Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم تكن هذه الثورات ثورات عمالية، أو إسلامية، أو فلاحية، أو ثورات فقراء، أو ثورات ريف ضد حضر، أو تقليد ضد حداثة، أو شيوعية ضد الرأسمالية، أو علمانية ضد الدين. لقد مثّلت تحالفاً عفوياً للمطالب، وتواضعت في لحظة تكثيف على مطلب سياسي هو 'إسقاط النظام'"."

مصطفى عبد الظاهر

الشعبوية: ثورة للقضاء على كلّ ثورة

"

"يُمكن للمقاومة أن تكون مُستلبة، ويمكن للخضوع أن يكون مُحرّراً؛ هذا هو تناقض الخاضعين الذي لا مفر منه" بيار بورديو.

***

 

في العقود المتأخّرة من القرن العشرين، تعرّضت القوى الديمقراطية واليسارية بوجه خاص لسؤال حتمي ومأزق تاريخي كان واضحاً منقبل، وبلغ ذروة وضوحه مع احتجاجات العام 1968.

لقد تغيّرت الحالة التاريخية للطبقة العاملة، وتغيّر تكوينها الداخلي، ولم يعد بالإمكان اعتبارها الفاعل الرئيسي ضد الاضطهاد السياسي أو الاستغلال الاقتصادي، لأنها افتقدت الشروط الموضوعية التي يُمكن أن تؤسس لوعيها بذاتها.

ربما توجد الطبقة العاملة "في ذاتها" كحالة موضوعية، على الرغم من اتساع رقعة المُعرّضين للاستغلال، الذين يعتمدون على بيع قوة عملهم، لكنها لن تتمكّن من تأسيس وعي "لذاتها"، لأنها افتقدت شروط العفوية والتسلسل التي تؤدي إلى الانخراط في تنظيمات سياسية تُمكّنها من أن تعمل معاً تحت لواء برنامج سياسي واحد، سواء كان يستهدف الإصلاح السياسي أو خلق نمط إنتاج جديد.

كاستجابة لهذه المعضلة، طُرح العديد من الأفكار التي يُمكن أن تجمع ما هو متفرق عبر مرحلة "توسط". وتضمّنت هذه المحاولات العديد من الإجابات "الما بعد" بنيوية أو ماركسية أو حداثية، من بينها فكرة ما تزال تحظى بزخم نظري جاد إلى اليوم، ألا وهي الحل الشعبوي.

لقد ساهم العديد من المنظّرين السياسيين المعاصرين في النقاش حول الشعبوية، رفضاً وقبولاً، ويُمكن أن نجد أكثر أشكالها تماسكاً عند المنظّر الأرجنتيني أرنستو لاكلاو. باختصار أرجو ألا يكون مُخلّاً، وبالتخلي عن الكثير من المصطلحات المعقّدة التي يستخدمها لغرض الشرح، يرى لاكلاو أن الشعبوية هي العملية التي يتم فيها خلق فاعل سياسي عابر للطبقات تحت اسم الشعب، يُمكنه عبر تراكم "المطالبات" التي ستُشكّل مع تصاعدها واختلاطها هوية جمعية واحدة، يمكن أن تُضفي معنى واضحاً على "دالّ فارغ من المعنى"، مثل الشعب، بالشكل الذي يسمح له أن يكون "خصماً" سياسياً مُتماسكاً يستطيع أن يقف في وجه السلطة. هكذا يمكن التغلّب على أزمة عدم تماسك الفاعل السياسي الرئيسي.

في العالم العربي، وعلى الرغم من أن كلمة شعبوية تتخذ في تجلياتها السياسية والإعلامية اليومية معاني تشبه التلاعب بعواطف الجماهير أو التماشي مع "نزق العوام"، وبعض الدلالات الفولكلورية الأخرى، أرى أن ثورات العالم العربي، بموجتيها، شكلت معملاً اجتماعياً وسياسياً لاختبار حقيقة الشعبوية كاستراتيجية سياسية يُمكن للقوى الديمقراطية أن تنتهجها في ظل ما تواجهه من تفكك.

وهنا مقدمة لا بد منها، فعادة ما يتضمن سؤال "هل تعد انتفاضات الجزائر والسودان ولبنان والعراق موجة ثانية من موجات الربيع العربي؟" افتراضين مُسبقين.

