رغم كل ما مرّت به الميدل إيست من مآسي على مستوى المنطقة والوطن، وعلى المستوى الإداري الخاص، إلا أنّ كل ما ذكر لم يكبّد الشركة مقدار الأضرار التي صنعتها إدارة محمد الحوت.
الميدل إيست في بطن الحوت
"خذوا المناصب والمكاسب.. لكن خلولي الوطن"
الشاعر التونسي مازن الشريف
***
في كل مرة أسمع فيها كلمات "أنا مواطن" للشاعر التونسي مازن الشريف أشعر بنوع من الحسد. كيف أجد هذا الانتماء في وطن أبحث عن ملامحه فلا أجده؛ لا في ماضٍ، ولا في حاضر. هل انتهى تاريخنا مع الاستقلال؟ أم مات الوطن ولم يصلنا بعدُ الخبر؟
إن أقصى ما نراه - نحن أبناء الخندق الفقير – هو دولة تتقاسمها سلطة حاكمة، نحن منها كفلاح يعمل في أرض تعود بخيراتها لإقطاعي متخم. وما بين التدخّلات الخارجية والنزاعات الطائفية الداخلية والمحاصصة والاستزلام بُني هذا الوطن - من أصغر مرفق حتى مستويات قراره الأعلى.
يكفي أن نأخذ نموذجاً لواحدة من مؤسساته كالـ(MEA)، كي نستقرأ عطب تاريخ الدولة، وعقم السياسية في هذا البلد المتعب.
البدايات الأولى:
تأسست شركة طيران الشرق الأوسط (MEA) في 31 أيار عام 1945، على يد صائب سلام وفوزي الحص برعاية بريطانية. لم تمضِ بضعة أسابيع حتى أُعلن في بيروت عن تأسيس شركة طيران ثانية هي الشركة العامة للنقل (CGT- Compagnie Generale de Transport)، فكانت الميدل إيست شراكة بين مسلمين لبنانيين وبريطانيا، والثانية بين مسيحيين لبنانيين وفرنسا (Air France).
استقلّت الميدل إيست مطلع الخمسينيات عن بريطانيا، وتحوّلت إلى شركة مساهمة، فعقدت إتفاقًا مع شركة Pan American الأميركية، في زمن كانت أميركا تسعى لبسط نفوذها على المستعمرات الفرنسية والبريطانية في المنطقة، فباتت شريكة بحصّة 36% للشركة الأميركية. استطاعت الـ(MEA) بموجب ذاك الاتّفاق التزوّد بالطائرات الحديثة، والوصول إلى مطارات الخليج العربي كأوّل طيران مدني يصل إلى تلك المناطق. لكنّ العلاقة الطيبة بين الميدل إيست وPan American لم تدم طويلًا. إذ نشب خلاف بين صائب سلام وفوزي الحص، وعجز سلام عن تحقيق مطلب أميركي في التدخل لدى محمد مصدّق، رئيس حكومة إيران آنذاك، للقبول بمشروع شراكة أميركية إيرانية حول آبار النفط الإيرانية. أدى الخلاف بين سلام والأميركيين إلى تدهور العلاقة مع الشركة المذكورة، وبالتالي تدهور خدماتها. دعا سلام في حينه إلى اجتماع مجلس الإدارة الذي يضمّ كبار المساهمين، وعرض على ممثلي الشركة الأميركية شراء الإنكليز لأسهمهم، فتقدم الأميركيون بردّ مضاد أنّ على آل سلام بيع أسهمه للمساهمين الباقين، فوافق صائب سلام. واشترت الشركة البريطانية BOAC أسهم سلام، إضافة إلى أسهم الشركة الأميركية، وأصبحت تملك 78% من أسهم الشركة عام 1956.
عودة رأس المال اللبناني:
وفي تموز 1959 طلبت الشركة البريطانية من الميدل إيست تحويل ديونها المستحقّة إلى رأسمال على شكل أسهم، وأن يعمل محامو الميدل إيست على إلغاء الطابع المؤقت لملكية الشركة البريطانية، فتتحوّل صكوك الملكية إلى مركز الشركة الرئيس في لندن. جاء ذلك بعد تعثّر الشركة بسبب الظروف الدولية والعربية وتأثير الحروب في المنطقة على حركة الطيران، إلّا أنّ تراكم الديون أثار الرّأي العام البريطاني، الذي رأى في الميدل إيست استثماراً غير رابح. إزاء هذا الواقع عرض نجيب علم الدين على يوسف بيدس صاحب ومدير بنك أنترا (الإمبراطورية المالية الكبيرة في ذلك الوقت) شراء أسهم الشركة البريطانية فوافق كما وافق الجانب البريطاني.
