Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

الإحيائية الديمقراطية ستكون تعميقاً فعلياً للدّيمقراطية، وإلغاء هذا التمييز وإعادة تأسيس الطبيعة، ليس فقط كملاذ في أوقات الأزمات أو كموقف سياسي في سياق الإيكولوجيا الغربية، ولكن كمجال مميّز للتعليم الديمقراطي الجديد.

نيكولاس كوسماتوبولوس

الديمقراطية الإحيائية ومدارس التنظيم الذاتي

"

تنطلق هذه المساهمة من تجربتي في الحركات الاجتماعية من ناحية، ومن خبرتي الأكاديمية كباحث في الأنثروبولوجيا السياسية من ناحية أخرى. دعوني أبدأ بالقول إن ما أقترحه، هو تحويل التجمعات المقامة في الهواء الطلق في ساحات المدينة إلى بنىً دائمة، حيث تُعزز هذه المدارس الجماعية الديمقراطية المباشرة. باختصار، اقتراحي هو الجمع بين أفقية الميادين وعمق الجامعة الاجتماعية. يمكن لهذه المدارس المنظمة ذاتياً للديمقراطية المباشرة أن تملأ فراغ الأيام والساعات التي سيتم توفيرها نتيجة تقليل وقت العمل المحتّم بسبب تدهور النمو.                                                                   

"مناهج" هذه المدارس يمكن أن تتأسّس على ثلاثة محاور: الترحال السياسي، الإهتمام بالبحث والروحانية السياسية. تنبع هذه من ثلاثة نقديّات أنثروبولوجية للعلاقة بين الديمقراطية والمعرفة، وللعلاقة بين القوّة السياسية والعلوم الاجتماعية المعاصرة. أؤيد الفكرة القائلة بأن المدنية و"الديمقراطية" التشاركية، بدلاً عن التحرّر، ينتجان عن التقييد. فالأنظمة الراهنة سيّجت المعرفة السياسية من خلال الترويج لحصريّة خطاب الخبراء؛ طوّقت التضامن والرعاية من خلال ربطهما بالسلطة وأدواتها، وأقصت الطبيعة من خلال التأليه الأخلاقي والابستمولوجي للإنسان. إذاً، الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أبطلت هذه الأطر حالاً.          

 

  1. الترحال السياسي: من أجل ديمقراطية من غير خبراء

يعتقد الهنود الغورانيون أن منح السلطة السياسية الدائمة للبعض، سيؤدي بالضرورة إلى إنشاء بنية قمعية للجميع، وهذا ما نسميه اليوم الدولة. بالنسبة للشعوب الأصلية في أميركا الجنوبية، كان الضمان الوحيد ضد خطر الدولة المهددة للحريات هو شكل متطرف من البداوة، مكانيّاً وسلطويّاً. هذا ما طالب به العالم الأناركي بيار كلاستر في كتابه الكلاسيكي "مجتمع ضدّ الدولة".                                                                               

فإذاً، يعلمنا المجتمع الهندي غير الطبقي أن الدفاع عن المجتمع الذي يواجه استبداد الدولة، لا يعني بالضرورة إلغاء الهيمنة الطبقية، بل إلغاء السلطة السياسية التي يلزم عنها امتلاك قلّة لأدوات السيطرة والوسائل التي تحكم من خلالها الجميع، ليس فقط وسائل الإنتاج، ولكن فوق ذلك الوسائل التي تعطي الوجود البشري معنى ووعياً بموقعه داخل المجتمع.                                                                                                              

يطمح الترحال السياسي إلى إبطال قوة السياسة كعلاقة، وإلى إقصاء الخبراء تدريجياً من خلال تداول المعرفة داخل المجتمع وإتاحتها للجميع. فالخبراء السياسيون سيتناقصون تدريجياً عندما نصبح جميعاً سياسيين من خلال تنشئة المجتمع على المعرفة المتعلّقة بحياتنا الاجتماعية، ومن خلال تبني مفاهيم الرحّل بمبادئها الأساسية: الترحال في الأفكار، العمل والمعرفة، وكذلك الترحال في مجال تقرير مصيرنا (حتى في نرجسيتنا) كوحدات في جماعات غير رحالة، مثل الأمة، الطبقة، الدين، والجندر.                                                                    

يلعب الخبراء في التاريخ الوطني، والعملية الديمقراطية، وتنمية الاقتصاد، دوراً مهماً في قمع رحلتنا المتأصلة، من خلال إملائهم لانتماءاتنا وللوجهة التي علينا أن نسلكها.                                                                              

