شاع أن تُستخدم القرعة لاختيار رابح في مسابقة ما، أما في مستشفى الجامعة الأميركية فيستخدمها المسؤولون لفصل أحد الموظفين في الطابق العاشر. يتعرّض رئيس القسم لضغط كبير من إدارة المستشفى لاختيار من سيترك عمله اليوم
الجيش الأبيض يفرّ من لبنان
شاع أن تُستخدم القرعة لاختيار رابح في مسابقة ما، أما في مستشفى الجامعة الأميركية فيستخدمها المسؤولون لفصل أحد الموظفين في الطابق العاشر. يتعرّض رئيس القسم لضغط كبير من إدارة المستشفى لاختيار من سيترك عمله اليوم. يترّفع عن هذه المهمة لعلاقته الجيدة بكل الموظفين والممرضين في هذا الطابق. يتم تهديده أن الاختيار سيكون عشوائياً. يخاف على "حاشيته" فيقدم الأسماء الأقل حظوة لديه ليتم اختيار "المفصولين"عشوائياً بالقرعة. إنه الخوف إذاً، دينامو هذه المنظومة. يخافون على مصالحهم ولا يخافون من القانون "المنتفي" بالأصل.
تتلقى سمر (اسم مستعار) شاشة سوداء عبر الحاسوب. نترك لك كقارئ أن تتخيل مشهداً سينمائياً. إنه إعلان النهاية. هذا أسلوب "الجامعة" بإبلاغ موظفيها وممرضيها بالفصل التعسفي من العمل من دون سابق إنذار أو تحذير. تمر سمر في الممرات الواسعة للمشفى، فلا ممرات ضيقة هنا. لن تودع الزملاء لأنها أصبحت عنصراً غير رسمي. تشم رائحة الموت رغم "حفافة" هذه المستشفى وتعود إلى منزلها عاطلة عن العمل.
استفادت المشفى من شكل العقد الموقع مع موظفيها والممرضين، إذ لا يمنعها من الصرف التعسفي، لكنها وقعت في فخ أكبر بعد الهجرة الجماعية التي واجهته بعد انفجار مرفأ بيروت. فبعد صرف أكثر من 200 ممرض وموظف في المجال الصحي العام الماضي، اشترطت عليها وزارة العمل عدم إبرام عقود توظيف جديدة لمدة سنتين. بعدها استقال أكثر من 180 موظف خلال أربعة أشهر مستفيدين من شروط العقد المفتوح والذي يجبر هم فقط بالعمل لشهرين بعد تقديم الاستقالة. أزمة "كواليتي" فعلية تضرب المشفى. فالشعار المتداول بين العاملين اليوم "الباقون هم المرفوضة طلباتهم في الخارج"، للدلالة على أن الجميع قدّم طلبات الهجرة للعمل في المستشفيات خارج البلد.
في مقابلة مع مجموعة من الممرضين في المستشفى (طلبوا عدم ذكر أسماءهم لضمان استمرارهم الوظيفي) علمت "الخندق" أنّ رواتب الممرضين لم تعد تكفيهم لشراء مادة البنزين للتنقل وبعض المستلزمات اليومية: "صدر قرار عن الإدارة بجعل 20% من الراتب فريش دولار و15% منه على سعر صرف 3900 والباقي بالليرة اللبنانية". ما يؤكد محاولات الإدارة ضبط إيقاع الأزمة. في وقت يتقاضى فيه رئيس الجامعة الأميركية فضلو خوري مرتباً يقرب من المليون دولار سنوياً. وفي عملية حسابية بسيطة، فإنّ حسماً مقبولاً تفرضه قوانين الدولة على مرتبه مع بعض كبار الموظفين، قد يكون كافياً ليعيد إلى مرتّبات موظّفي المستشفى الأكبر في لبنان بعضاً من قيمتها؛ أمّا حين تصل معدّلات الأجور لدى بعض موظّفيها إلى 80 و90 دولاراً، فلا يعود بمقدور موظّف المستشفى في عكّار أو الهرمل أو بنت جبيل أن يطالب إدارة مؤسسته بتحسين راتبه، فالجواب سيكون جاهزاً: "هني بالأميركية وهيك ..."
هجرة بلا حدود
الممرض اللبناني الذي راكم خبرة يعتّد بها من العمل تحت الضغط والتعامل مع الكوارث وأهمها يوم 4 آب وما تلاه، أصبح مطلوباً عربياً مع التذاكي الذي تعتمده المستشفيات في الخليج لتوظيف الممرضين بأقل الأجور الممكنة. وقد يصل الراتب في أحسن الأحوال إلى 3000 دولار أميركي، ما يجعله عرضاً مغرياً للكثير من الممرضين في جميع مستشفيات لبنان. هذه الهجرة أثرت بالدرجة الأولى على "الجامعة" فباقي المستشفيات، كمستشفى الرسول الأعظم، تفرض عقوداً محددة زمنياً أي أن الممرض لا يمكنه تقديم استقالته إلا بدفع البند الجزائي المتفق عليه أو يتم رفض استقالته. هي أساليب للحفاظ على ما تبقى من كادر تمريضي في البلاد. بعد أن كان كل ممرض يقدم الخدمات الصحية لأربعة مرضى كحد أقصى بات يقدمها لأكثر من 12 مريض في أحسن الأحوال. ما يعني ضغط أكبر في العمل وانخفاض كبير بمستوى الخدمات. ومع تزايد الأزمات أجبروا الممرضين على العمل لساعات تتخطى الـ12 ساعة لتخفيف مصاريف النقل.