هكذا اشترى بنك أنترا عام 1960، 51.5% من أسهم الميدل إيست ليصبح هو صاحب القرار في الشركة، ثم عاد في 16 آب 1961 واشترى كل أسهم الشركة البريطانية. وفي 19 حزيران 1963 اشترى أنترا شركة Air Liban (وهي شركة المسيحيين)، بعد صراع سياسي طائفي مرير. هكذا دُمجت الميدل إيست مع Air Liban لتصبح شركة واحدة بإسم (شركة طيران الشرق الأوسط - الخطوط الجوية اللبنانية). فأصبحت الميدل إيست درّة تاج امبراطورية أنترا كما يصفها كمال ديب في كتابه. "يوسف بيدس، امبراطورية أنترا وحيتان المال في لبنان".
حققت الشركة منذ ذلك الوقت حتى عام 1966 - تاريخ سقوط بنك انترا وانهياره - أرباحًا طائلة،ً وكانت في مصافّ شركات الطيران العالمية.
انهيار طيران الشرق الأوسط:
بين عامي 1975 و 1980، تعرّضت الشركة لخسائر فادحة بسبب الحروب التي عصفت في لبنان والمنطقة، حيث بلغت الخسائر السنوية 22 مليون دولار بين عامي 1975 و1976 و6 ملايين دولار كل عام بعد ذلك. كما تعرّض مطار بيروت للإقفال أكثر من مرّة ولفترات طويلة بعد الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 حتى عام 1990.
الميدل إيست في ظل الطائف ودولة المحاصصة الجديدة:
بعد انتهاء الحرب الأهلية باتفاق الطائف عام 1989، وإعادة تشكّل دولة المحاصصة من جديد، تمّ توزيع إمبراطوريّة أنترا البائدة حصصًا على أصحاب السّلطة، وكانت الميدل إيست من نصيب رفيق الحريري. أجرى الحريري تغييرات عديدة في مجلس الإدارة الجديد الذي أصبح برئاسة محمد الحوت. كان الحوت موظّفًا في مصرف لبنان وعضو مجلس إدارة شركة إنترا ممثّلاً مصرف لبنان. بعد تعيين الحوت جرى دمج منصب رئيس مجلس الإدارة مع المدير العام وبات الحوت يستحوذ على كل الصّلاحيات. أمّا ما الذي جرى بعد تسلّم محمد الحوت؟ فتلك حكاية أخرى.
الميدل إيست في بطن الحوت:
رغم كل ما مرّت به الميدل إيست من مآسي على مستوى المنطقة والوطن، وعلى المستوى الإداري الخاص، إلا أنّ كل ما ذكر لم يكبّد الشركة مقدار الأضرار التي صنعتها إدارة محمد الحوت.
من التوظيفات العشوائيّة، كتعيينه لشقيق زوجته جميل حمام مديراً إقليمياً في بغداد والنجف، (والذي أوقف عن العمل بعد انكشاف سرقاته فسافر إلى أميركا حاملًا معه أمواله عوض أن يحاكم ويحاسب)، إلى توظيفه لابنته نادية مسؤولة عن لجنة فحص المضيفات المرشّحات للتوظيف في الشركة، ثمّ تمديده خدمة الموظفين المحظيّين دون معيار واضح لعملية التمديد هذه، إلى توظيف أبناء وأقارب لشخصيّات سياسية وعسكرية وأمنية، أوغل الحوت في مزاجيته الإداريّة، فأضاف مبالغ جد كبيرة على رواتبهم أيضًا، وهو ما برز في قراره إعادة النظر في الرواتب عامي 2015 – 2016.
وللحوت مع التوظيفات الإدارية حكاية أخرى، ففضلاً عن احتفاظه بالمراكز الهامّة بعد شغورها، هو لا يوظّف من يلي شاغل المنصب رتبةً، بل يتركه شاغرًا للمقايضة مع أصحاب المسؤوليّة في السلطة. يفهم الحوت جيداً قوانين اللعب السياسي في لبنان، هو يعرف كيف يكسب ودّ الطبقة السياسية؛ "الخدمات في مقابل الحماية"، تلك هي الصيغة اللبنانية التي وعاها الحوت جيداً.
