Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تتمتع طبقة البروليتاريا الثقافية، في دور الصُحف والمسارح والجامعات، وغيرها؛ بوسائل الراحة الماديّة والمكانة الاجتماعيّة، لكنها مع ذلك تظل بروليتاريا؛ نظراً لاعتمادها الخانع كلياً، اعتماد العبد على سيّده؛ على الجوائز المهنية والمؤسسات الإعلامية وإيرادات المسارح والصحف والناشرين، وفوق ذلك كُلّه، ركونها إلى رأي عام سوقي منحط.

عبد الرحمن أبو ذكري

بؤس البروليتاريا الثقافية

"

هذا النص لإمّا غولدمان، ونقله إلى العربيّة: عبدالرحمن أبوذكري

تعدى التحوّل البروليتاري لزماننا حقل العمالة اليدوية، وبمعنى أشمل؛ صار كل العاملين لكسب عيشهم، سواءً بأيديهم أو بعقولهم؛كل هؤلاء الذين يتعيّن عليهم بيع مهاراتهم ومعارفهم وخبراتهم وقدراتهم، قد صاروا جميعاً من البروليتاريا. ومن هذا المنظور؛ فإن جُلّ نظامنا الاجتماعي، باستثناء طبقة محدودة؛ قد تحوّل إلى بروليتاريا.

إذ إن جلّ خيوط نسيجنا الاجتماعي تشدّها جهود العمالة الذهنيّة والبدنيّة بعضها إلى بعض. وفي مقابل ذلك؛ فإن البروليتاريا الثقافيّة، مثلها مثل العاملين في المتاجر والمناجم؛ تعول وجودها البائس مُفتقدةً للأمن، ويزيد اعتمادها على أرباب أعمالها بدرجةٍ تفوق العمالة اليدوية.

وليس ثمة شك في ضخامة الفارق بين الدخول السنوية للطبقتين. كذا قد تتمتع طبقة البروليتاريا الثقافية، في دور الصُحف والمسارح والجامعات، وغيرها؛ بوسائل الراحة الماديّة والمكانة الاجتماعيّة، لكنها مع ذلك تظل بروليتاريا؛ نظراً لاعتمادها الخانع كلياً، اعتماد العبد على سيّده؛ على الجوائز المهنية والمؤسسات الإعلامية وإيرادات المسارح والصحف والناشرين، وفوق ذلك كُلّه، ركونها إلى رأي عام سوقي منحط. هذه التبعية البائسة، لمن يُمكنه دفع الثمن وإملاء الشروط المحدِّدة للأنشطة الثقافية؛ هي أكثر ضعة وخزياً من وضع العامل في أيّة مهنة أو حرفة أخرى. وثمرة ذلك أن هؤلاء الذين اضطلعوا بمسئوليات ثقافيّة، وبغض النظر عن مدى حساسيتهم التي بدأوا بها الطريق؛ ينمو مع الوقت تشاؤمهم ولا مبالاتهم بحجم امتهانهم.

وبطبيعة الحال، فإن النجاح الذي يتحقق بأكثر الوسائل ضعة، لا يُمكن إلا أن يُحطّم الروح. ويبدو للوهلة الأولى، أنه هدف عالم اليوم. إذ يُعين هذا الضرب من النجاح المزيّف على ستر الانحطاط الجوّاني، ليتبلّد به تدريجياً كل وازع ذاتي؛ حتى يعجز هؤلاء الذين بدأوا الطريق بطموحات كبرى، وإن تسنَّت لهم الفرصة لاحقاً، عن السمو لأي من أحلامهم القديمة، أو تجسيد شيء مما آمنوا به.