القطاع الصامد ومعدوم البطالة طيلة السنوات الماضية يخسر عامليه، سنة واحدة كانت كفيلة بدماره. كان الحديث عن أهمية القطاع الطبي والاستشفائي في لبنان كقطاع يستفيد من صيت حسن في "الشرق الأوسط"، إذ يعتبر مورداً يساهم في تنشيط السياحة الطبية. فـ"الجامعة" الأميركية، بحسب أحد الإداريين فيها، كانت خلال السنوات العشر الماضية هي "جامعة المرضى العرب"، إذ "تحوّلت إلى مقصد معتمد للعديد من أبناء العراق وسوريا والأردن فضلاً عن دول الخليج العربي، حتى يكاد قسم العمليات الجراحية مثلاً يخصّص يومياً أسرّة "للأجانب" ويهتمّ بشكل زائد بكون الموظّفين في القسم من أصحاب المهارات في التواصل ومتعددي اللغات". ويقول إن "جزءاً كبيراً من مدخول المستشفى بالعملة الصعبة يأتي من المرضى العرب ولا سيما العراقيين، فبعض الشركات السياحية باتت متخصصة في العمل على تسهيل سفر المرضى وصولاً إلى متابعة حجوزاتهم في الفنادق القريبة على المستشفى وحجز سرير في المستشفى والمتابعة مع الأطباء، بل إنّ بعضهم عرض على موظفين في المستشفى العمل معهم بالسرّ من باب التنسيق والتوسّط لدى الإدارة والمتابعة المنزلية".
الممرض أولى بالمعروف
في بلد الطبقية، اعتبرت هجرة الأطباء هي الأزمة الكبرى في "نفوق" الكادر الطبي في وقت تعتبر العملية الاستشفائية قائمة بالدرجة الاولى على الكادر التمريضي. فبدأت المستشفيات بتسوية أوضاع الأطباء مالياً لتثبيتهم في البلاد. وتأخر معظمها عن إجراءات فعالة تجاه الممرضين، مما خفّض قيمة الأجور إلى مستويات متدنية امتنع على أثرها بعض الموظفين عن الحضور إلى عملهم، فضلاً عن مسارعة آخرين للقبول بعروض عمل في الخارج بأجور لا تساوي ثلث ما كان يعرض عليهم سابقاً.
النقابة المخدرة
بقراراتها وبـ "لا قراراتها"، ليس في الأمر ظلم إن وصفنا عمل نقابة الممرضين بقيادة النقيبة ميرنا ضومط خلال السنوات الأربع الماضية بالكارثية. فالنقابة التي يفترض أن تكون فعلاً من أقوى نقابات العمل في لبنان وتملك من أوراق القوة والحضور والقدرة البشرية والخبرة التراكمية ما يجعلها قادرة على التنسيق مع نقابات ممرضين خارج لبنان وقيادة مسار تطويري لواقع المهنة يفرض على الحكومة والوزارات المعنية سواء الصحة والعمل مجاراته، تلخّصت جلّ إنجازاتها في إجبار الممرضين دفع رسوم تخلّفهم عن سداد مستحقات النقابة السنوية في عزّ الأزمة من خلال تقسيطها شهرياً بإشراف المستشفيات، لتضاف إلى الحزمة التي تحسم من مرتّب الممرّض أول الشهر.
