Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

بيروت ليست بخير، من قبل الانفجار وبعده. مخطئ من يعتقد أن بيروت تعافت مما ألم بها ليل 17 تشرين 2019. لقد كشف انفجار الشارع في تلك الليلة أننا في عمق الأزمة. لا سلطة مسؤولة في بيروت، ولا ثورة. لا طرق تفضي بنا للعبور مما نحن فيه ولا منطق في كل ما يجري. عبث يجتاح يومياتنا كانفجار قاتل نحاول أن نتكيف معه.

بشار اللقيس

الانفجار ولعبة النرد

"

لم يشبه انفجار مرفأ بيروت شيئاً كما شابه نهاراتنا. موت يقتحم الشوارع والأزقة والمحال مباغتاً. رعب تجسد أمام ناظرينا نحن الذين نساكن الموت كل يوم في خبزنا وقمحنا وملحنا. لم يشبه انفجار مرفأ بيروت شيئاً كما شابه مساءاتنا. مشرد بلا مأوى، سلطة لم تترك للناس ما يبيتون فيه. صمت مطبق يصم الآذان. وكثير من "الجعجعة".

بيروت ليست بخير، من قبل الانفجار وبعده. مخطئ من يعتقد أن بيروت تعافت مما ألم بها ليل 17 تشرين 2019. لقد كشف انفجار الشارع في تلك الليلة أننا في عمق الأزمة. لا سلطة مسؤولة في بيروت، ولا ثورة. لا طرق تفضي بنا للعبور مما نحن فيه ولا منطق في كل ما يجري. عبث يجتاح يومياتنا كانفجار قاتل نحاول أن نتكيف معه. أوليغارشيات سلطوية كبرى (وهذا مصطلح راج عند الثوار في وصفهم النظام) في مواجهة أوليغارشيات ثورية صغرى (ملاحظة: النظام أضعف من أن ينتج وصفاً لمعارضيه). بيروت بين أوليغارشيتين. والأوليغارشية نظم حكم فئة صغيرة تتميز بالمال، أو النسب، أو المكتسبات التاريخية. بيروت بهذا المعنى بين فئتين تتميزان بنفس المقدرات، وإن بأشكال مختلفة ونسب متفاوتة. ولكل منهما أن يستخدم أدواته وأساليب عمله؛ الهوية التقليدية (الطائفية، المناطقية) في وجه هويات جديدة (الجندر، والمهمشين)، المؤسسة الأمنية في قبال "مؤسسات التعليم الرفيع". الولاء التقليدي المحلي في قبالة الولاءات الجديدة العابرة.

وما قبل الانفجار ما عاد يصح في وصف ما بعده. من قبل كنا نقول أن الفساد بنيوي، هيكلي، تعتاش عليه قطاعات واسعة من الناس. كنا نقول أن قوة الأوليغارشيا الحاكمة تكمن في توزيع ريع فسادها على الناس. ما بعد الانفجار صرنا أمام شيء مضاف. للأوليغارشيا الحاكمة مخاطرها. ومخاطرها تتجاوز التأثير الاقتصادي. هذه الأوليغارشيا قاتلة. هذه الأوليغارشيا لامبالية بحياتنا. ما معنى ألا تُعلم إدارة المرفأ فرق الإطفاء بموجودات العنبر المنفجر قبل انفجاره؟ ما معنى أن يدفع بهؤلاء الشباب إلى الموت؟ ما معنى أن يبقى العشرات عند أبواب العنبر محاولين دخوله لاخماد النيران دون علمهم أنهم ماضون لحتفهم المحتوم؟ وبعيداً عن الإهمال الذي شاب كل عملية الحفظ والتخزين لمواد متفجرة لست سنوات (هذه مسألة كفيلة بإطاحة كبار الرؤوس)، ثمة إهمال في إدارة الكارثة نفسها. إن العيش مع أسلوب عمل هذه الطبقة الحاكمة بات أمراً شبه مستحيل.

وللانفجار تداعيات تتجاوز بيروت. سيكون من الصعب تخيل المشهد بمعزل عما يحصل في الإقليم وعلى المستوى الدولي. تريد الإدارة الأميركية التصعيد بالحديد والنار. لقد رأينا من قبل جملة من العمليات الأمنية في طهران، ونطنز، وفي ميناء بندر عباس، وفي سوريا من قبل ومن بعد. ولا أقصد بذلك أن ثمة عدوان أميركي أو اسرائيلي مباشر بالضرورة (هذه مسألة متروكة للتحقيق)، لكن ظروف العدوان وقرائنه حاضرة في كل شيء. ثمة من يريد أن يقلّب رأي الناس ضد المقاومة في لبنان. ثمة من يريد القول لجمهور المقاومة إن خياركم سيوصلكم بالضرورة للعوَز والجوع. والمتخادمون في مثل هذا المشروع كثر. العميل والفاسد سيان في تخادمهما في هذه المسألة، وكل يعمل لمصلحته.

الفساد والعمالة خطران لا يمكن السكوت عن أحدهما بعد اليوم. كلاهما قاتلان وكلاهما قادران على التدمير. والمقاومة ومواجهة الفساد مسألتان لا يمكن إرجاء إحداهما على حساب الأخرى. معتل كل مجتمع فاضل بين هاتين المسألتين، والتاريخ مليء بالشواهد: لم يخسر المشروع القومي – مع جمال عبد الناصر- مع انفكاك دول الوحدة عام 1961، ولا حتى مع هزيمة عام 1967 على ثقلها. لقد خسر عبد الناصر من قبل، في مطلع الستينيات، مع نفاذ سلطة عبد الحكيم عامر على كل مؤسسات الجيش المدنية والعسكرية، ومع تحويل الكثير من المؤسسات لهيئات خدمية شخصية انتهت بالإجهاز على الناصرية من داخلها مع وفاة ناصر عام 1970. الأمر نفسه عاشه نهرو ما بين عامي 1946، و1959. لم يفشل الرجل في بناء الاشتراكية الديمقراطية ولا في برامجه الخمسية لتطوير الهند، بل بعيد إطلاقه الثورة الخضراء لمواجهة المجاعة عام 1956، عندما تسامح مع الزعماء المحليين في منحهم الصلاحيات الإدارية التي أدت لانكسار مشروع نهضة نهرو الاشتراكية عام 1959. في أميركا اللاتينية، تصير الأمور أكثر سوريالية عند مراجعة تراث اليسار بجناحيه الإصلاحي (البرازيلي) والراديكالي (الفنزويلي) في مواجهة الفساد الداخلي.

الانفجار ولعبة النرد:

ثمة بيوتات لبنانية عندها قدرة عالية على الاستشعار السياسي. في كتابه العمق الاستراتيجي، يعرج أحمد داوود أوغلو على بيتين سياسيين من البيوتات اللبنانية التي تتكثف فيها تقاطعات ومصالح عابرة للحدود. يرى أوغلو في منزلي جنبلاط والجميل ميراثاً سياسياً تاريخياً قادراً على فهم المتغيرات الدولية بشكل سريع. إشكالية هذه البيوت اليوم، أن ما كان ميزة لها صار عبئاً عليها. في منطقة تنوء بثقل التحولات وسرعتها، ومع توزع القرار السياسي بين أكثر من دائرة في دول المركز، يصير الاستشعار السياسي في هذه البيوتات عامل اضطراب لصاحب القرار لا عامل استشراف وتنبّه.

وليد جنبلاط نفسه، دفع في السنوات الخمسة عشر الأخيرة أثماناً باهظة لتحولات مواقفة. من الانسحاب العسكري لسوريا من لبنان عام 2005، إلى موقفه من حرب تموز 2006، وصولاً لأحداث السابع من أيار 2008، ثم موقفه من الربيع العربي في مصر، وما تلاها من أحداث في سوريا، لا يبدو الرجل قادراً على ايجاد ضالته في معترك العمل السياسي.

على المستوى اللبناني الداخلي، يستشعر الرجل اليوم أن زعامته التقليدية في الجبل مهددة بالأفول. تختلف وضعية جنبلاط عن الكتائب الذين تمكنوا من إيجاد شراكة مع نخب القطاع المصرفي المسيحية في الساحل. يعود ذلك لأسباب تاريخية وسياسية مكنتهم من خلال استيلائهم على الدولة (فترة وزارة بيار، ورئاسة بشير وأمين) من نسج هذه العلاقات. الكتائب أكثر قابلية للشراكة مع نخب المجتمع المدني – الأميركي، أما إقطاعية جنبلاط لا تقبل بهذا النحو من الشراكة (لأسباب خاصة ببيئة المجتمع الدرزي في الجبل نفسه). هو يعي ذلك جيداً.

على المستوى الدولي، يرى جنبلاط أن ثمة صداماً دولياً قادماً مع ارتفاع حدة التوتر بين واشنطن وطهران. يعي الرجل جيداً مكانة لبنان ودور حزب الله فيه بالنسبة للأميركيين. لا يملك جنبلاط الكثير من الأوراق. لذا، سيكون أقرب في سياسته القادمة للاعب النرد. لا شيء يملكه ليخسره. هو يعلم أنه الخاسر الأكبر في أي تسوية أو إصلاح داخلي. سيغامر الرجل حتى النهاية في لعبة صفرية النتائج بالنسبة له.

الأشهر الثلاث القادمة ستكون حاسمة في بيروت. بيروت دخلت دائرة العصف الأمني. سحب من الدخان سترتفع في المنطقة وستصل آثارها إلى لبنان. الأكيد أن بيروت عام 2020 ليس نفسها عام 2003 تاريخ صدور قرار الـ1559. لا شرق أوسط جديد بالنسبة للأميركيين. أكثر ما يفكر به ترامب أن يخرج بعد هذه الأشهر بصورة المنتصر. لا رهان استراتيجي للإدارة الأميركية على لبنان. من المهم أن يعي أهل القرار السياسي في لبنان ذلك. والأهم هو أن يعوا أن لا دمشق اليوم هي نفسها عام 2003، ولا بغداد ولا صنعاء ولا طهران. والأهم من ذلك كله أنه في لعبة صفرية النتائج (يكسب الرابح فيها ما يخسره الآخر) لا مكان للنرد فيها هذه المرة.

"

رئيس تحرير صحيفة الخندق