منذ اللحظة الأولى لهبّة القدس في فلسطين المحتلة فتحت قناة الجزيرة الهواء بتغطية مكثفة، تكثّفت معها الرسائل الإعلامية الملغومة. فمنذ بداية المواجهات في القدس والشيخ جراح، إلى الصاروخ الاوّل الذي سقط في القدس المحتلة، أصرّت قناة الجزيرة على أن تتمحور تغطيتها الإعلامية حول رسالة مفادها أنّ الصراع هو بين الكيان الصهيوني المقتدر والمتجبّر والمدعوم، وغزة العاجزة والمحاصرة
الجزيرة وسيف القدس: شتاء وصيف تحت سقف واحد
منذ اللحظة الأولى لهبّة القدس في فلسطين المحتلة فتحت قناة الجزيرة الهواء بتغطية مكثفة، تكثّفت معها الرسائل الإعلامية الملغومة. فمنذ بداية المواجهات في القدس والشيخ جراح، إلى الصاروخ الاوّل الذي سقط في القدس المحتلة، أصرّت قناة الجزيرة على أن تتمحور تغطيتها الإعلامية حول رسالة مفادها أنّ الصراع هو بين الكيان الصهيوني المقتدر والمتجبّر والمدعوم، وغزة العاجزة والمحاصرة. ومن خلال تتبّع استراتيجية القناة الإعلامية تتبيّن بوضوح، مواقف قطر السياسية المواربة تجاه القضية الفلسطينية، وهي استراتيجية قائمة على تسوّل التعاطف الإنسانيّ واستثارة المشاعر بدل التركيز على قدرة المقاومة الفلسطينية في المواجهة ووزنها السياسيّ والعسكريّ، فتبدو بفتحها الهواء ونقلها لصور المجازر والقصف على غزّة أمام جمهورها العربي بأنّها داعمة للقضية الفلسطينية، بينما هي تقولب وعي الجمهور كي لا يرى العالم بغير عدستها الخالية من أيّ تبنٍّ لخيار صريح وواضح في دعم الفلسطينيين وقضيتهم المحقة.
إن المتتبع لسياسة هذه القناة ذات الاتجاهات المتعددة التي تسعى لتُوائم بين توجّه النخبة الثقافية الأمريكية، وبين التيار الإخواني التركي، وبين الحفاظ على أدبيات معتدلة تجاه الكيان الصهيونيّ تحافظ على تمايزها عن الإعلام المقاوم الواضح في موقفه ضدّ الاحتلال، يرى بوضوح أنها تحاول أن تحافظ على التوازن بين هذه الاتجاهات الثلاثة، والتي يمكن أن يدخل إليها المزيد من التوجهات بحسب بعض التغيّرات التي قد تطرأ على الوضع الإقليمي كما لاحظنا مثلاً في فترة أزمتها مع مجلس التعاون الخليجي. سياسة تجعلها مربكة دائمًا في استخدام المصطلحات، حتى أنّ المتابع العاديّ قد لا يستطيع أن يحدّد ما إذا كانت الجزيرة تعترف بـ"إسرائيل" أو تؤكّد على وجود الدولة الفلسطينية، أم أنّها مع التوجه الأميركيّ الذي عاد مع إدارة بايدن بعدما فشلت صفقة القرن كما كان يطمح إليها ترامب، وعاد الأمريكيون إلى حلّ الدولتين.
لقد كشفت هذه التغطية الانفصام الإعلاميّ لقناة الجزيرة بين تبنيها العام والعلنيّ للمقاومة الفلسطينية وتحديدًا حركة حماس انطلاقاً من خلفيتها الإخوانيّة القطريّة، وبين تكتيك إعلامي يظهر المقاومة الفلسطينية ضعيفة بل يعرضّها للإدانة في ما يشبه التحريض على الفصائل وتحميلها المسؤولية وفصلها عن سياقها العام ووزنها الشعبي وتمثيلها الفلسطيني والعربي والإسلاميّ، وأيضاً بين استعداد واضح لجعل القناة منبراً للرواية الإسرائيلية وناقلاً حصرياً للدعاية الصهيونية التي لم تكن لتدخل أيّ بيت عربيّ لولا أنّ القناة المصنّفة أولى في المنطقة العربية فتحت هواءها لها.
وفيما يلي أبرز تلك الرسائل:
- التركيز ولو بشكل غير مباشر على أخلاقيات الاحتلال وإنسانيته والتزامه بالقوانين الدولية كما حصل لدى تغطية الجزيرة لقصف الإسرائيليين لبرج هنادي، عبر التركيز بأنّ طائرات الاحتلال قامت بإطلاق صاروخ تحذيري. على المبنى قبل قصفه.
- في نفس الوقت الذي كانت المقاومة تضرب المستوطنات والمدن المحتلّة، كانت قناة الجزيرة تركّز على استشهاد القادة الفلسطينيين وحجم الخسارة التي لحقت بالمقاومة، حتى بدت التغطية وكأنها شماتة على قاعدة "هذا ما جنته أيديكم".
- مدح القبة الحديدية واعتراضاتها الناجحة للصواريخ، والتركيز عليها في كافة الرسائل الإعلامية من كافة المراسلين في غزة ورام الله والضفة الغربية.
- التركيز على عدد الشهداء الفلسطينيين والفجيعة الفلسطينية بالخسارات البشرية في مقابل عدم التركيز على الخسائر الإسرائيلية.
- التركيز على الاعتقالات التي تسبّبها مظاهرات فلسطينيي 48 وآثارها السلبية عليهم وعلى عائلاتهم بدل التركيز على الاستفزازات الإسرائيلية والعدوانية في "فرض الأمن" وقمع المظاهرات الشبابية سواء من السلطات أو من المتطرفين اليهود المستوطنين أو من قوّات الاحتلال.
- فتح الهواء للمحللين الإسرائيلييّن، وهو تكتيك يتعارض تماماُ مع التأييد المطلق للمقاومة الفلسطينية، بل وحتّى أنّه يتعارض مع أخذ موقف واضح يعترف بمظلومية الفلسطينيين في هذه الحرب ككلّ وهذه الانتفاضة. فهو من جهة اعتراف بحق الصهاينة في إبداء وجهة نظرهم، ومن جهة أخرى يعكس مبدأ "الحياد الإعلامي"، ولكنّه عملياً يقدّم خدمة كبيرة للاحتلال في نقل صوت وصورة سياسييه وضباطه وصحافييه إلى كلّ بيت عربيّ. حصل ذلك في الوقت الذي أخذت فيه قنوات أوروبية وعالمية موقفًا من استضافة الضباط والسياسيين الإسرائيليين على خلفيات حقوقية وقانونية، بعدم السماح لهم باستخدامها كمنابر إعلامية، بسبب إدانتهم كمجرمي حرب أو بسبب ارتباط الاحتلال بقوانين عنصرية وتطهير عرقيّ ضد الفلسطينيين.
- نقل الأخبار الصادرة عن الأجهزة الإعلامية الإسرائيلية ومن دون أيّ فلترة تحت عنوان الرأي والرأي الآخر، وهي مسألة في غاية الخطورة فضلاً عن اندراجها تحت عنوان التطبيع الإعلامي، كونها تفتح المجال لجعل قناة الجزيرة جزءاً من آلة الحرب الصهيونية بعدما ثبت خلال حرب غزة الأخيرة كيف أنّ الاحتلال استخدم الإعلام الصهيوني بشكل مباشر في عمل أمنيّ-عسكريّ وهو خطة قصف الأنفاق شمال غزة.
- استخدام مصطلح "الاشتباكات" و"المواجهات"، تعليقاً على العدوان الإسرائيلي الممنهج والمستمرّ على الفلسطينيين في القدس ومناطق 48.
صحيح أن التغطية الأكثر زخمًا في الإعلام التقليدي قامت بها قناة الجزيرة، وقد فتحت هواءها ليل نهار لنقل الصورة من فلسطين، إلا أنها مارست تأطير هذه الصورة من خلال عدستها السياسية، على أن التأطير الإعلامي أصبح ظاهرة ملازمة لكافة أشكال الإعلام التقليدي. وحده الإعلام الجديد عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما أخرج القضية الفلسطينية من تلك الأطر، فرأى العالم حقيقة ما يجري في فلسطين.
"Related Posts
كاتبة وباحثة لبنانية