إضافة شيء جديد إلى نفسه. إنَّها الرَّغبة في أن يصبح "كياناً جديداً"، كما تسمّيه الباحثة الأمريكيَّة كينيا وولف في مقالة علمية لها. أما الرَّغبة الثَّانية فهي الّتي تستخدمها الرّأسماليَّة لتجذب المزيد من الزَّبائن. تُعبِّر عنها وولف، بالجملة التّالية: "التَّسويق قائم على الرَّغبة كنقص". هذا يعني، أن الرَّغبة التي يعمل عليها التَّسويق، تنطلق من شعور الإنسان بالنَّقص، وبالتَّالي حاجته لما يسدُّ هذا النَّقص. بمعنى آخر، فإذا لم يمتلك الطفل ما تُقدِّمُه الرَّأسمالية من مُنتجات سيكون ناقصاً.. إذا لم يلبس الملابس بأسماء الشَّركات، ولم يأكل الأطعمة السَّريعة، ولم يتصرَّف كما تتصرَّف الشَّخصيَّات التّلفزيونيَّة على سبيل المثال، لن يشعر بالكمال والاستقرار الداخليّ. سيشعُر بالتخلُّف لأَّنَّه غير قادر على تقليد نموذج "الطِّفل المثاليّ" الَّذي يُشاهدُه على الشّاشة.

إحدى الصُّوَر التي تروِّج لها الحضارة المادّية هي: الشَّخص غير الإجتماعيّ، "الرَّائع". يُشاهدُهُ الولد في البرامج، يقارن نفسه به، ويقلِّدُه عبر الابتعاد عن العلاقات الاجتماعيَّة وزيادة المُقتنيات المادِّيَّة. في حين أنَّ العلاقات الاجتماعيَّة الجيِّدة يمكن أن تحقق له السَّعادة. إذاً، هو يبحث عن السَّعادة ولكن يمشي في الطَّريق الّذي يُبعدهُ عنها. هذه التَّناقضات تخلقها الرأسمالية وتتغذَّى عليها لصنع إنسانٍ غير سعيد. لأنَّ "الإنسان السَّعيد ليس مستهلكاً جيِّداً" كما كتبت وولف. فهو مستقرٌّ ولا يحتاج إلى الشِّراء. بينما يخدع الإنسان التَّعيس نفسه بالاستهلاك كحاجة. يحاول أن يتحكَّم بنفسه انطلاقا من خارج نفسه، انطلاقاً من رأي المجتمع والأهل فيه، ومن مظهره وأملاكه التي لا يستطيع أن يتحكم بها إن لم يمتلك المال. وفي هذه الحال، يتولَّد عنده شعورٌ بالعجز. ويتقاطعُ هذا العجز مع تعرُّضه للقلق والكآبة. إذاً، يبدأ بالتَّسلية وينتهي بالكآبة.

طبعاً، لا يأتي استبدال اللعب بالآلة، دون آثار سلبية. في مقالة تحت عنوان: تراجع اللعب وصعود الأمراض النفسية عند الأطفال والمراهقين، يربط الباحث بيتر غراي بين زيادة الأمراض النَّفسيَّة عند الأطفال وتراجُع وقت اللَّعب. فبالتَّزامن مع انخفاض نسبة لعب الأطفال مع بعضهم البعض، ارتفعت نسبة:
- القلق
- الكآبة
- الانتحار
- الشُّعور بالعجز
- النَّرجسيَّة
عند الأطفال والمراهقين والشَّباب.
ومع أنَّ هذا ليس دليلاً كافياً على أن الحرمان من اللَّعب سببٌ مباشرٌ للأمراض النَّفسيَّة، إلا أنَّه مرتبط بأسبابها.

الأهل هم المسؤولون

يشاهد 40% من الرُّضَّع ذوي الثَّلاثة أشهر التّلفزيون بشكل معتاد، بحسب دراسة أجراها باحثون من جامعة واشنطن ومؤسَّسة الأبحاث التَّابعة لمستشفى الأطفال في سياتِل عام 2007.

رغم خبث النظام الاستهلاكي، إلّا أنَّ المسؤول الأوَّل عن تعاسة الطِّفل هم الأهل. يهمِّش الأهل دورهم في توجيه أبنائهم وتربيتهم. فالخيار بين أن يكونوا أهلاً ناجحين أو أهلاً مُهملين يقع على عاتقهم.

يمكن أن نعتبر اللَّعب الحرَّ والاجتماعيَّ خطًّا فاصلاً بين إنسانين: أحدهما مستقرٌّ نفسيًّا، اجتماعيٌّ، ومتطوِّر. بينما الآخر: تعيسٌ، مُستهلِكٌ، وهَشّ. بكلِّ بساطة، لا يحتاج الطِّفلُ لأكثر من نفسه، وطفلٍ آخر، ومساحةٍ يلعبُ بها، ليتمكَّنَ من تحصيل الآثار الضَّروريَّة للَّعب. وهو ما لن يكلِّف الأهل أيَّ مالٍ في ظلِّ الظُّروف الصَّعبة الَّتي يمرُّ بها لبنان.



المراجع:

The Decline of Play and the Rise of Psychopathology in Children and Adolescents
by: Peter Gray

When More is Not More: consumption and consumerism within the neoliberal early childhood assemblage(s)
by: Kenya Wolff

Endangered childhoods: how consumerism is impacting child and youth identity
by: Jennifer Ann Hill

/

"

كاتبة لبنانية