في زمن يمتاز بالوضوح والمباشرة، كالذي نعيشه اليوم، بات الحديث عن الحياد الإعلامي ضرباً من ضروب الخيال. ليس المطلوب من الإعلام أن يكون محايداً بعد اليوم. لا بل على النقيض، هو قد يقيّم بمدى حرفيته في التوفيق بين الانحياز والموضوعية. والانحياز، بحسب فهمي، هو في انتصاره لما يراه حقاً، والموضوعية هي في عدم إخفائه الحقائق وقلبه الوقائع.
الجزيرة بودكاست: حينما يُترك التاريخ للتنابل
في زمن يمتاز بالوضوح والمباشرة، كالذي نعيشه اليوم، بات الحديث عن الحياد الإعلامي ضرباً من ضروب الخيال. ليس المطلوب من الإعلام أن يكون محايداً بعد اليوم. لا بل على النقيض، هو قد يقيّم بمدى حرفيته في التوفيق بين الانحياز والموضوعية. والانحياز، بحسب فهمي، هو في انتصاره لما يراه حقاً، والموضوعية هي في عدم إخفائه الحقائق وقلبه الوقائع. وبناء على هذين المعيارين/ الحدّين، سنضع تجربة الجزيرة في رواية التاريخ عبر سلسلة رموز في برنامجها "الجزيرة بودكاست" أمام المساءلة، تاركين الحكم للتاريخ والقارئ.
أولاً: في الموضوعية
إن كنا سنعفي الجزيرة من الدخول في انحيازات الصراعات الدائرة اليوم على المستوى العربي والإسلامي، إلا أنّنا لا يمكننا إلا أن نواجهها ونحاسبها في انحيازاتها المتعلقة بالقضايا الكبرى للوطن العربي والعالم الإسلامي، وهو الثابتة التي يجب أن لا نتنازل عنها مهما سعى الواقع اليوم في تخطيها وتجاوزها. وبعيداً عن الصراعات القائمة اليوم في العالم العربي والإسلامي، ثمة ما لا يمكن تجاوزه في الموقف من القضايا الكبرى للأمة العربية والإسلامية، وهو ما يطالعنا من خلال جملة حلقات، منها:
الأولى: الحلقة الخاصة بسرد سيرة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة "مارغريت تاتشر"؛ لماذا غابت عن أسئلة "سيلينا" (وهي المحاور الثابت تقريباً التي تطرح الإشكالات المثارة على الشخصية موضوع الحلقة) قضايا العالم العربي في زمن كان يغلي بالأحداث وكانت بريطانيا ذات فعالية ليست بالبسيطة، بل وحتى عندما ذكرت المتحدثة بلسان تاتشر قصة علاقتها بالرئيس الأميركي ريغن قائلةً "لأنه [أي ريغن] دعمنا في الفوكلاند، ووافق على شحن الأسلحة لقواتنا هناك، رددت له الجميل عام ١٩٨٦ ووقفت وحدي بين كل الحلفاء الغربيين وسمحت لطائرات USS11 بالإقلاع من قواعدنا عندما أراد ريغن قصف ليبيا". مر هذا الحديث دون تعقيب أو سؤال بالرغم من أن الحادثة المذكورة أودت بحياة 45 جندياً لبيباً و15 مواطناً مدنياً بنيران القوات الجوية الأمركية.
الثانية: في الحلقة التي قدم فيها لورنس العرب نفسه عبر منصة الجزيرة بودكاست، ظهر بمظهر الصديق المخلص الذي تألم لخذلان بريطانيا للعرب وثورتهم حتى قضى انتحاراً على دراجته النارية (وهو ما حاول معد الحلقة التلميح له بقوة) في حين أن واحدة من الإشكالات المثارة عليه كانت علاقته بالحركة الصهيونية وتبنيه لمشروعها كما يقول "سكت أندرسن" في كتابه "لورنس في جزيرة العرب"، وهذا من الإشكالات التي لم تُطرح.
الثالثة: يسجل على الجزيرة في سردها لسيرة المفكر والمناضل البوسني علي عزت بيكوفيتش، إخفاءها في كل روايتها للدور الكبير الذي لعبه الحرس الثوري الإيراني والمقاومة الإسلامية اللبنانية دفاعاً عن الشعب البوسني في وجه الإبادة التي تعرض لها. ولا يخفى على مبصر دخول مجموعات من الحرس الثوري وحزب الله، على رأسها العميد محمد رضا نقدي واللواء سعيد قاسمي إلى البوسنة، وما تبع تلك المجموعات من مدربين ومستشارين من لبنان عام 1992، ومن ثمّ وصول مجموعات أخرى عام 1994 ليصل عدد المتطوعين لحوالي 3000 إلى 4000 متطوع إضافةً إلى ما يقارب 400 إلى 500 لبناني من حزب الله وحركة التوحيد، حولوا البوسنة معهم إلى معسكرات تدريب بحسب تصريح ضابط عسكري أوروبي لنيويورك تايمز في الثالث من آذار عام 1996.
ويضاف إلى كل ذاك حجم الأسلحة والذخائر التي أرسلها الإيرانيون ما بين أيار 1994 وكانون الثاني 1996 والتي ناهزت الـ 5 آلاف طن بحسب الصحافي الصربي كارل سافيش. كل هذه الحقائق غابت عن قصة على عزت بيكوفيتش ليظهر الناتو بمظهر الجيش الإنساني البطل الذي أنقذ البوسنة والبوسنيين من الهلاك (بينما منع الناتو وزير الخارجية الإيراني آنذاك، علي أكبر ولايتي، من كسر الحصار وزيارة العاصمة سراييفو). كما غاب أو غيّب موقف علي عزت نفسه بعد انتصار البوسنة الممتن لآية الله الخامنئي والرئيس رفسنجاني وحكومة وشعب إيران كونهم أكثر من قدم الدعم لبلاده وشعبه في مواجهة المجازر الصربية.
الرابعة: ثمة خلل واضح وبيّن يعتري الحلقة الخاصة بالرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة. فالتهم الموجهة إليه – في الحلقة – هي على النحو التالي: 1- الحكم الدكتاتوري. 2- اغتيال المعارض التونسي صالح بن يوسف. 3- القمع بوجه تظاهرات 1977 وأحداث كانون الثاني - يناير التي أودت بـ500 تونسي بين قتيل وجريح. 4- قمع مظاهرات ثورة الخبز عام 1984 التي أودت بالمئات بين قتيل وجريح ومعتقل. 5- التضييق على علماء الدين وفرض الزواج المدني بالقوة. 6- التخلي عن الحقوق القومية العربية ودعوته عام 1965 إلى التزام قرار الأمم المتحدة بتقسيم الأراضي الفلسطينية والتخلي عن القدس وحق العودة.
وقد خُتمت الحلقة بالحكم التالي: "زعيم مثير للجدل أثيرت في وجهه قضايا كبرى ولكن في موازاة هذه القضايا أسس لمسار من تحرر المجتمع لم يقدم عليه أي زعيم عربي واستطاع العبور بتونس من سياسة اشتراكية إلى سياسة أكثر ليبرالية، كما كان استشرافياً رؤيوياً في مقاربة علاقاته الخارجية والقضايا القومية. وكان أميناً لضميره مع الشعب الفلسطيني عندما تمسك بقرار تقسيم فلسطين التاريخية حفاظًا على الحقوق (وهنا عودة لانحياز الجزيرة واعتبارها التخلي عن القدس وحق العودة أمانةً لضميره مع الشعب الفلسطيني)".
ثانياً: في الانحياز
في الحلقة الخاصة بقصة الشيخ ابن تيمية، اختتمت الحلقة بالتالي: "هكذا انتهت قصة الشيخ ابن تيمية، الشيخ الذي دافع عن وجود المسلمين بوجه التتار كما دافع عن العقيدة والدين بحزم ووضوح في الرؤية". أما في الحلقة المتعلقة بسيرة الراحل ياسر عرفات فقد كان الختام: "كانت هذه قصة ياسر عرفات أبو عمار، الأب الروحي للقضية الفلسطينية، وكلي ثقة أنها ستبقى منارةً للشعب الفلسطيني على مر الأجيال والعصور".
وبذلك وعلى الرغم من ادعاء القناة الدائم بأنها تسرد القصة مع الاتهامات والردود تاركةً الحكم للمستمع والتاريخ، نجدها تختم حينما تريد حلقاتها بالدفاع والتمجيد، وبإصدار الأحكام السبلية حينما ترغب.
ففي الحلقة الخاصة بسرد قصة الشهيد قاسم سليماني (الحلقة المعدلة التي نشرتها الجزيرة بعد حذفها الأولى لما أثارته من ردود فعل مهاجمة لها) اختلفت المعايير التي اعتمدت في الحلقات الأخرى، حتى تلك التي أرادت من خلالها مهاجمة الشخصية موضوع الحلقة، حيث كانت سيلينا (المحاورة وصاحبة الإشكالات) تطرح عليه الاتهامات دون أن نسمع رداً واحداً منه، وكأنما يريد المعد أن يحول تلك الاتهامات إلى حقائق ثابتة. هكذا أُغفل دوره في الثورة الفلسطينية، ولم تحضر فلسطين في الحلقة إلا بشكل هزيل مرات قليلة. في إحداها تخبر سيلينا الشهيد سليماني بأن أهل غزة وزعوا الحلوى فرحاً باغتياله متجاوزة كل بيانات العزاء التي صدرت عن فصائل المقاومة الفلسطينية دون استثناء، ومتجاوزةً أيضاً علاقته بفلسطين وبالمقاومين والقادة على تنوع انتماءاتهم. لتختتم الحلقة بالتالي: "كانت هذه قصة قاسم سليماني الجنرال الذي يعتبره السواد الأعظم مجرم حرب، ارتكب العديد من الجرائم التي لم يستطع تبريرها حتى بعد استماعنا إليه، لكن أثر ما فعله باق في تراث مجتمعه وشعبه ولدى من أحبه ومن كرهه".
وبما أن المجال لا يتسع هنا لتقييم ونقاش جل السياسات التي حكمت الجزيرة في استعراض شخصية سليماني، فقد أردت أن أخلص من هذا المقال بأمرين:
الأول: أن أترك الحكم للقارئ العربي في تقييم ما تقدمه هذه الشبكة، استناداً إلى مدى انحيازها الفعلي لقضاياه وعلى رأسها فلسطين.
الثاني: أن أقول للمقاومين الذين يصنعون التاريخ اليوم، هذا ما يحدث عندما يترك التاريخ ليكتبه التنابل، أحياناً ينتصر من يكتب التاريخ إذا لم يقم المنتصر بكتابته.
"Related Posts
كاتب وإعلامي لبناني