'الخندق'" ليست صحيفة بالمعنى السائد اليوم. هي لا تعبر عن مشروع لجهة ما أو مؤسسة، بقدر ما تعبر عن حالة شعبية يعيشها فئة من اللبنانيين. '"الخندق'" سؤال تولّد في لحظة من تاريخ معيشتنا عشية 17 تشرين 2019: لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؟. لا تمتهن '"الخندق'" الإجابة بقدر ما تحترف السؤال."
الصحافة ليست مهنة
كيف ننقذ الصحافة لئلا تكون مهنة؟. هو ليس سؤالاً ترِفاً. لكنه مفاجئ للمزاج العام بعض الشيء. وسؤالنا هذا، لا يطمح لأكثر من صدمة أولى لا تأتي من جهة، فلا يتحمل مسؤوليتها فاعل محدد. هو فكرة، أعدنا صياغتها في سؤال، كان قد نادى بها كارل ماركس؛ "المثالي الألماني المتأثر بفيورباخ قبل أن يصير شيوعياً" في صحيفة راينش تسايتونج "Rheinische Zeitung" التي شغل رئاسة تحريرها في كولونيا عامي 1842 و1843.
والفكرة من السؤال واقعية بقدر مثاليتها. فأن ننقذ الصحافة من كونها مهنة يعني أن ننقذها من رأس المال المستحكم بها، ومن وأخلاقياته التي أخذت على عاتقها صناعة "أيديولوجيا المهنية"، كنوع من أخلاقيات العمل البروتستانتية. في الجامعات، تدرَّس أخلاقيات الصحافة، وتؤدلج لها عناوين كالموضوعية، والحياد، وطرائق عمل الصحافي مع المعلومة – لا الفكرة – ليس إلا. في الجامعات تحضر كل الأسئلة ذات العلاقة بالكيفيات ويغيب سؤال البدء: لماذا؟. لماذا عليَّ أن أكون صحفياً؟. هذا سؤال من خارج باراديغم الأكاديميا، ومن خارج "الغنائيات" الأكاديمية لهذه الحرفة. فألا تكون الصحافة مهنة يعني أن تكون الصحافة حرة. وهذا النوع من الصحافة حرفة لا يريد أن يسمع بها أحد.
لقد اعتاد الصحافي أن يلقي بنفسه بعد السؤال وبعد الإجابة، وكأنه بمنأى عن حرفة التفكير. في عالمنا العربي بشكل خاص، يستسهل الصحافي التنقل بين الأجوبة الجاهزة. فنرى مقولاته تأتي على الدوام، بعد انقضاء حرفتي السؤال والجواب معاً، وفي غير أمكنة الإشكاليات المطروحة. محقة كانت مخاوف تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر من الصحافة في كونها وسيلة من وسائل السيطرة. فلقد أنهت الصحافة "اليقين العقلاني/ الأورودوكسا" لصالح الشائعة، والتداول، واللايقين. والتداول في الأصل يطلق أخباراً، شائعات، وأقاويل. يقول مطاع صفدي، في التداول هناك على الدوام ضمير الغائب: يُقال، وقالوا، وعرفنا أن، وعرفوا، وليس لهذا الضمير سوى أن يطرح ما في جعبته ويمشي. إنه ليس مكلفاً ولا يكلف أحداً مهمة الشك أو البرهان أو الانكار. إنه نوع من شبه العقلانية المخادعة التي تبني أكواماً من الإجابات مقابل السؤال.
ذاك ما ننتقده في "الخندق"، وذاك ما عزمنا الثورة عليه. "الخندق" ليست صحيفة بالمعنى السائد اليوم. هي لا تعبر عن مشروع لجهة ما أو مؤسسة، بقدر ما تعبر عن حالة شعبية يعيشها فئة من اللبنانيين. "الخندق" سؤال تولّد في لحظة من تاريخ معيشتنا عشية 17 تشرين 2019: لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؟. لا تمتهن "الخندق" الإجابة بقدر ما تحترف السؤال. للسؤال حركة مستقلة تجعله يجلس منقطعاً عما ينبغي أن ينتهي إليه. سؤال "لماذا؟" تحديداً، يتشبث بموقعه الانفصالي ليستعيد دوماً لحظة البدء. هو يحضر في كل ما يتبعه لكنه لا ينتهي في كل ما يلحق به. وهذا شأن صحيفة الخندق وما نؤمن أننا عازمون عليه.
تشعل الخندق اليوم شمعة سنتها الأولى. هي قامت بجهود كتّاب صادقين ممن آثروا خوض غمار هذه المغامرة. قبل عام قلنا، "الخندق مغامرة ورقية". اليوم نعيد وصف المغامرة لهذه التجربة. لكنها مغامرة من نوع مختلف. لقد استطاعت هذه الصحيفة أن تجمع حولها طيفاً واسعاً من الكتاب والمثقفين والناشطين في لبنان والعالم العربي، ممن يرون في هذه التجربة اختلافاً بيّناً عما اعتاده الإعلام النمطي. للسياسة في الخندق معنى مختلف، وللانتماء فيها معنى مغايراً. هي تلتقي بكل من يريد أن يجترح كوة في جدار واقعنا الصعب. الخندق سؤال الإنسان (لا السلطة، ولا الدولة، ولا الجماعة) في لبنان وسوريا، والعراق، ومصر. هي سؤال الإنسان في العالم العربي وعلى امتداد هذه الأرض.
واليوم نعيد ونؤكد، الخندق منتمية بشكل واضح لخيار مواجهة الهيمنة الأميركية والغربية على منطقتنا. وهي منحازة بوضوح ضد كل من يختزل المجتمع بمقاربات أحادية. والخندق لن تكون يوماً في صف مائعي الهوية من جماعات المجتمع المدني الجديد. وهي ليست منبراً للطبقة الوسطى الجديدة في لبنان (كما يحلو لنخب "ما بعد الكولونيالية" تسمية هذه التجارب) ممن تحترف النقد الأكاديمي الباهت. هي لا تعتبر نفسها بالأصل معنية بغير أسئلة الواقع، انطلاقاً منه وإليه. الخندق صحيفة مقاتلة، في أفكارها وخط تحريرها، في موضوعاتها وتطلعاتها، في وأدبياتها وكل ما ينتج منها، أو عنها. هي سؤال الإنسان البسيط في ألمه ووجعه، في خبزه وعرقه، وحقه وحقيقته. وهي سؤال العقل – البدء؛ حول العدل والعدالة الإنسانية الذي لا يقبل أجوبة ناجزة.
"Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق