Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم أكن أعلم، وأنا أوضّب حقيبة سفري للمرة الأولى منذ عدة سنين، أنني أمام حلقة حلزونية لكلمات متقاطعة حول حقل معجمي واحد، وهو الخَلاص. الخلاصُ بمعناهُ الكلي، بمعناه الوجودي، وليس الخلاصُ بالموت المحتوم، وإنما بالفن والتراجيديا، كما فسّر نيتشه النزعة التشاؤمية في الأدب اليوناني.

هبة علاء الدين

الخلاصُ بالفن: للشعر الذي كلما اقترب، بَعُدَ أكثر

"

لم أكن أعلم، وأنا أوضّب حقيبة سفري للمرة الأولى منذ عدة سنين، أنني أمام حلقة حلزونية لكلمات متقاطعة حول حقل معجمي واحد، وهو الخَلاص.

الخلاص بمعناهُ الكلي، بمعناه الوجودي، وليس الخلاصُ بالموت المحتوم، وإنما بالفن والتراجيديا، كما فسر نيتشه النزعة التشاؤمية في الأدب اليوناني.

ولأن "ما وُلد في العزلة يدوم" كما يعبّر سيوران، كان لا بد من رحلة التصادم مع الذات ومواجهتها، وإثبات واجب الوجود في محاولة إنكاره، والتطلع "بدهشة" إلى أعماق النفس البشرية حيث تسيرُ أسمى المُثل جنباً إلى جنب أحط الدناءات.

"الدهشة"، ذاك الشعور الوحيد القادر على إبقائنا أطفالاً أمام مجسّم القوة والوجود والمعرفة، وعلى اكتشاف خيانة الحواس أمام عالم الأفكار الأزليّ والثّابت، وعلى إزالة رماد الزيف عن عين الحقيقة.

كلّ ذلك قبل أن تسعى إلى تكوين ثراء باطني وجداني انفعالي يمكّنكَ من تحويل الانطباعات الحاضرة في ذهنك والانفعالات الجمالية المتعددة إلى تأمّلات خارجة عن المألوف، وإلى تخليد هذا المعبر (الإنسان) في ذاكرة مشتركة يسودها حُكم مملكة الوعي الذي يحدد مقدار تعاستك، وإلى حريقٍ داخلي تصبُّ نفسك فيه وتعتقد واهماً أنك أحكمْت القبضة على مداخله يُدعى "الشعر".

"ما كنّا لنبحث عن شيء لو لم نكن قد وجدناه من قبل" يقول القدّيس أغسطين، ثم يتبعه كافكا في مشهدٍ سريالي فيقول بلغته العبثية: "في أغلب الأحيان ما نبحث عنه بعيداً يقطن قربنا"؛ من هنا تنطلقُ من أجل الشّعور باللّامحسوس، والتّحرّر من الظّلال المُبهَمَة، والبحث عن لغة إستثنائية، فتسعى إلى أن تُداوي القلقَ بالكتابة، وتلبي دعوة نيتشه "فتكتبُ بدمك" في هذه العزلة المقدسة.

تختلفُ لغة الشعر عن لغة العلم، فالشاعر - الذي يعرف كيف يبدأ ولا يعرف كيف ينتهي - لديه القدرة على تأمل الأشياء بطريقة مختلفة، يبتعد فيها عن السطحية ويسعى إلى اصطياد أعمق المضامين في قالب من الاستعارات والإيحاءات والعاطفة والمتعة والانفصام؛ وهو يعلمُ بيقينٍ تام وحتمي أنّ كل ما مُنح إليه إنما مُنح لغاية، فتراهُ - في نوع من المحاكاة - يحاول أن يجعل القارئ يغوص معه ويحفر عميقاً في ذاكرته ويقدم نصاً ليس مجتزءاً من لحظة راهنة بل نصاً متجاوزاً لكلّ المشاعر الطارئة، نصاً للتاريخ.

هذا هو جوهر الشعر، الشعر الذي "عندما لا نستطيع تعريفه فهذا يعني أننا نعرفه جيداً" كما يقول بورخيس.

نحن لا نعرّف الشعر، بل نشير إلى لغته وهي العنصر الوحيد الذي يساعدنا كقراء على اكتشاف تاريخ النص وثقافته وحوامله الجمالية والفكرية .

أحياناً يحدثُ أن تدافع اللغة عن نفسها أمام مستخدمها (الكاتب) بطريقة تحاول فيها أن تُقَدَّم طازجة، أي أنها تتعمّد أن لا تُحمّل نفسها سوى عبء إيصال الشعور، وهنا المشكلة. فلغة النص حاملٌ فكريٌّ وثقافيٌّ عال، وليست بريداً لمقاييس اللحظة المسيطرة على الكاتب أثناء كتابة نصه، ولا رسولاً لجعل القارئ أسيراً للكاتب الآني، اللحظوي، المضطرب وقت كتابة النص، بل هي وسيلة لخلق بُعد آخر، بُعد لشخصية مُحتملة لم تُكتشف بعد.

ثم إنّ القصيدة لم توجد فقط للتعبير عن حالاتٍ وجدانية مضطربة، وهي ليست نتيجة لضغوطات ولّدت لدينا خيالاً مؤقتاً، بل تجر القصيدة قارئها إلى أن يعيش تردداتها فتبقى إشارات الاستفهام أقسى عليه من الإجابات الموجعة.

ربما بتنا ندرك الآن السبب في اعتقاد جويس جيمس أن العمى هو من أقل الأشياء التي وقعت له أهمية، فنحن أمام متاهات لا متناهية من التجارب الشعرية بحثاً عن القصيدة التي لم تُكتَب بعد، والتي تقترب فتصبح أكثر بُعداً.

ومن الآن إلى أن تكتمل الحقيقة (التي لا كمال لها)، يستمرُّ هذا التشظي في خلق حس الرفض، وتضخيم الشعور بالعزلة والوحدة وتأخير فرصة الاستقرار في علاقات الشاعر مع محيطه، فمن "اختلف شعوره عن شعور الجموع يسير بنفسه مختاراً إلى مأوى المجانين" (نيتشه).

وإنْ كان مونتروسو قد قدّم نصيحته لهواة الشعر بعدم السعي إلى التعرف على شخصيات شعرائهم الواقعية عن كثب، فإني أقول بأنك إن صادفتَ شاعراً منفياً في غربة باردة، عليكَ أن تُسرع في البحث عن أقرب نافذة للنجاة بنفسك !!

"

كاتبة لبنانية