بمواجهة ذلك، يعني الترحال السياسي تنظيم جمهرة تتبنّى هيكليّات التعليم الذاتي، والتي ستتضمّن تعليم أنثروبولوجيا العالم بدلاً من التاريخ الوطني؛ ونشر الأنثروبولوجيا السياسية، وبالتحديد المعرفة بالتنظيمات السياسية البشرية التي أدانها التنوير المتمركز في أوروبا بوصفها بدائية؛ وأولاً وقبل كل شيء، ضمان التعليم الذاتي المنهجي والجماعي بخصوص المشاكل الأساسية والمشتركة في حياتنا، بهدف إخضاع مفاهيم "الاقتصاد" و"السياسة" بشكل راديكالي للتساؤل إن كانا حقّاً حقلين مستقلين وقائمين بذاتهما، ويتطلبان خبراء واستشاريين.              

 

  1. بحث الرعاية - من أجل ديمقراطية بلا قيود

في فيلم الخيال العلمي الإسباني (Accion Mutante)، يظهر مجموعة من الأشخاص المعوقين و "غير العاديين" يحملون السلاح ضد النبلاء الأغنياء. في بداية الفيلم، يصبح "غير الطبيعي" طبيعياً بشكل متدرّج عن طريق ذبح وتفجير وتشويه الأبرياء أثناء مرورهم على الطرقات. ويبلغ التطبيع ذروته عندما يتخلص آخر شخص حي في العصابة من شقيقه التوأم، بقنبلة صغيرة، ويهرب مع ابنة الملياردير الجميلة.

 بنفس المنطق ربّما، علّمتنا الأنثروبولوجيا الدّينيّة أنّه بالنّسبة للعديد من الناس في أميركا الشرقية والأصلية، فإن شخصية الشامان المجنون، و"غير الطبيعي" كانت مقدسة ولا يمكن المساس بها، سواء لأنّها ستبني جسرًا بين العالم المادي والميتافيزيقي من جهة، ولأنها كانت مصدر إلهام أساسي للمقاومة والذاكرة التاريخية التي تواجه آلة الاستعمار المدمرة من جهة أخرى.

من ناحية ثانية، أظهر استعراض الأشكال المعاصرة للتقييد، أن مفهوم السكان المعاصرين، يقوم على التمييز بين المواطن الحر والسجين، وبين الإنسان السليم والانسان الناقص، بين الحياة الطبيعية الاجتماعية والأمراض الاجتماعية. هذا التمييز هو مفتاح وظيفة الديمقراطية المعاصرة، ليس فقط لأنه يؤدي إلى إحاطة وحبس ومراقبة مجموعات كبيرة من السكان، مثل المهاجرين والمرضى عقلياً وجسدياً، والسجناء الإجراميين، والمصابين بالإيدز، والمعوقين و القاصرين ، ولكن غالباً لأن أجسادهم تعمل كأداة لإنتاج "الحقيقة" العلمية التي تحدّد المواطن العادي وحدود الديمقراطية العادية.

في مواجهة حجز "غير الطبيعي" وإنتاج الحقيقة العلمية للطبيعي، يمكن أن يكون ردّ الفعل الأول هو مفهوم الرعاية، أي الاتّصال المباشر للرّعاية الجماعية لـ"غير الطبيعي" بطرق غير هرمية ومفتوحة وديمقراطية، وهذا سيمكنّنا جميعاً من الاتّصال والتعرّف على "حقيقتهم" وآرائهم واعتراضاتهم على الحجز.

وهذا يتطلّب فصل البحث العلمي عن الأمراض، وإلحاقها بالرعاية الجماعية! وهذا يعني هدم العلم المعاصر، وقبول الشذوذ في البحث كأساس للتعدّدية وبقاء الإنسان في عالم غير طبيعي وفوضوي ومرن.

 وهذا يعني القضاء على الأخصّائيين الاجتماعيين و"الخبراء النفسيين" ونشر الهياكل الاجتماعية للتضامن من خلال تحويل كل واحد منا إلى باحث هاوٍ في الحياة الاجتماعية الطبيعية، ومساعد منظم للمنهج الاجتماعي غير الطبيعي. هذا اختيار لا ينبع من التعاطف والرحمة ، ولكن من المساواة والتضامن وربما من الوعد بفهم أعمق للوضع الإنساني، أي من الوعد بحياة أكثر حرية.

 

  1. الروحانية الديمقراطية - من أجل ديمقراطية لن تكون متمحورة حول الإنسان

في عام 1550، قام الغزاة بالفعل بإخضاع الهنود في منطقة البحر الكاريبي. لذا، فإن الجدل الفلسفي/اللاهوتي الشهير في محكمة الملك الإسباني في بلد الوليد Valladolid)) كانت تبحث بشأن ما إذا كان للهنود روح إنسانية، وفي هذه الحالة هل لديهم حياة أخرى أم لا: هل يمكن ذبحهم أم لا؟ ماذا قال الهنود عن كل هذا؟ كتب عالم الأنثروبولوجيا البرازيلي ((Viveiros de Castro أنه بالنظر إلى الهنود، فإنّ جميع المخلوقات في الطبيعة لها روح. سؤالهم الأساسي فيما يتعلق بغزاتهم كان "أي نوع من الجسد لديهم!" وهم لأجل هذا سيتسببون بغرق كامل الشعب الإسباني لمعرفة ما إذا كان جسده سيطفو. وبالتالي تدّعي الأنثروبولوجيا الهيكلية أن الهنود اعتبروا الطبيعة ككلّ واحد، مع طريقة ومفهوم متماسكين للتعامل معها.

من ناحية أخرى، رفعت التعاليم الفلسفية والممارسات العلمية للتنوير الغربي الإنسان إلى قاعدة إله على الأرض، مما أدّى إلى تعطيل العلاقة بين الاعتماد المتبادل الوجودي والتوازن الأخلاقي مع الكائنات الأخرى على هذا الكوكب والطبيعة نفسها. ولكن ما علاقة ذلك بالديمقراطية؟ كل هذا له علاقة بالديمقراطية وفقاً لأنثروبولوجيا العلم، لأنّ جميع المعضلات الديمقراطية الكبيرة اليوم هي مزيج معقّد من المشكلات العلمية والسياسية. كل يوم، تظهر عوامل طبيعية وسياسية جديدة، وغالباً ما يكون لها تأثير خاص على التطور البشري ، مثل النحل والجليد في القطب الشمالي، بالإضافة إلى مبيدات الأعشاب والكائنات المعدلة وراثياً والخلايا الجذعية.

هنا المثير للاهتمام بما فيه الكفاية، حيث نرى وجهات نظر الهنود والعلماء تتلاقى، بأنّ جميع الكائنات في الطبيعة لها روح وقول. وبالتالي، يجب أن يكون لديهم أيضاً صوت، كما يجادل المرء. يبدو أن كلاهما يتّفق على أن الأرض هي ثقافتنا السياسية المشتركة. إن الطبيعة المتميّزة عن الثقافة هي اختراع غربي كارثي، وكذلك التعبير الجشع "بيئتنا الطبيعية".

 لذا، فإن الإحيائية الديمقراطية ستكون تعميقاً فعلياً للدّيمقراطية، وإلغاء هذا التمييز وإعادة تأسيس الطبيعة، ليس فقط كملاذ في أوقات الأزمات أو كموقف سياسي في سياق الإيكولوجيا الغربية، ولكن كمجال مميّز للتعليم الديمقراطي الجديد، مع دستور وقوانين سيتمّ كتابتها على أسس عدالة الطاقة على كوكب الأرض، مع مكانة بارزة في البرلمان الأرثوذكسي الذي يضم النحل والدلافين و"الظواهر الجوية المتطرفة"، على سبيل المثال.

باختصار، أودّ أن أوضح أن الديمقراطية الإحيائية، ديمقراطية الأرض، ليست شعارات بيئية تنبثق من موقف الألفية (والذي بات كليشيه متداول) حول الكوارث القادمة التي سنعانيها إذا تجاهلناها، ولا عودة رومانسية إلى الطبيعة، والتي تقوم على الجانب الآخر من الحداثة الغربية، والكراهية المتجانسة للمدينة والتكنولوجيا. تعني الديمقراطية الإحيائية الأشكال الجماعية للتعليم الذاتي، والمفتوحة لحوار عالمي لن يقوم على أساس انتشار العلوم الغربية أو تفرّد ثقافة خاصة. الاعتراف بحتمية المصير وسلوك مسار التحدّي بخلق ترحال سياسي موجّه للرعاية، وديمقراطية إحيائية تنتج تعايشًا عالميًّا حقيقيًّا هو الحلّ الأخير.

"

أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة الأميركية في بيروت