Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

. ضمن الديناميكيات المحددة لمخيم أبو شريف، تظهر التناقضات الأكبر لأزمة العملة اللبنانية بوضوح. وخلافاً للفكرة السائدة بأن ترتيبات العمل هذه هي من مظاهر 'الفساد'" أو '"إنتهازية ذوي النوايا السيئة'"، فقد ظهر نظام التوظيف الشاويشي وتوسّع لأنه كان مربحاً لطبقة من الملاك وأصحاب العمل اللبنانيين المزدهرين. يواجه هذا النظام الآن خطر الإنهيار بسبب التناقضات الكامنة في القوى التي جعلت منه مربحًا في السابق: نهج لبنان الرأسمالي الريعي في إنتاج الغذاء."

شاينا سجاديان

السؤال الزراعي في لبنان اليوم: مشهدٌ من مخيم في سهل البقاع

"

(ترجمة يارا حطيط)

تثير صور وسائل الإعلام التقليدية للّاجئين السوريين في لبنان مشهداً مألوفاً: نساء وأطفال يقفون متفاجئين أما خيم القماش الأبيض، مع شعار مفوضية شؤون اللاجئين الأزرق المنتشر في كل مكان للتذكير بأوضاعهم المؤقتة على ما يبدو. فعلى خلفية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في لبنان على مدى العامين الماضيين، أصبح السوريون كبش محرقة مناسب لحلّ مشاكل البلاد، وكأن المشهد التقليدي للّاجئ المعتمد على مساعدات صحية أصبح مبرّراً للمزيد من الصرامة في ضوابط تنقل السوريين داخليا وعبر الحدود. ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من اللّاجئين السّوريين لا ينتظرون في المخيمات مساعدات الأمم المتحدة، ولا يستنزفون الإقتصاد اللبناني. بل على العكس من ذلك، يشكل السوريون إلى جانب العديد من المهاجرين، العمود الفقري للقوى العاملة ذات الأجور المنخفضة  في لبنان، من البناء إلى الزراعة والصناعة، وخدمات التوصيل أيضاً.
قضيت ثمانية عشر شهراً أعمل يومياً كعالمة أنثروبولوجيا جنباً إلى جنب مع عمال المزارع السوريين في قلب لبنان الزراعي، وادي البقاع. الكثير من عملي الميداني كان في مخيم يديره "شاويش "، الذي سأطلق عليه اسم "أبو شريف. أبو شريف هو واحد من بين مئات "الشواويش" ‏في لبنان، الذين يوفرون المأوى وفرص العمل للسوريين من خلال نظام متقن لتوظيف العمال. على الرغم من وجود مخيمات الشاويش (المعروفين بالورشات) منذ الثمانينات، فإن شبكة المخيمات قد توسّعت بشكل ملحوظ بعد أن بدأ السوريون ‏بالفرار إلى لبنان بشكل جماعي مع بداية الحرب السورية عام 2011. منحدرين ‏من أفقر مناطق سوريا، يوفر هؤلاء العمال اللاجئون غير المستقرون ‏إمدادات عالية المرونة من العمالة الرخيصة لكل مزرعة تقريباً في وادي البقاع.
‏يتّضح بشكل متزايد أنّ لبنان يواجه أزمة غذائية وشيكة، نتيجة سلسلة من الصدمات الاقتصادية والبيئية والوبائية المتقاربة، التي أدّت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ‏ويشكل ذلك انعكاساً لأزمة أوسع في إنتاج الغذاء في جميع أنحاء العالم.
‏وسط عقود من تحرير أنظمة العمل وخصخصة المؤسسات والموارد الزراعية العامة، أصبح من السمات المميزة للنظام الغذائي "النيوليبرالي" اليوم، الهجرة الجماعية للمزارعين الفقراء الذين لا يملكون أراضٍ ‏بحثاً عن العمل المأجور عبر الحدود. ضمن القطاع الزراعي في لبنان، تم لعب هذا الدور بشكل كامل من قبل العمال السوريين اللاجئين، الذين هاجروا موسمياً ‏على مدار العقود الماضية، عبر الحدود المفترضة لزرع وحصد وتنظيف المحاصيل الاساسية التي يعتمد عليها ‏المستهلكون اللبنانيون.
‏قبل حرب عام 2011، كان يسمح للمواطنين السوريين بقضاء ستة أشهر كمقيمين مؤقتين في لبنان،عائدين تكراراً إلى سوريا من أجل الرعاية الصحية والتعليم والسلع المدعومة. منذ بدأ الصراع في سوريا عام 2011، أصبح العديد من هؤلاء العمال الموسميين سابقاً، عالقين ‏فعلياً في لبنان، وبالتالي يتحمّلون أعباء ارتفاع تكاليف المعيشة في لبنان على مدار العام. أمام فقدان المنافع الاجتماعية من الدولة السورية ومصدر الرزق من أراضيهم في سوريا، أصبح العديد من النازحين السوريين العاملين في الزراعة يعتمدون بشكل متزايد على فرص العمل التي توفرها مخيمات الشاويش.
‏يعمل مخيم أبو شريف من خلال نظام الديون والائتمان ‏حيث يدين له العمال السوريون بتكلفة خيمتهم وإيجارهم السنوي بالإضافة إلى احتياجات الاستهلاك اليومي، الرعاية الصحية، والمناسبات الرئيسية مثل حفلات الزفاف والجنازات. ‏يقاس نظام أبو شريف المحاسبي ‏من حيث الالتزامات الموسمية على مدار السنة لكل خيمة في المخيم. أولئك الذين لا يزالون مدينين له ‏وهم عادة الأغلبية، ملزمون بالبقاء ‏في المخيم ومواصلة العمل للسنة المقبلة. أولئك الذين عملوا على التحرّر من ديونهم‏، لديهم خيار  العمل في مخيم آخر أو العودة إلى سوريا.
