Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

رغم مرور أكثر من 55 عاماً على صنعه، يظل فيلم معركة الجزائر ملهم ومحفز المنظمات الثورية وحركات العمل الرفضي ضد الأنظمة السلطوية. سُلط الضوء على الفيلم بشدة في وسائل الإعلام بعد عرضه في مركز وزارة الدفاع  الأميركية 'البنتاغون'"، في إطار تجهيز الحكومة الأميركية للعمل على إنتاج آليات لمواجهة التمرد بعد غزو العراق عام 2003."

محمد فرح

الملتقى في مكة الثورة: إبن القصبة والرفيق برنابا

"

"إما أن نحقق الاشتراكية الثورية معاً في كل مكان، وإما أن يصرعنا، واحداً بعد واحد، الطغاة الذين كانوا يحكموننا" 

جان بول سارتر في مقدمته لكتاب معذبو الأرض لفرانتز فانون 

***

رغم مرور أكثر من 55 عاماً على صنعه، يظل فيلم معركة الجزائر ملهم ومحفز المنظمات الثورية وحركات العمل الرفضي ضد الأنظمة السلطوية. سُلط الضوء على الفيلم بشدة في وسائل الإعلام بعد عرضه في مركز وزارة الدفاع  الأميركية "البنتاغون"، في إطار تجهيز الحكومة الأميركية للعمل على إنتاج آليات لمواجهة التمرد بعد غزو العراق عام 2003. تاريخياً جسّد الفيلم تكثيفاً عالياً للنظرية الثورية المستوحاة من واقع ثورة التحرير الجزائرية. التكثيف النظري المجسد في الفيلم جعله مرجع رئيسي لحركات التحرر الوطني ومنظمات العمل الثوري، كما تم استعماله أيضاً من قبل الأنظمة الدكتاتورية المهيمنة في جنوب العالم ومن قبل مراكز القوى الاستعمارية القديمة للتدريب ولإنتاج آليات للسيطرة ومواجهة التمرد. العديد من المنظمات الثورية كفصائل الثورة الفلسطينية، المنظمات الثورية في أميركا الجنوبية، وحزب الفهود السود في الولايات المتحدة الأميركية نظمت عروضاً منتظمة للفيلم كشرط لعضويتها. وُصف الفيلم في جريدة الفهود السود بدليل الثورة، كما طلب المقاتل الأممي إليتش راميريز سانشيز "كارلوس" مشاهدة الفيلم مع ياسف سعدي بعد أن انتهى الأمر بكارلوس  في الجزائر للتفاوض على إطلاق سراح الوزراء المختطفين من مبنى منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك سنة 1975.

تم إنتاج الفيلم عام 1965 بتمويل جزئي من الحكومة الجزائرية. كانت شخصية ياسف سعدي القائد السابق للجناح العسكري لجبهة التحرير الجزائرية، في مدينة الجزائر العاصمة، مركزيةً في السعي لصناعة الفيلم وإنجازه، كما مثل دور نفسه في الفيلم. كتب ياسف سعدي مذكراته عن معركة الجزائر خلال فترة سجنه في فرنسا بعد الهزيمة في معركة الجزائر (1956 – 1957) وقبل انتصار حرب التحرير عام 1962. بعد خروج سعدي من السجن مع انتصار الثورة وتحرر الوطن من المستعمر المستوطن سعى ياسف لتجسيد ذكرياته عن المعركة في فيلم سينمائي يحفظ للأجيال ذكرى العمل المقاوم الثوري.

في وقتها لم تكن قد تشكلت بعد صناعة سينمائية مؤسسة في الجزائر، فكان التصور أن تتم صناعة الفيلم بالتعاون مع أحد المخرجين الإيطالين اليساريين المناصرين لقضايا الثورة والتحرير. كانت دائرة الاختيار محصورة في ثلاث مخرجين سينمائيين هم: لوكينوفيسكونتي، فرانشيسكو روسي، وجيلو بونتيكورفو. وقع اختيار ياسف على بونتيكورفو فتمّت صناعة التحفة السينمائية على يديه بتعاون مع صديقه ورفيقه في النضال أيام المقاومة ضد نظام الفاشية كاتب السيناريو فرانكو سولينا. شكلت تجربة بونتيكورفو "كان إسم جيلو الحركي أيام المقاومة برنابا" وسولينا كمقاتلين سابقين في كتائب المقاومة الإيطالية ضد الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية نقطة تلاقٍ سمحت لهما بفهم الرؤية التي أراد ياسف تجسيدها عن ثورة التحرير والنضال المسلح. 

الميلاد من نار القهر:

"عندما يعترضون تغضبون، عندما يوافقوا تشعرون بالريبة، وعندما يصمتون تشعرون بالخوف. هؤلاء القوم ليس لديهم أمة ولا حتى رابطة دين. هم فقط يريدون أن يلحقوا بكم... لا ترفضوهم فيخلقوا أمة لأنفسهم"

موريس فيوليت - الوالي العام للجزائر تحت الاحتلال الفرنسي مخاطباً أعضاء مجلس الشيوخ

***

يجسد الفيلم نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الاستيطاني عن طريق تتبع سيرة مجموعة صغيرة من المقاتلين كنموذج ومثال على النضال التحرري للشعب الجزائري. يتتبع الفيلم سيرة علي عمار الشهير بعلي لابوانت والمجموعة المقاتلة التي بقيت معه حتى استشهادهم بعد أن تقطعت بهم السبل مع خسارة قوات جبهة التحرير لمعركة الجزائر (1956 – 1957). شملت المجموعة بالإضافة لعلي كل من حسيبة بن بو علي، محمود بو حميدي، وعمر الصغير إبن الـ13 ربيعاً. تم التركيز على شخصية علي عمار بالخصوص كتجسيد لطاقة الخلق العالية وكَتبْيين لإمكانيات التحرر التي تخلفها لحظة الثورة في خلقها لأفراد جدد متجاوزين لفرديتهم وملتحمين في تيار ثورة الشعب الجارف. سلط الفيلم الضوء على آليات المنظومة الاستعمارية في العقاب والإخضاع وبيّن كيف أن المنظومة الاستعمارية تخلق من السكان المحليين أفراداً غارقين في تيه الجريمة.

يبدأ الفيلم بـمصادمة بين علي لابوانت المتتبّع من قبل سلطة الشرطة وبين أحد المستعمرين الأوروبيين. مع إلقاء القبض على علي يسرد الفيلم لنا سيرته الذاتية كسيرة للوطن المسلوب. فهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب. تعلّم الملاكمة لكن بنية النظام القائم لم تسمح له بممارستها كمحترف فسلك طريق الجريمة لانتزاع قوت يومه. تنقلت به الحياة بين السجن والخروج لواقع مجتمع مستعمَر في ظل احتلال حوّل الجزائر كلها لسجنٍ كبير تُخضع فيه طاقات الشعب لخدمة المستعمِر المستوطن ولتحقيق رغباته ومصالحه. تعرف علي لابوانت على أعضاء جبهة التحرير الجزائرية داخل السجن فانضم للجبهة وصار جندياً بين صفوفها.

 ولدت جبهة التحرير الجزائرية على يد جيل الشباب الذي شارك في الحرب العالمية الثانية في جيش فرنسا الحرة لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي، فقاتلوا صفاً لصف مع قوات الحلفاء ومع كتائب المقاومة الإيطالية ضد النازية والفاشية. في تلك الفترة أبدى الضابط برتبة رقيب أول في جيش فرنسا الحرة أحمد بن  بيلا إعجابه بصلابة مقاتلي المقاومة الإيطالين، الذين كان من بينهم جيلو بونتيكورفو وفرانكو سولينا. وهو وإن لم يلتقِ بهما مباشرة خلال فترة الحرب إلا أن روح المشاركة في عمل ثوري مشترك ضد طغيان نظام أوروبي مستكبر كانت مسألة مركزية في خلق تصور جيلو وفرانكو عن العمل المقاوم ضد الاستعمار، جسداه لاحقاً في فيلم معركة الجزائر. فالعمل المقاوم واحد لا يختلف سواءً كان في فرنسا ضد طغيان النازي، أو في فيتنام والجزائر ضد طغيان فرنسا كم أوضح جيلو نفسه بعد ذلك. 