وبعبارة أخرى، فإن هؤلاء الذين ابتلوا بمواقع تقتضي منهم التخلّي عن ذواتهم، مواقع تُشدّد على الامتثال الكامل والصارم لسياساتٍ وتحزّبات وآراء معيّنة، يتدهورون حتماً. ينحدرون بيقين إلى اﻵت، ويفقدون من ثم كل قدرة على المساهمة بأية إضافة مُفيدة. والعالم حافلٌ بمثل هؤلاء المعاقين المناكيد. إذ منتهى أملهم هو "الوصول"، بغير اكتراث للثمن. وإذا استطعنا فقط التوقُّف برهة لنتدبَّر فيما يعنيه "الوصول"، ستفيض شفقتنا على هؤلاء الضحايا. لكنّا بدلاً من ذلك نعتبر الفنان، والشاعر، والكاتب، والمسرحي، والمفكِّر، الذين "وصلوا"؛ نعتبرهم حُجّجاً عليا وسُلطات نهائية في كل أمر، برغم أن "وصولهم"، في حقيقة الأمر مرادفٌ للانبطاح، مرادفٌ لإنكار وخيانة كل معنى قد يكون مثَّل لهم حقيقة أو قيمة عُليا في باديء أمرهم. إن الفنانين "الواصلين" هم موجودات ميّتة يئن لوطأتها الأفق الثقافي. إن الأرواح الجسورة العنيدة لا "تصل" أبداً. إن حيواتهم تُمثّل معركة لا نهاية لها مع تفاهة وبلاهة أهل زمانهم. إذ يتعين عليهم أن يظلوا "سابقين لعصرهم"، كما يصفهم نيتشه؛ ذلك أن كل ما نجاهد لإعادة تشكيله وإعادة بلورته وإعادة التعبير عنه وإعادة تقييمه، محكوم عليه بأن يظل سابقاً لعصره.

إن رواد الفكر والفن والأدب الحقيقيين قد ظلوا غرباء عن زمنهم؛ يُساء فهمهم، ويُتبرأ منهم ويُجحدون. وحتى إذا أجبروا أهل زمنهم على الاعتراف بهم، مثل إميل زولا وهنريك إبسن وليو تولستوي؛ فما ذلك إلا لعبقرية استثنائية تمتّعوا بها، بل وأكثر من ذلك؛ لإحيائهم عقول وقلوب أقليةٍ صغيرةٍ، وتوجُّههم لها بما وقفوا عليه من حقائق جديدة، الأقليّة التي صار هؤلاء الرواد مصدر إلهامها ودعامتها الثقافية. وحتى اليوم؛ فلا زال إبسن كاتب غير شعبوي، في حين لم "يصل" إدجار ألن بو ووالت ويتمان وأوغست ستريندبرغ أبداً.

ليبقى الاستنتاج المنطقي، في هذه الحال، أن هؤلاء الذين لن يتعبّدوا في محراب المال، لن يحتاجوا للتعلُّق بأمل نيل تقدير أو عرفان أهل زمانهم. ومن ناحية أخرى، فكذا لن يلزمهم تبنّي أفكار غيرهم، أو التدثُّر بأثواب أربابهم السياسية. ولن يكون عليهم أبداً الجهر بحقانية الباطل، ولا امتداح إنسانوية البغي. إنني أدرك أن هؤلاء الذين يتحلّون بالشجاعة لتحدي الأصنام الاجتماعية والاقتصادية ليسوا سوى أقليّة، وأنه يتعيّن علينا التعامُل مع الأكثرية.

واﻵن، فالحقيقة الماثلة للعيان هي أن أغلبية البروليتاريا الثقافية مُعلّقة بطواحين الاقتصاد، وأن حريّاتها أقل كثيراً من حُريّات العاملين في المتاجر والمناجم. وعلى عكس العمالة اليدوية؛ فلا يُمكن لمثل هذه البروليتاريا الثقافية أن تضع ثياب عمل مهلهلة وتنتقل بأحط وسائل المواصلات لبلدة أخرى بحثاً عن وظيفة. فهم في المقام الأول قد أنفقوا جلّ حيواتهم في مهنة قد كلّفتهم ضمور كل قدراتهم الإنسانية. فهم من ثم، لا يصلحون لأي عملٍ آخرسوى ذلك الذي دُربوا كالببغاوات على تكراره. هذا في ضوء معرفتنا جميعاً بمدى وحشية الصعوبة التي تكتنف عمليّة العثور على وظيفة في مهنة بعينها. لكن أن ترحل إلى بلدة جديدة، بغير معارف واتصالات، وتجد وظيفة كمعلّم أو كاتب أو موسيقي أو أمين مكتبة أو ممثلٍ أو ممرِّضٍ، هو أمر مستحيل تقريباً. لكن إذا كان للعامل الثقافي اتصالاته ومعارفه، فيجب رغم ذلك، أن يمثل بين أيديهم في أبهى حلّة وأكثرها أناقة؛ إذ يتعيّن عليه دوماً التألُّق بمظهرجد جذاب. وهذا لعمري مما يستلزم قدراً من الوفرة الماليّة، وهي وفرة لا تتحقق إلا نادراً لهؤلاء المحترفين، مثلهم مثل العمالة اليدوية، ذلك أنهم حتى في "أوقات رخائهم" نادراً ما يجنون ما يكفي من المال لتغطية نفقاتهم.