قبل كل شيء، ليس هناك معنى سياسي محدد لوصف "موجات". على الرغم من ذلك، هناك آثار ممتدة لا تخطئها العين لانتفاضات العام 2011 في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا في الاحتجاجات التي تُشكل ما قد يُسمى بـ"الموجة الثانية"، تجدها حاضرة في الشعارات والمشاعر والرغبات والرهانات، كما حضرت تونس في مصر، حين علّمتها أن الذي كان مستحيلاً صار ممكناً. هذا الذي لا يمكن قياسه بعدّة السياسة، أي الأمل، صار أكثر سياسية من أي منطق سابق للسياسة. هذان الافتراضان هما: تعلم أسباب الهزيمة، وتشابه الرهانات.

لقد وُصفت الموجة الأولى من الثورات العربية بأنها "ثورات بلا ثوريين"(آصف بيات)، و"ثورات نيوليبرالية" (والتر أرمبرست)، و"آخر الثورات الكلاسيكية" (لوسي ريزوفا)، و"ثورة الروح الديمقراطية" (طلال أسد).

وعلى الرغم من الاختلاف البيّن في منطلقات هذه الأوصاف ونتائجها، فإنها تتفق جميعاً على ملاحظة أوليّة متعلقة بطبيعة الفاعلين الذين انخرطوا في الاحتجاجات. لقد قادت هذه الاحتجاجات تجمعات من الطبقات الوسطى العربية بمطالب سياسية مرتبطة بالحقوق المدنية والكرامة ورفض السلطوية والديكتاتورية، وتحالفت مع العديد من الفئات الدنيا من مهمّشي المدن والمحافظات بمطالب اقتصادية في أغلبها.

لم تكن هذه الثورات ثورات عمالية، أو إسلامية، أو فلاحية، أو ثورات فقراء، أو ثورات ريف ضد حضر، أو تقليد ضد حداثة، أو شيوعية ضد الرأسمالية، أو علمانية ضد الدين. لقد مثّلت تحالفاً عفوياً للمطالب، وتواضعت في لحظة تكثيف على مطلب سياسي هو "إسقاط النظام".

وعلى أثر ذلك، وسواء تحقق هذا المطلب أولم يتحقق، اكتشف الفاعلون السياسيون أنهم أمام حالة عابرة للأيدولوجيا، اتخذها بعضهم برنامجاً سياسياً، ولا يُمكنها أن تقيم أود مشروع سياسي بديل، أو تشكل "كتلة تاريخية" يمكنها أن تتفاعل مع الانفتاح "المريح" على المطالب كافة، وأن تصوغ برامج سياسية مرنة تتماشى مع التغيرات السياسية اللحظية بلا هوية جمعية توافقية واضحة.

يبدو أن الموجة الثانية من الانتفاضات العربية أكثر وعياً بأهدافها، وأكثر قدرةً على تشكيل التحالفات، كما في حالتي السودان والجزائر. وما نسمعه يومياً من المتظاهرين في السودان والجزائر يشير إلى اتفاق ضمني حول التخوّف من مصير الموجات الأولى في مصر وسوريا على وجه الخصوص.

وفي العراق ولبنان، تكثّفت مطالب اقتصادية مرتبطة بالحياة اليومية، لتفجّر مطالب سياسية مضادة للمحاصصة الطائفية، ولترتيبات ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، وترتيبات ما بعد الغزو الأميركي للعراق.

ما يتضح في الوصف السابق أن الموجتين تشتركان في الرهانات، وأن الموجة الثانية واعية بالفعل بأسباب هزيمة الموجة الأولى، لكن كليهما يقف عند المأزق نفسه: الطبيعة التاريخية لتكوين الفاعل السياسي الأساسي في هذه الأحداث.

يُمكن هنا أن يكون حل الشعوبية، بالمعنى السابق ذكره، حلاً منطقياً يوفّر طريقة للانفتاح على المطالب السياسية لفئات واسعة من المُهمشين، ويُشكل الأساس الأولي لهوية جمعية قد تتمكّن من رسم معالم عقد اجتماعي جديد قائم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكن الوصف السابق يدفعني إلى تقديم ثلاثة أسباب رئيسية تُمثل عائقاً أمام هذا الطموح النظري.

السبب الأول أن الهوية الجمعية التي تكوّنت عبر "جمع المُطالبات" سرعان ما تتحلل إلى عناصرها الأساسية. يمكنك الآن أن تسمع من مغرد سوداني على "تويتر" أن القضية الفلسطينية والموقف من الثورة السورية معياران أساسيان للحكم الأخلاقي والسياسي "الثوري" على أي طرح سياسي، وهو اعتقاد قد تجد له مئات الآلاف من الداعمين من جمهور الربيع العربي، على الرغم من أنه ليس ثمة إيدولوجيا سياسية قائمة بالفعل في العالم العربي، وخصوصاً القومية منها، بحيث يُمكنها أن تجد العدّة النظرية المناسبة لتبنّي موقف مشابه.

كذلك، لم يكن أحد يتوقع أن يكون هناك فعل سياسي، وخصوصأ في لبنان والعراق، يتجاوز بهذه العفوية الأسس والمصالح الطائفية المتجذرة في البلدين. القصد هنا أن الثورات العربية أنتجت بالفعل هوية جمعية جديدة، تم على أساسها ابتكار معنى جديد كلياً لـ"السياسي"، واستطاعت أن تتخذ مواقف حاسمة تجاه قضايا سياسية رئيسية لم تكن لتجد حلاً نظرياً من دون دعم "ثوري" وراديكالي أيضاً. لكنما سبق أن حدث في مصر، يشير بوضوح إلى أن التعاطي مع "المُطالبات" التي تشكل أساس الهوية الجمعية، قد يؤدي إلى استلاب أي معنى سياسي جمعي. وهنا تصبح "المطلبية" السياسية والاقتصادية، على الرغم من أهميتها، فعلاً مضاداً للسياسة، بالمعنى الذي كانت الثورات العربية على وشك تحقيقه.

وثاني هذه العوامل مرتبط بطبيعة الدولة العربية ما بعد الاستعمارية التي قامت ضد ترتيباتها الثورات. ربما تتشارك دول ما بعد الاستعمار في الطبيعة الأوليغارشية، إلا أنها أيضاً ذات طبيعة شعبوية دعائية، واعتادت أن تحيا وتتصالح مع مثل هذا الفصام، كما اعتادت أن تتفاعل مع العديد من أنواع المطالبات، مع احتفاظها ببنيتها الأساسية وأزماتها الهيكلية، وبالتالي، تقضي على معنى السياسي، مهما كانت منفتحة إزاء المطالبات.

الأمر الثالث والأهم، هو أن ما نسميه "الصعود العالمي لليمين الشعبوي" ظاهرة قائمة على خطر مضاعف يهدد المحاولات الشعبوية الديمقراطية. هناك عدة عوامل ساهمت في هذه الطفرة التي اعترت اليمين الشعبوي لن يتسع المقام لمساءلتها، لكن هذه الطفرة حدثت بالأساس كرد فعل على أشكال متعددة من الحركات الاجتماعية الجديدة التي تعد ثورات "الربيع العربي" أحد تنويعاتها.

قد يظن البعض أن حركات اليمين الشعبوي الصاعدة، التي رأينا ذروتها في انتخاب دونالد ترامب والمطالبات البريطانية بالخروج من الاتحاد الأوروبي، هي في الأساس حركات مضادة للعولمة، أو ذات ميل قومي، لما فيها من عداء للمهاجرين والأقليات والميل الفاشي لمناهضة الحقوق الشخصية لصالح المحافظة السياسية، إلا أن هناك عاملاً مهماً في تكوّن هذا الصعود اليميني، قد يمثل صورة من صور النفي السياسي للحركات الاجتماعية الجديدة التي كان من السهل على قادة اليمين أن يهزموها، عبر تقديم حزم من البرامج والسياسات التي تدعم العمال، فتعدهم بالحفاظ على مكتسبات العولمة، وفي الوقت نفسه، العمل على أن تقتصر مكاسب العولمة على الداخل، ولصالح العامل المتوسط، صاحب المطالب الاقتصادية المحافظ سياسياً.

يجب أن تعي الحركات المنخرطة في الموجة الثانية من موجات الثورات العربية أن الدعوات الشعبوية، والتركيز على المطالب الاقتصادية أيضاً، قد يتحولان من دون قصد إلى "نفي" لمعنى "السياسي" الذي تحاول هذه الانتفاضات أن تُرسيه.

وإذا كانت الموجة الثانية قد تعلّمت دروسها من الموجة الأولى، فالقوى السلطوية السياسية والنيوليبرالية قد تعلمت دروسها أيضاً، وتجهّزت جيداً، ليس فقط للقضاء على الاحتجاجات، ولكن أيضاً لتحويلها إلى "فولكلور" احتفالي مضاد للسياسة.

"

باحث ومترجم مصري