أدرك شباب الجزائر حقيقة سياسة فرنسا بعدما رأوا بأعينهم فظاعة العنف الذي مارسته إمبراطورية الحرية ضد سكان الجزائر في مجزرة سطيف التي ارتكبتها القوات الفرنسية ضد المتظاهرين الجزائريين السلميين المطالبين بتحقيق حقهم في الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فخلقت تلك اللحظة نقطة مفصلية في تصور جيل الشباب الساعي للحرية وتجاوزوا التصورات القديمة عن ضرورة التفاوض والرضى بما تمنحه لهم فرنسا. كما تجاوزوا التصورات المراهنة على القوى الخارجية وسعوا لتحقيق استقلالهم بأيديهم كما أوضح عمار أوزغان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري عند خروجه على الحزب الشيوعي الجزائري الخاضع والتابع للحزب الشيوعي الفرنسي. في نص كتابه "خير الجهاد" الذي كتبه بعد خروجه على الحزب وأوضح فيه إشكالية البنى القديمة وافتقادها القدرة على تغير الواقع المعاش يقول عمار: "عممت الأيديولوجية الإصلاحية سياسة التسويف إلى أن يحضر المحرِّر الذي ظهر بأوجه متتالية؛ فهو سيدنا سلطان اسطنبول، ثم الحاج قيوم الثاني، والغازي أتاتورك، ويوسف ستالين، فهتلر، وروزفلت". لم يتناول الفيلم تعقيدات الواقع الجزائري بالتفصيل ولم يتطرق للمجموعات الجزائرية السابقة لجبهة التحرير فهو وإن كان تجسيداً سينمائياً لثورة الشعب الجزائري إلا أن فيه من التجريد والتكثيف النظري ما سمح بأن يُتلقى بالقبول في ساحات ثورية مختلفة فنال الفيلم جائزة أفضل فيلم باختيار النقاد الكوبين عام 1967 وكان من أول الأفلام التي عرضت في دور السينما بعد انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979. مستوى التعقيد في الفيلم والسردية التي تظهر ديالكتيك العلاقة بين المستعمِر والمستعمر أعطى الفيلم جاذبية سمحت بقبوله في الساحات السينمائية الرسمية البعيدة عن العمل الثوري، فرُشِّح لجائزة الأوسكار وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا.

في العنف:

"لقد أدرك منذ ولادته إدراكاً واضح إن هذا العالم المضيّق، المزروع بأنواع المنع، لا يمكن تعديله إلا بالعنف المطلق"

فرانتز فانون 

***

فيلم معركة الجزائر ليس مجرد توثيق سردي لأحداث حرب التحرير. فالفيلم ليس مجرد إعادة سرد للأحداث من غير وعي، بل هو بناء منتظم للسرد في خط واعٍ ونقدي.

يقدم الفيلم سردية منتظمة تحاول أن تحفز ذهن المشاهد للإجابة عن سؤال موقع العنف من النضال التحرري ومدى ضرورته. يوضح الفيلم مسألة عرضية العنف وتبعيته للوضع الاستعماري القائم. فالعنف نتيجة حتمية للبنية الاستعمارية لأن البناء الاستعماري بذاته قائم على ضرورة الإخضاع والسيطرة.

العنف ملازم لبنية النظام الإستعماري. لكي يخلق واقع يسمح للمستعمِر باستغلال الأرض المستعمَرة واستنزاف مواردها. والعنف الممارس من قبل سلطة المستعمِر المهيمن على الوجود يخلق أشكالاً مختلفة من العصاب بين الأطراف المنطوية داخل لعلاقة الاستعمارية.

الثورة تخلق الثوري:

يظهر في الفيلم بوضوح تجسيد للعلاقة المعقدة بين مفهومي النظرية والممارسة في العمل الثوري. في مشهد اللقاء على سطح أحد المنازل بين علي لابوانت والعربي بن مهيدي ليلة الإعداد للإضراب الكبير يدور حوار تغلب فيه كفة تصور بين مهيدي المنضبط بالتصور النظري وضرورة العمل على عدة مستويات من إعداد وتحفيز لجماهير الشعب للحظة الانتفاضة الشاملة وبين تصور علي لابوانت المشدود أكثر لضرورة الفعل العنيف والممارسة الثورية لتحقيق الانتصار في المعركة. 

العمل في الظل بعيداً عن عين الرقيب المهيمن: 

"في شباط/فبراير 1957 أقامت فرقة المظلات ثكنات على أسطح حي القصبة الذي تحول إلى مخيم تجميع هائل" 

ياسف سعدي

***

باستعمالها المفرط لآليات القمع والإخضاع، والاعتماد على التقنية في المتابعة والتتبع ونجاح قوة المظليين الفرنسية في تصفية القيادات العسكرية لجبهة التحرير في مدينة الجزائر العاصمة. استتب الأمر للقوة الفرنسية وخرجت منتصرة من المعركة. لكن القوى المقاومة عادت لآليات العمل السري فتمكنت من الاستمرار في العمل. لقد كسبت القوى الفرنسية معركة الجزائر لكنها خسرت حرب القلوب والأفكار. والتضحيات المستمرة من قبل المقاومين كعلي لابوانت خلقت رابطة لا تنفك بين المقاوم وبيئته. فكانت ذكرى علي وصحبه محرك رئيسي لتثوير الجماهير وتحريك الشارع نحو العمل الثوري. بُعثت روح علي من جديد من تحت رماد الانفجار محفزة لجماهير الشعب، فأستمر العمل المديني والعمل الثوري المسلح في الريف حتى تحققت كتلة حرجة من الجماهير غيرت واقع الصراع لتفقد فرنسا قدرتها على السيطرة بعد ذلك.

 

"

كاتب سوداني