"لا تندهي... لا نقابة هنا". لا حماية لحقوق الممرضين في حال الصرف التعسفي ولا حديث يذكر مع مستشفى مارست حملة طرد جماعية بحق موظفيها. ليس لهذه النقابة ماء وجه أريق حين صرفت المستشفى أعداد كبيرة من الموظفين بمواكبة أمنية "بوليسية" من الجيش وقوى مكافحة الشغب، ما شكّل بالنسبة للعاملين في هذا القطاع "بطاقة النعوة" لمستقبل التمريض في لبنان. وأسّس لكلّ ما شهدته وستشهده البلاد أكثر خلال الأشهر المقبل من هجرات جماعية للمرضين وإفراغ تامّ لمستشفيات البلد من طاقاتها التمريضية، مع ما يشكّله هذا الأمر من خطورة بالغة تفوق بأضعاف خطورة انقطاع المازوت أو انقطاع الأدوية. فالمازوت والأدوية بحال احتكارها أو فقدانها يمكن توفيرها بأي تسوية أو قرار سياسي أو هبات أو مساعدات. أما البشر فمن يرجعهم أو يخلقهم من جديد؟
لم تكن النقابة حاضرة قبل الأزمة. كانت لا تتعدى كونها "شاهد زور" على قرارات المستشفيات بحقّ موظّفيها، تحضر الجلسات التأديبية عبر مندوبين لا يحركون ساكناً وتقرأ على الممرّض أو الممرّضة المدان لائحة من الحقوق والواجبات كأنها شهادة تلقين الميّت. وبالعموم فإنّ العقد السياسي – الاجتماعي اللبناني، القائم على أعمدة الطائفية والعائلية والمناطقية، مضروباً باستحكام اقتصادي تام في مفاصل الدولة من قبل كارتيلات أصحاب الرساميل الضخمة، يجعل من فكرة النقابة التي تناضل لحقوق موظفيها فكرة طفولية أو في أحسن الأحوال رومنسية تنشد العودة إلى زمان جميل متخيّل. فخلال 3 عقود من العمل النقابي بعد اتفاق الطائف والحريرية السياسية، لم ينتج العمل النقابي في أحسن أحواله غير استعراضات فارغة كانت في معظم الأحيان قائمة على أحلام سياسية وصولية.
أزمة البنزين... لا راحة بعد اليوم
الممرضون لا يلتقون بعائلاتهم، ينامون على أسرّة المرضى لأيام. فأزمة المحروقات لم توفّر قطاع الاستشفاء ليتخبط بأزماته الخاصة بل جاءت وأرخت بثقلها عليه لتزيد من كارثية الوضع. فكثير من المستشفيات اليوم تعاني نقصاً فادحاً في العاملين ناتج عن عدم قدرتهم على الوصول إلى العمل، سواءً بسبب انقطاعهم من البنزين أم بسبب انقطاعهم من المال ببساطة، إذ أنّ كلفة الرحلة من إحدى قرى صيدا إلى إحدى مستشفيات بيروت مثلاً، وهي رحلة عادية في السيارة كانت لا تكلّف عدة ليترات بنزين في اليوم، باتت تكلّف اليوم ما يفوق المئة ألف ليرة ذهاباً وإياباً وهذا من دون استخدام تاكسي خاص، وعلى ندرتها وصعوباتها لا سيما مع الدوامات الليلية حيث تتضاعف تكلفة النقل العام هذا في حال توفره.
وقد بدأت بعض المستشفيات مؤخراً باعتماد خطوات فردية، كالتعاقد مع محطة خاصة وتوزيع بونات على العاملين فيها، كمستشفى "السيدة" في جل الديب، وقيام مستشفيات أخرى كمستشفى الجامعة اللبنانية الأميركية في الأشرفية بالإعداد لتعبئة البنزين للسيارات عبر صهاريج ومحطة خاصة، وهو ما تتجه إليه العديد من المستشفيات الأخرى تباعاً، في ظلّ انعدام الخطوات الفعالة من قبل النقابة المنسحبة من دورها بشكل تام وترك الكادر التمريضي عرضة للطوابير والأسواق السوداء والبطالة مع تهديد الوضع الاستشفائي.
بدأت بعض البلديات مؤخراً، وبشكل فرديّ في معظم الأحيان، تنسيق عمل المحطات الواقعة ضمن نطاق بلدتها مع لحظ أولوية للطواقم الطبية. وقد أثمرت هذه الإجراءات خلال أيامها الأولى تيسيراً لأمور الممرضين والممرضات والأطباء، ولكنّها حتى اليوم انحصرت في بعض بلديات الجنوب لا سيما في منطقة النبطية وفي المتن وبعض قرى الجبل، بينما لا زالت تغيب هذه الإجراءات بشكل كامل عن بيروت وضواحيها حيث يتركّز ثقل المستشفيات والكادر الطبي والتمريضي.
اعتماد الممرضين على العمل المتواصل وإجبارهم من قبل بعض المستشفيات على هذا النمط يهدد جودة العمل الاستشفائي. أبسط المعلومات تقول أن البشر لا يمكنهم الانتاج في أي عمل متواصل إلى هذا الحد. فهذه الطريقة من روتين الحياة تستخدم للتعذيب في السجون وليس لحياة ممرضين من مهماتهم الحفاظ على الأرواح، فأي خطأ ناتج عن تراجع القدرة الذهنية أو البدنية قد يودي بحياة المرضى.
أليست الممرضات من النساء !
لا مغريات هنا للجمعيات المهتمة بـ"تمكين" المرأة، وإن كان هذا القطاع من أوضح القطاعات الذي يثبت تفوق نسبة الإناث على الذكور بشكل ملحوظ. لم تتلق الممرضات أي مبادرة فعالة من الجمعيات الكثيرة العاملة في هذا الإطار، لا من جمعيات الاتحاد الأوروبي، ولا من جمعيات الـUSAID، فضلاً عن عشرات الجمعيات التي فتحت بالجملة بعد انفجار المرفأ.
Related Posts
أسرة تحرير الخندق