Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

هل يجب على الباحث التاريخي الاستسلام أمام المرويات الإخبارية والوقائع المكتوبة حتى لو تعارضت مع المكتشفات الأثرية؟ أو ربما يمكننا أن نطرح هذا التساؤل بصيغة أخرى: هل يجب على الباحث التاريخي أن يفسر النصوص والمكتشفات الأثرية وفق المرويات والكتابات التاريخية أم العكس؟!

أحمد صبري السيد علي

البحث التاريخي بين المكتشفات الأثرية والتاريخ المروي – المكتوب: الجزء الأول

"

هل يجب على الباحث التاريخي الاستسلام أمام المرويات الإخبارية والوقائع المكتوبة حتى لو تعارضت مع المكتشفات الأثرية؟ أو ربما يمكننا أن نطرح هذا التساؤل بصيغة أخرى: هل يجب على الباحث التاريخي أن يفسر النصوص والمكتشفات الأثرية وفق المرويات والكتابات التاريخية أم العكس؟!

الواقع أن هذا الإشكال يمثل جزءاً جوهرياً من عمل الباحث التاريخي، فعبر وضع المرويات والمكتوبات كقاعدة تم تبرير اغتصاب فلسطين كأرض عربية، وربما تزييف تاريخ الهلال الخصيب كله عبر محاولة ربطة بالنصوص التوراتية، أو بمعنى أدق القراءة والتفسير اللاهوتي لهذه النصوص، وكانت بالأساس هي الدافع الأول للمكتشفين الغربيين، الذين ساهموا بدور قوي في تأسيس الكيان الصهيوني، عبر محاولاتهم لتطبيق جغرافيا التوراة بكل تعسف على الأرض الفلسطينية، في الوقت الذي لم يستطع فيه هؤلاء المكتشفون إثبات أو على الأقل الجزم بأي تواجد حقيقي للأحداث التوراتية على الأرض الفلسطينية وحتى في سيناء المصرية.

إن محاولة جذب المكتشفات الأثرية لوضعها على أرضية المرويات المنقولة أو المكتوبة ليست تاريخية على الإطلاق بقدر ما تستهدف استغلالها لأغراض متنوعة دينية وسياسية ويبدو أنهما في الغالب لا ينفصلان، خاصة لو وضعنا في الاعتبار أن معظم من دونوا التاريخ القديم كانوا يحاولون بالأساس الترويج لسلطة سياسية تتبنى ديناً أو مذهباً معيناً، وبالتالي فإن التعامل مع هذه النصوص على أساس كونها تروي الأحداث دون أي تحريفات أو تغييرات يبدو مجرد مساهمة في تزوير الحقائق التاريخية وتوجيهها لوجهة تصب في صالح مجموعة بشرية معينة.

وربما تكون الإجابة على التساؤل السابق مرتبطة بالفروق الجوهرية بين المؤرخ والباحث التاريخي. فالأول مدون للتاريخ، وهو يدونه بشكل سلبي تقريباً، لكن مساهمته الإيجابية تظهر في إخفاء أحداث أو تحريفها وأحياناً تجاهلها لتخدم مصالح توجهاته أو مصالح السلطة التي يعيش في ظلها، ولا مانع في أن يوجه النقد إلى بعض الآراء التاريخية أو المرويات والأخبار لكنه في كل الأحوال لن يعتمد على منهج علمي وإنما فقط صياغة مواقفه ومصالحه الاجتماعية، الدينية والسياسية في صيغة عقلية واستدلالية. بينما الباحث التاريخي مطالب بالبحث عن الحقائق التاريخية، أو الاقتراب منها، بقدر مقبول من الحياد عبر تحليل هذه المعلومات المتراكمة والمختلفة في توجهاتها، ومن هنا كانت الضرورة التي أدت لظهور مناهج البحث التاريخي الحديثة، والتي اعتمدت على محاولة اكتشاف عوامل الحركة والتطور التاريخي لتصبح القاعدة التي يتم بناء عليها غربلة هذه المعلومات[1].

لا يمكن الزعم، بكل تأكيد، أن الباحثين التاريخيين، في غالبيتهم، يطبقون هذا القدر المطلوب والمقبول من الحياد البحثي، فغالباً ما تسيطر الأيدلوجيات والتوجهات والمصالح على المنهجية البحثية، وفي هذه الحالة يستدعي الباحث التاريخي روح المؤرخ ليتحول إلى صدى إعلامي لسلطة أو توجه أو حتى مصالح اجتماعية وشخصية، ويمارس ذات الدور القديم مستخدماً التجاهل أحياناً أو التفسير المتعسف وربما المتخيل أحياناً أخرى لينطلق بعدها إلى النتائج معتبراً هذا الكم من الدجل الذي مارسه سابقاً بمثابة حقائق أو شبه حقائق.

وأعتقد أنه أمام هذا الركام من محاولات الاستغلال الاجتماعي والسياسي للتاريخ وحتى للمكتشفات الأثرية أصبح من الضروري عدم الاكتفاء بمناهج البحث التاريخية والتي اهتمت أصلاً بتفسير الأحداث، وإنما ضرورة العمل على إنتاج مناهج لتفسير النصوص التاريخية تكون داعمة لمناهج البحث التاريخي التي ربما تعاني من خلل أو ثغرات نتيجة الافتقاد لأسس واضحة فيما يتعلق بهذا الجانب من كيفية التعامل مع النصوص التاريخية ونقدها، بما يسمح باستغلالها كأوهام قد تحمل صبغة دينية مقدسة لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية.

