Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

موجع كان عصر الرابع من آب. وبعيداً عن عالم الأرقام، وحجم الأضرار، موجع كان لأنه أصاب قلب بيروت بالألم. لا أكتب اليوم عن بيروت لأرثيها، فالرثاء لا يليق إلا بالموت والهزيمة. ولست أقول الشعر إن قلت أن بيروت - حقيقة - أكثر من مدينة، بيروت عنوان قضية للنهوض وليس ساكنها وحده من ينتمي إليها

مصطفى خليفة

انفجار بيروت؛ عنصرية لا تشبه المدينة

"

موجع كان عصر الرابع من آب. وبعيداً عن عالم الأرقام، وحجم الأضرار، موجع كان لأنه أصاب قلب بيروت بالألم. لا أكتب اليوم عن بيروت لأرثيها، فالرثاء لا يليق إلا بالموت والهزيمة. ولست أقول الشعر إن قلت أن بيروت - حقيقة - أكثر من مدينة، بيروت عنوان قضية للنهوض وليس ساكنها وحده من ينتمي إليها.

بيروت هي صدى صرخات جمال عبد الناصر التي لا زلتَ قادراً على سماعها إن أصغيتَ تهمس بها الجدران والقلوب، بيروت حاضنة الثورة الفلسطينية بعد أن طُردت بالحديد والنار من عمّان، بيروت مقهى الويمبي، وطلقات خالد علوان، بيروت التي احتضنت عوائل المقاومين في تموز 2006.

بيروت هذه تسكن في قلوب أهلها من أبناء الأحياء الفقيرة المستضعفة وأبناء الأطراف الذين لقوا فيها رزقهم ومعاشهم وقضيتهم، فحموها وبذلوا الدماء لأجلها. ولعل أبرز شاهدَين على مكانتها في قلوب هؤلاء كانت خلدة 1982 حيث وقف أبناء الضواحي، والأطراف ليسطروا ملحمة في الصمود والمقاومة وليمنعوا جيش الاحتلال الإسرائيلي من الوصول لبيروت، وتموز 2006 حيث وضع المقاومون بيروت في مقابل تل أبيب فحموها ودفعوا ثمناً لذلك المزيد من الإمعان في المجازر وقصف المنازل في ااضاحية والجنوب والبقاع.

وبيروت في قلوب هؤلاء ظهرت في اللحظات الأولى من جرحها الأخير، من شباب الموتسيكلات (الدراجات النارية) أوائل المسعفين الذين هرعوا إلى مكان الانفجار قبل أن يستوعبوا حجم ما حصل، وليبدؤوا بعملية نقل الجرحى إلى المستشفيات المحيطة إلى حين استطاعت سيارات الإسعاف الوصول. ظهرت في "حسن" ذاك الشاب القاطن في محلة الأوزاعي (واحدة من أكثر ضواحي المدينة بؤساً) الذي ما إن سمع الصوت حتى نزل مسرعاً إلى المرفأ ليجد باخرة محاصرة تحترق ويستغيث عمالها، فما كان منه إلا أن تسلق حبلاً محترقاً كان يتدلى منها لينقذ ما يقارب الـ15 شخصاً، قبل أن يعود إلى مسكنه بصمت المطمئن. ظهرت في المبادرات الفردية لعوائل من الضاحية الجنوبية لبيروت، والبقاع، والجنوب، والشمال، أعلنت أنها مستعدة لتقاسم منازلها مع العوائل التي دُمرت بيوتها ولم تعد قادرة على البقاء فيها، وأيضاً مبادرات اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية لبيروت التي قدمت منازل خاوية في خدمة المتضررين، وبلدية الغبيري وكشافة الإمام المهدي (عج) وغيرها من الجهات الشعبية التي كانت من صباح 5 آب تلملم أثار الدمار الذي تسببه الانفجار. كما وفي مبادرات أبناء المخيمات الفلسطينية الذين كانوا من أوائل المبادرين لمسح الدموع عن وجه مدينتهم التي يحبونها.

هذه هي بيروت، وهؤلاء هم أبناؤها الذين بهم تُعرف، أما تلك الصورة المقيتة التي سعى الإعلام العنصري لتظهيرها فتشبهه هو. وهذا الإعلام تحديداً هو من تجاهل أحياء الفقراء المنكوبة بعد التفجير، كحي الكرنتينا الذي عاد بعض الشباب المتطوعين يبكون من هول ما جرى على أهلها البائسين على حساب رفاهية بعض الأحياء التي تتناسب والصورة التي يحبها أهل ذاك الإعلام. ففي الكرنتينا لم يتجول الرؤساء، ولم تجل كاميرات التلفاز - إلا بعد ما يقارب الأسبوع - ولم يسأل أحد عن بيوت مهترئة أصلاً فقدت أسقف المعدن التي كانت تحميها من شمس الصيف الملتهب ومطر الشتاء.

هذا الإعلام نفسه حرض بأسلوب مبتذل قميء على شباب هرعوا لمساعدة المصابين في الهيئة الصحية الإسلامية، وأسسوا لمناخ دفع بأشباههم من سكان بعض الأحياء المتضررة إلى طرد الشبان الفلسطينيي، في حين أفرد ساعات طوال من بثه المباشر لمواكبة عمل منظمات المجتمع المدني والإشادة بها، حتى طُرِد الجيش اللبناني من أحد الأحياء أمام الكاميرات لتقوم تلك المنظمات بدور الإغاثة والمساعدة.

ليس الأمر عفوياً، إنما هو صراع مستمر على وجه بيروت الذي ظهر على حقيقته الصادقة في الساعات الأولى، فكان لا بد من إعلام الانعزال أن يرسم المشهد الذي يريده من بيروت، بأن يستبدل صدى عبد الناصر بهتافات "تحيا فرنسا"، ويستبدل أبناءها المناضلين بجمعيات المجتمع المدني، ليس ذلك إلا استكمال لحرب دامت أكثر من عشر سنوات قاومت فيها بيروت محاولة الانعزاليين بجرها إلى المحور الإسرائيلي وخرجت منتصرة، وستبقى بيروت مدينة منتصرة.

"

كاتب وإعلامي لبناني