المضرّجة بعطرها
"
من الأعلى، يمامةُ الخرابِ المعلَّقِ... ترصد المخيم الأدنى من دولابٍ مثقوبٍ يتحلَّلُ في كفنِ التّراب...
تبصِرُ جدراناً متآكلةً كتفاحة نهشتها جرذانُ المزابل...
و النفاياتُ أُصَصُ زهرٍ تستريحُ دون ظِلٍ على مداخل الأحياء و العتبات...
حيطانٌ مهشّمةٌ حد التٍّهميش... تُدثّرُها أوشامُ المنسيين، و تستُرُها عن أعيُنِ الحرّاس عرائشُ الإهمال...
فالإغماءُ افتعالٌ و عمشُ التناسي ضبابٌ سنّتهُ القوانين...
أسلاكُ الكهرباءِ مشانقٌ تتشَابك... تتحالفُ... تتآلف... كثعابينَ بجلدٍ ممزقٍ تلسع كل دانٍ سها عن التفريقِ بين العازل و نحاسِ الموت!....
تتحرّى اليمامة شكل الأبنية، صناديقَ حِسبةٍ متكسّرة، ركنتها فوق بعضها يد العشوائية!
بيوتٌ مطربشةٌ بالإختناقِ دون القرميد... ملبّسَةً بالذّلّ الباذخِ دون صخور الزّينة... مسكونةً بالقلق و الذعر و الفقر المعدِم،
و إعدامٌ طائشٌ تختاره الثعالب المشتبكة مع بني آوى و ذئاب الليل و النهار حينما تشاء!
تعطشُ اليمامة، تُبْصِرُ خزاناً يقطِرُ منه الماء الملوّث، تنزِلُ مواسيةً أكبادَ أطفال الرّماد لتشرب، هكذا يولدون هنا... جمرٌ مترمّدٌ يُذَرّيه الموت.. المرض.. القتل.. الحرمان.. التشتت.. أو جبلةٌ من كلّ ذلك!
تشرب اليمامة، يتمرمرُ حلقها كأنّها شربت حليب التين...
تخفِقُ جناحيها مستعدةً للتحليق... دويّ الرصاصِ يقص شريط الشرود، يقطعُ هدوء خفقات القلوب...
تسمعهُ أمٌ تحمِلُ طفلها.. تشدّه إلى صدرها كما تحمل بلاد الأحلامِ أبنائها.
تتسارع نبضاتُ قلبها تزامناً مع خطواتها في محاولةٍ للنجاة من سربِ رصاصٍ طائشٍ... لكن عبث! تهوي أرضاً، تتلوّى لثوانٍ كزهرةِ رمان تسقط!
تختنقُ اليمامة... تحزّ في قلبها:
"ليتني كنتُ أضحيةَ الورود...
أيّها الموت... كيف أصبحت أبردَ من مكعّبِ ثلجٍ فوق جبينٍ محموم؟ أسرعَ من نقزةِ طفلٍ لمح طيفاً عابراً في المنام؟
كيف تكون الورود ضحيةَ نباتٍ من ذات الرَّحم... كيف التكالُبُ على الموت البطيء يُولّد موتاً بلمح البصر؟!"
تقول اليمامة: "قم يا بنيّ و اقصص رؤياك على من تشاء...
لو أنك لم تكن من أبناء الرّماد... لو أن ورود تسير بك في سيارةٍ فارهة يقودها سائقٌ خاص... تجلسان في الخلف... تفكر في تصفيف شعرها... في حفلةٍ تقيمها الليلة... و مربيةٌ خاصةٌ تجلس على ركبتها، تشربُ حليباً مجففاً من لبن العصفور...
لصار ذبول الورد حديث العالم...
و لصار الصمت يوسف الصديق يُعبّرُ دمع كابوسك... و يذيعه في كل الأمصار...
لكن البلاد... هذي البلاد... كلّ البلاد...
ليست لنا!
"
Related Posts
كاتب لبناني