من المؤكد أن القرنين التاسع عشر والعشرين حملا محاولات من البعض لتأسيس آليات لقراءة النصوص كالهرمنيوطيقا والبنيوية والتفكيكية، وهي نظريات/مناهج سعت لمحاولة قراءة النصوص الدينية والأدبية لكنها لم تستهدف وضع النص المطلوب قراءته في خدمة منهج البحث بل ربما سعت لعزله عن محيطه التاريخي (الاقتصادي والاجتماعي)، عبر تأويله ككلمات وتحميلها لمدلولات لغوية وثقافية وربما فلسفية لا يوجد ما يثبت أنها وردت في ذهن القائل[2]، وهنا يتمثل الفارق بين هذه المناهج التي سعت لعزل النص عن قائله/مؤلفه ومحيطة الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحيث يتحول نقدها/تأويلها لما يشبه نصاً جديداً، وبين منهجية تسعى بالأساس لمحاولة فهم إرادة الراوي/المؤلف عبر إعادة إنزال النص إلى الأرض التي نبع منها، بل يمكنني أن أؤكد أن مثل هذه النظريات/الآليات عندما تستخدم مع نص تاريخي أو ديني مقدس لن تفعل سوى تعميق تحريفه وتزوير إرادته وأهدافه بل وتغريبه تماماً عن الواقع، مستبدلة إرادة المؤلف/الكاتب بإرادة المفسر/المؤول أو الناقد، وإذا كان هذا يبدو مقبولاً بالنسبة لنص أدبي، رغم التحفظ عليه، لكنه بالنسبة للنصوص الدينية والتاريخية سيمثل كارثة.

إن قراءة النص التاريخي المرتبط بحدث ما يجب أن تبدأ من واقعه وليس من واقع أو تصورات الباحث التاريخي، ومن هنا فإن معرفة الباحث ودرايته بهذا الواقع ووعيه بقوانين تطوره هو القاعدة الأساسية التي يجب أن يعتمد عليها في التعامل مع النصوص المروية أو المكتوبة، ومثل هذا الواقع، الذي يتكون بدوره من طبيعة جغرافية تؤدي لنشأة نشاط اقتصادي ونمط إنتاج وما ينتج عنهما من أوضاع اجتماعية وصيغ ثقافية، يعبر عنه المكتشف الأثري بشكل أكثر موثوقية، كون هذا المكتشف يثبت بما لا يدع مجال للشك عن وجود حركة وحدث تاريخي ما بالفعل، وبناء عليه يمكن نقد النصوص المروية والمكتوبة ونقضها خاصة لو لم تكن معاصرة للحدث.


[1] هذه الرؤية خاصة بالباحث. ولابد من الإشارة إلى أن من اقصدهم بلفظة المؤرخ هم مدوني التاريخ في السابق، كمانيتون وهيرودوت واليعقوبي والطبري وغيرهم، ولكن منذ نهايات القرن التاسع عشر تحول التاريخ إلى تخصص يجب أن يحظى من يحترفه بمعايير معينة ومن هذه اللحظة أصبح المسمى الأكثر دقه هو الباحث التاريخي.

[2] عبدالعزيز حموده. المرآيا المحدبة (من البنيوية إلى التفكيك). سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. عدد 232. الكويت أبريل/نيسان 1998. ص 55 – 60، 105، 106. عادل مصطفى. فهم الفهم (مدخل إلى الهرمنيوطيقا.. نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر). طبعة دار رؤية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى. القاهرة 2007. ص 72 – 80. يشار إلى التطور الذي بدأه شلاير ماخر (1768 – 1834) بخصوص علم التأويل وتحويل الهيرمنيوطيقا إلى " هيرمنيوطيقا عامة " يمكن لمبادئها أن تقدم أساساً لتأويل النصوص بجميع أنواعها بعد أن كانت مرتبطة بتأويل الكتاب المقدس، ثم ساهم فيلهلم دلتاي (1833 – 1911) بدوره في تطوير مهمة الهيرمنيوطيقا كونها مبحثاً معنياً بتأويل النصوص، حيث وجد فيها الأساس الأكثر إنسانية وتاريخية لمحاولته صياغة منهج إنساني للعلوم الإنسانية/الثقافية، ليأتي بعده دور هيدجر (1889 – 1976) وهانز غدامير (1900 – 2002) وبول ريكور (1913 – 2005) في تطوير الهيرمنيوطيقا حيث اعتبر الأخير أن الهيرمنيوطيقا هي عملية فك الرموز التي تمضي من المحتوى الظاهر إلى المعنى الخفي. والهيرمنيوطيقا هنا تتعارض مع فكرة نقد النص التاريخي كونه نص ظاهر وواضح لا يحتاج لتأويل من داخله وإنما يحتاج لمعرفة الدوافع والخلفيات التي أدت لكتابته، وهي (الدوافع والخلفيات) لا يمكن معرفتها من التأويل الداخلي للنص وإنما من دراسة الأوضاع التاريخية المحيطة والمعلومات المتاحة حول الكاتب.

"

باحث مصري مقيم في لبنان