‏في حين أنه قد يكون من المغري تصوير أبو شريف كشخصية استغلالية تفترس اللاجئين البائسين، فمن المهم التأكيد على أنّ دوره في الزراعة اللبنانية تحدّده قوى اقتصادية وسياسية أوسع نطاقاً. إنّ الدّافع لإمداد مرنٍ من العمالة الرخيصة بين أصحاب العمل وأصحاب العقارات هو الذي يبقي نظام الشاويش التوظيفي على قيد الحياة.
إن سوق التصدير الزراعية المحلية والإقليمية غير منظّمة إلى حد كبير. فزيارة عادية لأسواق الخضار في قبّ إلياس والفرزل تكشف أنّ الأسعار ‏تتقلّب بشكل كبير على أساس يومي، وأحياناً حتى من ساعة إلى أخرى. لهذا السبب ينجذب أرباب العمل اللبنانيين إلى مرونة مخيمات الشاويش، حيث يمكنهم إلغاء أو تقصير أو تقليص مهام العمل حسب السوق. يدفع أرباب العمل اللبنانيون لأبو شريف ٨٠٠٠ ليرة لبنانية عن كل عامل لكل مناوبة مدتها خمس ساعات، ياخذ منها عمولة 2000 ليرة لبنانية. في فصل الشتاء يكون العمّال محظوظين لتلقي طلب نوبة واحدة، حيث يعودون إلى المنزل مع 6000 ليرة لبنانية لكل فرد كل يوم. خلال فصل الصيف، يمكن لكل عامل أن يتوقع أن يحقّق حوالي 12000 ليرة لبنانية كل يوم.
‏يشار دائماً إلى العمال الذين يعيشون في مخيمات شاويش، سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً، جماعياً من قبل أرباب العمل اللبنانيين بصيغة التأنيث ويخاطبون كالفتيات، ممّا يشير إلى وضعهم المؤنّث في سوق العمل الزراعي. على سبيل المثال، الطريقة النموذجية التي يطلب فيها صاحب العمل اللبناني العمّال لليوم التالي هي بقوله لأبو شريف: أحضر لنا كذا ‏فتيات غداً (جبلنا كذا بنات بكرا). ‏إنّ تصنيف بعض المهام على أنّها "عمل النساء" واخرى على أنها "عمل الرجال" هي آلية لجعل تخفيض الأجر طبيعيّاً، حيث أنّ عمل المرأة يتمّ التقليل من قيمته باستمرار. يُشترط على سكّان المخيّم أن يكونوا في غاية الإنضباط وقابلين للتكيف مع اختلاف مدة وكثافة و طبيعة مهام عملهم. ‏أتذكّر في مناسبات عديدة الاستيقاظ في خيام العمال من أجل النوبة الصباحية على صوت المطر، الذي كان دائماً علامة على أنه لن يكون هناك عمل ولا أجور في ذلك اليوم، حتّى لو كان قد وعدهم بها أبو شريف في اليوم السابق. ‏يتمتّع أرباب العمل بالمرونة في المدفوعات التي تدفع لأبو شريف بأثر رجعي وليس كسلفة ‏لأن عدد العمال يختلف كثيراً من يوم إلى آخر. ‏وهذا يعني أن طوال موسم معين، على أبو شريف إدارة المدفوعات من أرباب العمل بعناية، المرتبطة بتدفقات الدفع للعمال، حتى لو لم يتلقّ ‏مدفوعات أصحاب العمل بعد. نظراً لتمحور مهام العمل حول نظام احتياطي العمل عند الطلب فإنّ حساب أبو شريف المصرفي معرض للتقلّبات ومشاكل السيولة، خاصةً في فصل الشتاء المنخفض.
‏إلى جانب دافع العمالة الرخيصة والمرنة بين أصحاب العمل اللبنانيين، فإن ديناميكية المضاربة بين أصحاب العقارات اللبنانيين الغائبين هي قوة إضافية تدعم نظام شاويش التوظيفي. يقع مخيم أبو شريف على مساحة صغيرة من الأراضي الزراعية غير المزروعة سابقاً التي تمتلكها مالكة لبنانية غائبة مقيمة في قطر. يبلغ الإيجار السنوي للمخيم ١٦٦٦٧ ‏دولار، يقسِّمه أبو شريف بشكل مناسب بين كل أسرة، ويدفع للمالكة اللبنانية عن طريق التحويل المصرفي كل عام. يوجد في المخيم 30 خيمة ‏وليست كلها مشغولة بالكامل. يدفع سكان المخيم بين ٧٥٠٠٠٠ و١٠٠٠٠٠٠ ‏ليرة لبنانية سنوياً  كإيجار لأبو شريف، نسبة لحجم خيمتهم.
‏تحدّثت مؤخراً مع أبو شريف عن كيفية ‏تأثير أزمة العملة في لبنان على العمال الذين يعيشون في مخيمه، ‏تنهّد: "الزيادة في الأسعار فاحشة".. يظل سعر العامل كما هو، وأصبح سعر كيس السكر 56,000! العامل يعمل على الدولار الله يساعد العاملين ‏.والأسوأ من ذلك أن صاحبة الأرض التي يقع عليها المخيم في قطر تصرّ على دفع الإيجار السنوي بالدولار، وهذا يشكل مشكلة كبيرة لمحاسبة أبو شريف، حيث لا تزال أجور العمّال تدفع بالليرة اللبنانية. "قلت لها إلك معي ١٥مليون لبناني، مشدداً على أنّ حساباته الدقيقة لديون المخيم. "قلت لها: إرحمي يا سيدتي، الوضع مأساوي. الوضع مأساوي يا سيدتي. بالكاد يستطيع الناس تناول الطعام أو الشراب. كنّا نحصل على كيس من السكر مقابل 17000 أو 18000. الآن هو 56000! وتابع: "أقسم بالله أن الجميع (في المخيم) يعملون على إعالة يوم واحد فقط. ما قيمة أجر عامل يومي  يساوي 6000 أو 7000؟ قبل ذلك ، كان يساوي 4 دولارات. كان ذلك بخير. اليوم ، يساوي دولارًا!"