يمتلك الحوت صندوقاً خاصاً، يمثل نسبة من عائدات الشركة (3%) موضوعاً بتصرفه، يصرف من أمواله كيفما يشاء دون حسيب أو رقيب. لم يقتصر الفساد في شركة طيران الـ(MEA) على سوء الإدارة وتنظيم الصرف، بل تعداه لاستخدام مرافق الشركة لغايات شخصية. عُرف عن الحوت تنظيمه سفرات سياحية يدعو إليها السياسيين والأقارب كانت تكلف الشركة مئات آلاف الدولارات. إلى اليوم لا زالت رحلة برشلونة – تولوز، عام 2013، من أغرب ما يثير الدهشة والسخرية. 107 ركّاب من كبار موظفي الدولة (قضاة، سياسيين وإعلاميين) قضوا 7 أيام بين برشلونة وتولوز إحتفاءً باستلام الـ(MEA) طائرة إيرباص 320، على نفقة الشركة! هي مملكة الحوت و"شركته الشخصية". للحوت في المطار قاعة باسمه، يقيم فيها المؤتمرات والندوات، والعزاء لأقاربه إن اقتضى الأمر. وله في المطار شقة بنيت حديثًاً على سطح المبنى الجديد لإدارته، لكنه فضّل أن يُسكن فيها ابنتَه ريثما يجهز منزلها. الحوت يدير "على الطريقة اللبنانية". هو يعرف من أين "يؤكل الكتف" في الصيغة اللبنانية. يوزّع الإدرات ومناصب والوظائف على كل أطياف العمل السياسي اللبناني، كلّ بحسبه وبقدره، وعلى جميع الطوائف بحسب الأولوية. وحدهم المسيحيّون مغيبون عن المشهد الوظيفي في المطار. يعي الحوت جيداً معنى المحاصصة، ويعي في الآن عينه أن ما من مكان للمسيحيين في المطار بحسب القسمة اللبنانية.
احتفال الـ70:
عام 2015، وفي إطار إحياء الذكرى الخامسة والسبعين لانطلاق شركة طيران المتوسط، أقام الحوت حفلاً فنياً – سياسياً حضره كل أقطاب الساحة اللبنانية. قدّم في الحفل أغنية بلغت كلفة انتاجها 42 ألف دولار، وفيلماً وثائقياً (مدته 50 دقيقة) بلغت تكلفته الإجمالية 132 ألف دولار، 70 ألفاً منهم للإعلامي المعد، وهو أحد أبرز الوجوه الإعلامية (المنظّرة لمحاربة الفساد) في الساحة اللبنانية. مرّة جديدة، يعي الحوت جيداً منطق العمل السياسي والإعلامي اللبناني، وصيغة عمله الفريدة.
عن حقوق الموظفين:
يستمرّ المسلسل بأحداث جديدة لا تقل تشويقًا، مع شركة ترانس الصايغ للحمولة وهي التي لُزِّمت نقل الأمتعة داخل المطار من قبل شركة MEAS التابعة لشركة طيران الشرق الأوسط. تتلقّى شركة ترانس الصايغ مبلغًا شهرياً قيمته 155 مليون ليرة شهرياً بدل رواتب لـ160 عاملاً في الشركة. إلى هنا كلّ شيء جيّد. لكن شركة ترانس الصايغ لا تدفع لهؤلاء رواتبهم، والحجّة أنهم يتلقون أجرة من الركاب مقابل نقل أمتعتهم، علماً بأن الموظفين في هذه الشركة يرفضون التحدّث عن هذا الواقع؛ لأن ما يجنونه شهرياً يفوق بأضعاف ما كانوا سيحصلون عليه من الشركة. الأمر لا يقف عند هذا الحد، في وثائق اطّلعت "الخندق" على عدد منها يُلزم الحوتُ الموظفين المتقاعدين توقيع طلب إعفائهم من بدل التأمين الصحي، تحت عنوان "تخطي سقف المصاريف الطبية" فترةَ خدمتهم في الشركة.
ختام:
لم نسرد تلك الرواية التراجيدية بهدف إلقاء الضوء على مكمن من مكامن الفساد في لبنان فحسب، بل أردنا من خلالها أن نحكي عن قصة وطن، أُنشأ برعاية أوروبية، ومضى بمحاصصة طائفية داخلية، وأنهكته الأيادي السود لذوي الياقات البيضاء - وما أكثرهم - في وطن أريدَ له الموتُ يوم ولادته.
Related Posts
كاتب وإعلامي لبناني