ثم هناك التقاليد، عادات البروليتاريا الثقافية؛ حقائق يُجسَّدها لزوم معيشتهم في حي معيّن، ووجوب تمتُّعهم بوسائل راحةٍ معيّنةٍ، فضلاً عن حتميّة ابتياعهم لملابس ذات جودة معيّنة. كل هذه التقاليد الشكليّة أدت إلى إخصاء البروليتاريا الثقافية، وجعلتها غير مؤهلة لتحمل ضغوطات وتوتُّرات الحياة البوهيمية. فإذا ما احتسى العامل الثقافي من هؤلاء الشاي أو القهوة ليلاً، عجز عن النوم. فإذا تأخر نومه عما اعتاده بعض الشيء، لم يصلح لعملٍ في اليوم التالي. وباختصار، فهم لا يتمتعون بأية حيوية، ولا يُمكنهم، بعكس العمال اليدويين مواجهة مشقّات الطريق. إنهم مكبَّلون بآلاف الوسائل، لظروفهم المذلة والمثيرة للحنق. لكن بصائرهم، برغم ذلك قد عميت عن انتكاسهم إلى الدرجة التي يتوهّمون معها بأحوالهم حُسن طالع، وبأنفسهم فضلاً وسمواً على رفاقهم من سائر صنوف العمالة اليدوية.

كذلك أيضاً، النسوة اللاتي يتفاخرن بإنجازاتهن الاقتصادية الباهرة، واستطاعتهن إعالة أنفسهن. إذ في كل عامٍ تقذفُ المدارس ومعاهد العلم بآلاف من المتنافسين إلى سوق الثقافة، وفي كل موطنٍ يربو العرض على الطلب. وليتسنّى لهن مُجرّد فرصة للوجود، يتعيَّن عليهن التذلُّل والانبطاح والاستجداء لنيل موقعٍ وظيفي. ومن ثم تكتظ الدواوين بالنساء المشتغلات بمهن ذهنية، يجلسن لساعات في ترقُّب فيتعاظم داخلهن الضجر، ويُغشى عليهن إرهاقاً وفرقاً في رحلة البحث عن وظيفة. وبرغم ذلك، فلا زلن يُخادعن أنفسهن بوهم تفوّقهن وسموهن على الفتاة العاملة، أو بخرافة استقلالهن الاقتصادي.

وتُبتلع سني شبابهن في اكتساب مهنة، ليُستتبعوا آخر اﻷمر لإدارة تعليمية أو سلطة بلدية أو ناشر أو مدير مسرح. إن المرأة المحرَّرَة تفرُّ من جو المنزل الخانق، لتهيم على وجهها بين مكتب التوظيف والوكيل الأدبي أو الفني جيئة وذهابا. وهي تُشير بتقزُّز أخلاقي إلى فتاة حي البغاء، غافلة عن أنها هي أيضاً يلزمها الغناء والرقص والكتابة والتمثيل والعزف، أي أن تبيع نفسها ألف مرّة في مقابل كسب عيشها.

تحت وطأة مثل هذه الظروف، كيف تتشكَّل المهمة العُليا للمثقفين والشعراء والكتّاب والمؤلفين الموسيقيين، وما الذي يخرج عن نطاق تلك المهمة؟ ماذا سيفعلون للتخلُّص من أغلالهم، وكيف يجرؤون على التباهي بأنهم يمدّون يد العون للجماهير؟ بل وإلى اﻵن يشتهرون بانشغالهم بأعمال تستهدف "ترقية الجماهير". فيا لها من مهزلة! يدّعون "ترقية الجماهير" بهذا الكم المريع من البؤس الذي يُثقِلُ كواهلهم وينحط بنفوسهم إلى أدنى دركات العبودية والتواكل، والتبعية، وانعدام الحيلة! والحقيقة أنه لا شيء يُمكن للجماهير أن تتعلمه من هذه الطبقة من المثقّفين، في حين تملك الجماهير كل ما يُمكنها أن تجود به عليهم. فقط إذا نزل المثقّفون عن غطرسة أبراجهم العاجيّة وتخلّوا عن أوهامهم الصنميّة، وأدركوا عمق ارتباطهم بالجماهير! لكنهم لن يُقدِموا على ذلك، ولن يجرؤ عليه حتى المثقفون الراديكاليون والليبراليون.

خبرت عناصر من البروليتاريا الثقافيّة من ذوي الميول التقدميّة، كل حركة راديكاليّة. وبإمكانهم إن أرادوا أن يصيروا ذوي أهمية هائلة للعمال. لكن رؤاهم ظلت إلى اﻵن غير واضحة، وافتقدت قناعاتهم للعمق، كما عدموا الجسارة الحقيقية على مواجهة العالم. وليس ذلك لأنهم لا يستشعرون عميقاً آثار تنازلاتهم المدمّرة للعقل والروح، أو لأنهم لا يعرفون حجم الفساد والخزي في حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأسرية. حاورهم في التجمّعات الخاصة أو حين تنفرد بهم، وسيُقرِّون بأن ليس ثم مؤسسة واحدة تستحق الحفاظ عليها. لكن هذه الاعترافات مقصورةٌ على المجالس الخاصة فحسب. أما على الملأ، حين يعودون إلى الأضواء، فإنهم يواصلون اللهاث مدفوعين بذات الشبق، مثلهم مثل نظرائهم المحافظين. لا يكتبون إلا النصوص التي تُحقّق مبيعات مُرتفعة، ولا يتجاوزون ما يسمح به المزاج الجماهيري قيد أنملة. يعبّرون عن أفكارهم بمنتهى الحرص على ألا يزعجوا أحداً أو يصطدموا بأوهام أحد، فينصاعوا في حيواتهم لأسخف الحماقات التي يقيئها أهل زمانهم.

 وهكذا نشهد رجالاً ممن يمتهنون مِهناً قانونية، وقد انعتقوا فكرياً من الإيمان بالحكومة، وبرغم ذلك يرنون بإجلال إلى العبث الذي يُجسّده مقام القضاء. ونشهد رجالاً ينتمون إلى أحزاب سياسيّة، ويتنافسون في مناصرة هذا السياسي أو ذاك، وهم يعرفون جيداً حجم الفساد في حياتنا السياسية. ونشهد رجالاً يُدركون مدى العهر العقلي والفكري الذي تجسّده مهنة الصحافة، ومع ذلك يضطلعون بمواقع مسؤولية في هذه الحمأة الوبيئة.

وحتى في غمرة تعاطُفهم مع العمال -وبعضهم ينطوي صدره على تعاطُفٍ حقيقي- فإن البروليتاريا الثقافية لا تتخلى للحظة عن كونها طبقة وسطى، جليلة ومتحفِّظة. رُبّما بدا هذا التعميم مُجحفاً، لكن من خبروا هذه المجموعات على تنوّعها سيُدركون أني لا أبالغ. إذ تتوافد قطعان النساء المحترفات أشباه التكنوقراط، من كل المهن إلى أحياء المدينة التي تكثُر بها الإضرابات. مدفوعين جزئياً بحب الاستطلاع، وعادةً بسبب الاهتمام بما يجري. لكنّهن يُبقين دوماً على جذورهن الضاربة في تقاليد طبقتهن الوسطى. فقد خادعن أنفسهن دوماً وخادعن العمال بمحاولة إقناعهم بإضفاء بعض رتوش الجلال والهيبة على الإضراب، لمصلحة قضيتهم.   

ففي أحد إضرابات الفتيات العاملات، قيل لهؤلاء النسوة التكنوقراط أن عليهن التواري خلف معاطف الفراء التي يُفضِّلنها، إن أردن مساعدة الفتيات العاملات. فهل يتعين علينا التذكير بأنه في الوقت الذي كانت عشرات من الفتيات العاملات تتداولهن أيدي الرجال ويُقذفن بوحشيّة إلى داخل شاحنات الشرطة،كانت الفارغات المتأنقات يُعاملن معاملة مختلفة، ويُسمح لهُن بالانصراف إلى منازلهن؟ فهكذا قد تحصَّلن على مُتعتهن، وكانت قضيّة العمال هي الجريح الوحيد!

إن الشرطة حمقاء بكل تأكيد، لكنها ليست بالحماقة التي تمنعها من التمييز بين الخطر الذي يتهددها ويتهدد سادتها من إضرابات هؤلاء المدفوعين بالضرورة، وهؤلاء الذين يختلطون بالمُضربين لتمضية الوقت أو على سبيل "التقليد"! إن هذا الفارق لا تتمخَّض عنه درجة التعاطُف، ولا حتى نوعية الملابس، بل تجود به درجة التحفُّز ومدى الشجاعة، وهؤلاء الذي ما فتئوا يتنازلون لأجل المظاهر البرّاقة لا يتحلّون بأية شجاعة.

إن الشرطة والقضاء وسلطات السجن وملاك الصحف، يعرفون يقيناً أن المثقفين الليبراليين مثلهم مثل المحافظين، هم محض عبيدٍ للمظاهر. لهذا السبب فإن بحث هؤلاء المثقفين عن الفضائح، وتحقيقاتهم الصحفية، وتعاطُفهم مع العُمال، لا يُمكن بحالٍ أن يؤخذ مأخذ الجد. لكن الصحافة قطعاً تُرحّب بهذا الهراء؛ إذ تعشق جماهير القراء الأنباء المثيرة. لذا، يمثّل الصحفي الباحث عن الفضائح استثماراً جيداً للعوام ولنفسه. ولا يتجاوز خطر هؤلاء على الطبقة الحاكمة همهمات الرُضَّع.

ويمكن لي المضي إلى أجل غير مسمى في إثبات أنه برغم بروليتارية المثقفين الثابتة، فإنهم غارقون كذلك في تقاليد ومعتقدات الطبقة الوسطى، وقد أُحكم تكبيلهم إليها وتكميمهم بها، لدرجة أنهم لا يجرؤون على أن يحركوا ساكنا.

وسبب ذلك، فيما أعتقد، يُمكن تقصّيه في حقيقة غفلة مثقفي أميركا إلى الآن، عن استكشاف علاقتهم بالعمالوبالعناصر الثوريّة الذين مثّلوا في كل الأوقات وفي كل بلد، مصدر إلهام للرجال والنساء الذين يستخدمون عقولهم لكسب أرزاقهم. إذ يبدو أن مثقفينا يظنون أنهم هم وليس العمال، الذين يمثلون بناة الثقافة. لكنه خطأ كارثي كما أثبتت تجارب كل البلدان الأخرى. إذ فقط عندما توحَّدت قضية القوى الثقافية في أوروبا مع جماهيرها الكادحة، حينما اقترب المثقفون فعلاً من أعماق المجتمع، اكتسبوا القدرة على أن يهبوا العالم ثقافة حقيقية.

وفي حالتنا، فإن هذه الأغوار من عقول مثقفينا مُخصصة فحسب لمعايشهم البائسة، أو لترّهات الصحف أو في أحوال نادرة للقليل من التعاطُف النظري. وهو التعاطُف الذي لم يكن يوماً بالقوة أو العمق الكافيين لينتزع هؤلاء المثقفين من أنفسهم، أو يحدوهم لقطيعة مع تقاليدهم ومألوفاتهم. ومن ثم قد تمثّل الإضرابات والصراعات واستخدام المتفجرات أو جهود بعض الجماعات الراديكالية، مصدر استثارة للبروليتاريا الثقافية، لكنها تصير جميعاً حماقات مبالغ فيها حين يُسلَّط عليها ضوء مُراقب عقلاني بارد الذهن. وبطبيعة الحال، فهم يتعاطفون مع من يُضربون ويُعاملون بوحشية، أو يؤيدون من أزاحوا الاعتقاد المشوّش بعدم الحاجة لاستخدام العنف في أميركا. إن مرارة المثقفين تفيض تحت وطأة تبعيّتهم لسادتهم، ورغبتهم في التعاطُف مع مثل هذه الحالات. لكنه تعاطُف لم يكن أبداً قوياً بما يكفي ليعقد رابطة، تضامناً بين المثقف وبين المحرومين. إنه تعاطف التحفّظ، وتعاطُف التجريب.

وبعبارة أخرى، فهو تعاطف نظري تنطوي عليه صدور كل هؤلاء الذين لا زالوا يتمتعون بدرجة معيّنة من الدعة، ومن ثم لا يرون لأحد مسوّغاً لاقتحام مطعم باذخ. إنه تعاطُف المليونير الاشتراكي الذي يطنطن عن "الحتميّة الاقتصاديّة".

إن البروليتاريا الثقافية الراديكالية والليبرالية لا زالت تنتمي بدرجة كبيرة إلى النظام البورجوازي، لدرجة أن تعاطُفها مع العمال هو محض تعاطُف هواة، لا يتجاوز ردهات منازلهم أو غرف استقبالها، أو حتى أحيائهم التي تقوقعوا داخلها. وربما أمكننا بصورة ما، مقارنة هذا  بحقبة الصحوة المبكِّرة للمثقفين الروس، والتي وصفها تورغينيف في "آباء وأبناء".

إن مثقفي ذلك الزمان، برغم أنهم لم ينحدروا لهذا الدرك من السطحية كالطفيليات التي أتحدث عنها،كانوا يرفلون في الأفكار الثورية. يتصيدون الأخطاء ويقفون على خلافات صغيرة خلال ساعات الصباح المبكرة، ويتفلسفون في كل أنواع الأسئلة، ويحملون حكمتهم السامية إلى الجماهير، وأقدامهم متجذّرة عميقاً في عالمهم القديم. وقد فشلوا بطبيعة الحال. لقد سخطوا على تورغينيف واعتبروه خائناً لروسيا، لكنه كان مُحقاً. إذ فقط حين قطع المثقفون الروس كلياً مع تقاليدهم، وفقط حين تعمَّق إدراكهم بأن أساس المجتمع محض كذبة، وأن عليهم أن يهبوا أنفسهم كلياً وبغير تحفُّظ للعالم الجديد، ساعتها فقط أمسوا عامل قوة في حياة الجماهير. لقد خالطوا الجماهير لا ليرتقوا بها، بل ليرتقوا بأنفسهم، ليحصلوا على التوجيه، وفي المقابل ليهبوا أنفسهم بالكليّة للجماهير. وهذا ينطبق على البطولة والفن والأدب في روسيا، ثمرة الوحدة بين الجماهير والمثقفين وأقنان الأرض.وهذا يفسّر، إلى حد ما ثمرات اﻵداب الأوروبية، وحقيقة أن المبدعين وأتباعهم لم يفصلوا أنفسهم أبداً عن الجماهير.

هل سنُعايش مثل هذه الحال يوماً في أميركا؟ وهل ستفضّل البروليتاريا الثقافية الأميركية القيم يوماً على الدعة، وترغب أبداً بالتخلّي عن النجاح البرّاني في سبيل الأمور الأكثر محورية في الحياة؟ أظن ذلك لسببين، أولهما أن تحوّل المثقفين إلى بروليتاريا سيضطرهم للاقتراب من العمال. وثانيهما تحجُّر النظام الأيديولوجي البيوريتاني، والذي يُسبب رد فعل هائل مضاد لمعتقداته وروابطه الأخلاقية المتزمتة. إن الفنانين والكتاب والمسرحيين المناضلين، الذين يُكابدون لخلق شيء ذي قيمة، يُسهمون في تحطيم المعتقدات السائدة. لكن هؤلاء وحدهم لن يستطيعوا إنجاز الكثير. إنهم يحتاجون للشجاعة واللامبالاة الجسورين اللذين يمتاز بهما العاملون الثوريون، الذي أنجزوا قطيعتهم مع كل الحثالة القديمة. ومن ثم، فعبر تعاون البروليتاريا الثقافية التي تحاول إيجاد طريقة مناسبة للتعبير عن نفسها مع البروليتاريا الثورية التي تسعى لإعادة تشكيل الحياة، سننجح في تدشين وحدة حقيقية داخل أميركا، لنستخدمها في شن حرب ناجعة ضد مجتمع اليوم.

"

باحث ومترجم مصري