على الرغم من أن أبو شريف لم يذكر ذلك صراحةً، يبدو أن مخيمه يواجه خطراً حقيقيًا بالإخلاء الوشيك، حيث أن القيمة المتضخّمة لمدفوعات الإيجار السنوي المتزامنة مع تخفيض أجور العمال اغرقت المخيم في ديون عميقة. ومن المؤكّد أن مئات مخيمات الشاويش الأخرى الموزعة على الحقول الزراعية اللبنانية تواجه مأزقًا مشابهًا. ضمن الديناميكيات المحددة لمخيم أبو شريف، تظهر التناقضات الأكبر لأزمة العملة اللبنانية بوضوح. وخلافاً للفكرة السائدة بأن ترتيبات العمل هذه هي من مظاهر "الفساد" أو "إنتهازية ذوي النوايا السيئة"، فقد ظهر نظام التوظيف الشاويشي وتوسّع لأنه كان مربحاً لطبقة من الملاك وأصحاب العمل اللبنانيين المزدهرين. يواجه هذا النظام الآن خطر الإنهيار بسبب التناقضات الكامنة في القوى التي جعلت منه مربحًا في السابق: نهج لبنان الرأسمالي الريعي في إنتاج الغذاء.

سلّطت أزمة الغذاء في لبنان الضوء على تناقض مأساوي فيما يتعلق بالزراعة: على الرغم من أراضيه الخصبة وقدرته على الإنتاج الزراعي المحلي، يستورد لبنان 80٪ من غذائه، وفقًا لأحسن التقديرات. إنّ فكرة تعزيز الإنتاج الزراعي المحلي في لبنان وتحقيق السيادة الغذائية تعتبر الآن ضرورة ملحّة حتى على أعلى المستويات الحكومية. وإذا كان على السيادة الغذائية أن تكون أكثر من مجرد شعار، يجب أن نبدأ بالنظر إلى أوضاع العمال السوريين الذين سينتجون الطعام الذي يغذي مواطني لبنان. وخلافاً لتصورات وسائل الإعلام النمطية عن السوريين في لبنان كضحايا تعساء يجلسون مكتوفي الأيدي في مخيمات اللاجئين، فإن السوريين هم ركيزة أساسية وقيمة للاقتصاد اللبناني، وخاصة نظامه الغذائي. في حين أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية وثورة تشرين الأوّل غالبًا ما يتم تأطيرها على أنها قضايا على المستوى الوطني تقتصر على مواطني البلد، فإن قصّة مخيم أبو شريف تشير إلى أنّ في الكفاح من أجل نظام إنتاج غذائي أكثر عدالة واستدامة، تشابك شديد بين مصيري السوريين واللبنانيين.

"

باحثة دكتوراه في الانثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك